في عام 1991م، قذف بركان جبل بيناتوبو في الفلبين حوالي 20 مليون طن من الكبريت إلى الغــلاف الجوي العلوي، وهو ما أدى إلى حجب أشعة الشمس عن الأرض وانخفاض معدل درجات الحرارة العالمية بنحو نصف درجة مئوية في عام واحد. فدفع ذلك العلماء إلى إعادة الاعتبار لنظريات عالِم المناخ الروسي ميخائيل بوديكو، المتعلقة بظـاهرة الاحترار وبمشاريع التحـكُّم في الإشعاعات الشمسية 1972م؛ للنظر في إمكانية محاكاة ظاهرة البركان في مشاريع اصطناعية تُخفِّف من ظاهرة الاحترار الكارثية. فشهد الوسط العلمي على مدى أكثر من ثلاثة عقود انقسامًا حادًا بين مؤيد لهذه المشاريع ومعارض لها. إذ أنشأت، على سبيل المثال، جامعة هارفارد برنامجًا مؤيدًا لتنفيذ مثل هذه المشاريع، بينما أنشأ معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا برنامجًا آخر لإثبات ضررها. وفي وقت لم يجد أي من هذه المشاريع طريقه إلى التنفيذ، بدأ العلماء بالتفكير في إيجاد حلول مبتكرة وغير تقليدية، تبدو وكأنها من نسج الخيال.
هناك اليوم ما يُشبه حالة الإجماع العلمي بين العلماء على أن ظاهرة الاحترار العالمي هي حقيقية ومستمرة. وأكد فريق دولي من الباحثين في دراسة حديثة نُشرت في مجلة “نيتشر” في 14 أكتوبر 2024م، “أن عام 2023م كان العام الأكثر دفئًا منذ عام 1850م بفارق كبير، وأن أكثر الأعوام العشرة دفئًا في السجل التاريخي حدثت جميعـها في العقد المـاضي (2014م – 2023م)”. كما يُجمع هؤلاء على أن هذه الظاهرة تشكِّل خطرًا على مستقبل الحياة على الأرض، ويجب أخذ إجراءات للحد منها.
توقعات مبكرة
استنتج عالم المناخ الروسي ميخائيل بوديكو، في عام 1972م، من خلال أبحاثه الجدية، أن زيادةً مقدارها بضعة أعشار في المائة من الإشعاع الشمسي، قد تؤدي إلى ذوبان القمم الجليدية. إضافة إلى ذلك، فإن زيادة مقدارها %50 في الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي قد تؤدي إلى ذوبان كل الجليد القطبي. في حين أن انخفاض هذه الغازات إلى النصف “قد يؤدي إلى تجمُّد الأرض بالكامل”. وقد أثبتت هذه التوقعات المناخية في السنوات التي تلت ذلك أنها كانت صحيحة بشكل مدهش.
لمواجهة هذه المخاطر بمشاريع عملية طرح ميخائيل بوديكو، فكرة إدارة الإشعاع الشمسي بشكل اصطناعي باستخدام الهباء الجوي الكبريتي في طبقة الستراتوسفير، وهي الطبقة العليا من الغلاف الجوي، إذا أصبح الانحباس الحراري العالمي قضية ملحة. لكن مقترحاته لم تلقَ الاهتمام الكافي، آنذاك؛ لأن معظم العلماء لم يكونوا مقتنـعين بظاهرة الاحترار أصلًا. وفي بعض الأحيان، أُطلِق على مثل هذه المقترحات المثيرة للجدل في مجال هندسة المناخ تعبيرٌ متهكِّمٌ: “بطانية بوديكو”. ولكن كل ذلك تغيَّر بعد ثوران بركان بيناتوبو، وازدهرت الأبحاث المتعلقة بظاهرة الاحترار وكيفية مواجهتها.
إزاء ذلك، طرح العلماء عدة طرق لتطبيق فكرة تعديل الإشعاع الشمسي لخفض كمية الطاقة الشمسية التي تصل إلى الأرض. لكن، يجب الإشارة هنا إلى أن مشاريع عكس أشعة الشمس باستخدام الغازات في الغلاف الجوي لها سلبيات وإيجابيات، وقد أيدها علماء وعارضها علماء آخرون. وهي ليست الحل الأمثل لمعالجة الاحترار العالمي، ولكن إذا كان بإمكان هذه المشاريع منح البشر بعض الوقت للاعتماد بشكل أكبر على الطاقة النظيفة، فقد يكون شيئًا جديرًا بالمحاولة. ومن أهم هذه المشاريع:
تجربة علماء جامعة هارفارد
تُعد تجربة علماء جامعة هارفارد لمعالجة تغيّر المناخ بطريقة حجب أشعة الشمس، أول محاولة فعلية للتحكُّم في درجة حرارة الأرض من خلال الهندسة الجيولوجية، كما جاء في مقال نشرته مجلة “فوربس” (Forbes) الصادر في 5 ديسمبر 2018م.
سُمِّي المشروع المُعد لتطبيق هذه الفكرة “تجربة التحكم في الاضطرابات في طبقة الستراتوسفير” (SCoPEx). ويتلخص بإطلاق بالون اختباري قابل للتوجيه على بعد 20 كيلومترًا في طبقة الستراتوسفير. وبمجرد وضع البالون في مكانه، كان سيُطلق جزيئات صغيرة من كربونات الكالسيوم يمكن التحكُّم في كمياتها وتوقيت إطلاقها. وعلى الرغم من قدرة النماذج الحاسوبية على توقّع تأثيرات تقنية الهندسة الجيولوجية، فإن مدى قدرتها على التنبؤ محدود. لذلك لا بدَّ من إجراء اختبار في العالم الواقعي للتأكد بشكل قاطع من التأثيرات طويلة الأمد لهذه التقنية.
لكن المشروع واجه العقبة تلو الأخرى، كما واجه انتقادات من العلماء المعارضين لمثل هذه المشاريع كما سنرى. وفي 18 مارس من عام 2024م، أعلنت جامعة هارفارد عن إغلاق هذا البرنامج، وأعلن الباحث الرئيس في المشروع فرانك كوتش، إنه “لم يعد يواصل التجربة” من دون أن يوضح موقفه هذا.
مشروع علماء الاتحاد الأوروبي
اقترح مجموعة من العلماء في الاتحاد الأوروبي عدة طرق محتملة لتعديل الإشعاع الشمسي عرضها تقرير لقناة “يورونيوز” الإخبارية في 5 يوليو 2023م. وإذا جرت الموافقة على اقتراحاتهم، فستقوم 125 طائرة تُحلق على ارتفاعات عالية، أو إطلاق بالونات على نفس الارتفاع، برش الهباءات بشكل دوري في الغلاف الجوي عند خطوط عرض 60 درجة شمالًا وجنوبًا.
أبرز تلك الطرق نثر هباءات ثاني أكسيد الكبريت في طبقة الستراتوسفير؛ لتعكس جزءًا من أشعة الشمس نحو الفضاء، في محاكاة للتبريد الذي نجم عن الانفجارات البركانية. ومن إيجابيات هذه الطريقة أنها تُعدُّ من أكثر الطرق المطروحة فعالية؛ لكنها تؤثر سلبًا في طبقة الأوزون وتسبِّب تغيرات غير متوقعة في أنماط الطقس.
الطريقة الثانية هي تلميع السحب البحرية المنخفضة فوق المحيطات برش جزيئات الأملاح في الهواء مثل كربونات الكالسيوم، أو ثاني أكسيد الكبريت، أو غيرهما من الجسيمات العاكسة. عندئذٍ ستعكس هذه السحب مزيدًا من ضوء الشمس إلى الفضاء. لكن إيجابياتها تقتصر على المحيطات، وهو ما قد يقلل من التأثيرات المباشرة على اليابسة؛ بينما لا تُعرف عواقب هذه العملية في المستقبل على النظم البيئية البحرية والمناخ العالمي.
وهناك فكرة استخدام مرايا فضائية أو دروع عاكسة في الفضاء بعيدًا عن الأرض؛ لصد جزء من أشعة الشمس قبل نفاذها إلى الأرض. وعلى الرغم من فعاليتها العالية في تقليل أشعة الشمس بشكل مباشر، فإن كلفتها باهظة جدًا، ويصعب تنفيذها على نطاق واسع.
بعض مشاريع حجب الشمس أقرب إلى الخيال العلمي، ولكن النظريات تُثير انقسامات في صفوف العلماء حول جدواها ومخاطرها.
كما يُمكن نشر جسيمات عاكسة في التروبوسفير، أو الطبقة الأولى من الغلاف الجوي والأقرب إلى الأرض، وذلك من خلال تقنية تشبه طريقة حقن الهباءات الكيميائية، لكن تُستخدم فيها مواد مختلفة مثل غبار الكربونات. ومع أن هذه الطريقة أقل تكلفة، فإنه يُحتمل أن تُسبِّب تغيرات غير متوقعة في المناخ المحلي ومشكلات صحية.
وهناك الطريقة الأقل كلفة، لكن الأقل فعالية أيضًا، وهي تعزيز الانعكاس في أسطح الأرض التي تعتمد على تغيير السطوح الطبيعية للأرض؛ لزيادة قدرتها على عكس الضوء، مثل نثر كيميائيات عاكسة، أو تغيير أنواع المحاصيل.
استمرار التحديات
في كل الأحوال، يتفق كثير من العلماء على أن هذه التقنيات يجب أن تُدرس بعناية؛ إذ يمكن أن تُسبِّب تأثيرات جانبية فادحة مثل تغيُّر أنماط الطقس والإضرار بالنظم البيئية. وتأكيدًا على ذلك، نشرت مؤسسة “بوليتيكو” الإخبارية في 27 فبراير 2023م، تقريرًا عن فريق مستقل من الباحثين المناهضين لمشروع حجب أشعة الشمس، كتب رسالةً في عام 2022م، جمعت أكثر من 370 توقيعًا لعلماء من أكثر من 50 دولة، يدعون فيها إلى اتفاق دولي لحظر الهندسة الجيولوجية الشمسية والأبحاث المتعلقة بها.
ذلك أن خطة حقن الهواء بالهباء الكيميائي يكتنفها بعض الآثار الجانبية السيئة. أكثرها وضوحًا هو أن ثاني أكسيد الكبريت سام، وحقنه عمدًا في الغلاف الجوي يمثِّل مصدر قلق؛ لأن تنفسه يؤدي إلى نتائج مدمرة للبشر. فإذا تجاوز مستوى ثاني أكسيد الكبريت في الهواء 20 جزءًا في المليون، فسيكون الجهاز التنفسي في خطر. وإذا زاد ما بين 50 و100 جزء في المليون، يمكن للإنسان احتماله مدةً تُراوح بين 30 و60 دقيقة. لكن إذا ارتفع عن هذا المستوى واستمر فترة أطول، فسيكون التنفس صعبًا وقد يؤدي إلى الوفاة.
برنامج معهد ماساتشوستس
وفي نفس هذا السياق، ركَّز برنامج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا للهندسة الجيولوجية الشمسية منذ إنشائه على الجوانب السلبية لمثل هذه المشاريع. وتوصَّل إلى استنتاج مبكر في عام 2020م، مفاده أن هذه الهندسة يُمكن أن تغيِّر بشكل كبير مسارات العواصف فوق المدارية، وهي المناطق الواقعة بين خطوط العرض المتوسطة والعالية، حيث تتشكل العواصف على مدار العام وتوجهها التيارات النفاثة عبر المحيطات والأرض.
حلول أشبه بالخيال
والحال أن النتيجة المخيبة التي توصَّلت إليها كل هذه الجهود العلمية الجبارة، دفعت العلماء حديثًا إلى تبني حلول هي أشبه بالخيال.
فقد خلُصت دراسة نشرتها جامعة يوتا، في 8 فبراير 2023م، إلى أن إطلاق الغبار من سطح القمر، بواسطة منشآت إطلاق تُبنى على سطحه، باتجاه إحدى “نقاط لاغرانج”، يُمكن أن يقلل من كمية الإشعاع الشمسي بشكل كافٍ لتخفيف سخونة الأرض. والتقنية الواعدة أكثر من غيرها التي توصلوا إليها، تتضمن إطلاق كمية هائلة من الغبار من سطح القمر نحو هذه النقطة، وهي واحدة من خمس مناطق في الفضاء، حيث تلغي جاذبية الأرض والشمس الواحدة منهما الأخرى. وهناك، تبقى الأجسام، مثل سحابة هائلة من غبار القمر، في مكانها بشكل أساس وتحجب حوالي %1.8 من ضوء الشمس؛ أي ما يعادل حوالي ستة أيام من ضوء الشمس في السنة. لكن الأمر سيستغرق 10 مليارات كيلوغرام من الغبار سنويًا للقيام بذلك، كما جاء في الدراسة.
من الناحية النظرية، يرى عالم الفيزياء الفلكية النظرية في جامعة يوتا، بنيامين بروملي، والمؤلف المشارك في الورقة البحثية الجديدة، أن إطلاق الغبار من سطح القمر أسهل من إطلاقه من الأرض نظرًا لضعف جاذبية القمر.
إلى ذلك، أوردت الإذاعة البريطانية في 11 مايو 2016م، حلولًا أخرى، مثل إقامة مظلة عملاقة تقينا من الشمس، تُنصب في الفضاء عند نقطة لاغرانج الأولى، وهي عبارة عن حـاجز زجاجي هائل الحجم يبلغ اتساعه 2000 كيلومتر، أو 1000 مرآة مدعّمة بشبكة من الأسلاك أو حلقة تحيط بالكوكب مكوَّنة من مظلات صغيرة. كما اقترح أيضًا عـالم الفلك الأمريكي روغر أنجل، إطلاق 16 تريليون روبوت فضائي طائر، يزن كلٌّ منها نحو غرام واحد، تعمل على حرف ضوء الشمس باستخدام شريط شفاف يحوي ثقوبًا دقيقة.
كانت هذه بعض الحلول النظرية لإنقاذ الأرض من ارتفاع حرارتها، وكلها تبدو في الوقت الحاضر بعيدة المنال. ولكن، كم من نظرية أو فكرة بدت عند ظهورها غير قابلة للتطبيق وأصبحت لاحقًا حقيقة ملموسة؟ أمَّا كلمة الفصل، فهي من المقارنة بين التكاليف الباهظة لمثل هذه المشاريع، وتكاليف ترشيد استهلاك الطاقة والحد من كل أشكال التلوث على سطح الأرض.
اترك تعليقاً