مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2024

مدرب الحياة
ازدهار مهنة غير واضحة المعالم


مهى قمر الدين

رغم دخول مفهوم “مدرب الحياة” إلى المشهد العالمي في ثمانينيات القرن الماضي، ليصبح شكلًا معتمدًا من أشكال العلاج بالكلام، ومن ثَمَّ انتشاره في عالمنا العربي بشكل واسع منذ زمن ليس ببعيد؛ تبقى هذه المهنة غير واضحة المعالم وغير مفهومة بالنسبة إلى شريحة واسعة من الناس، لا من حيث مهمات مدرب الحياة، ولا من حيث مؤهلاته، ولا حتى من حيث قدرته الفعلية على مساعدة الناس على التغلب على مشكلاتهم المتنوعة. ولذا، كان لا بد من استكشاف ماهية التدريب على الحياة من خلال محاولة الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الأساسية التالية: من أين بدأ مفهوم التدريب على الحياة؟ وأين كانت جذوره؟ وما هي بالتحديد مهام مدرب الحياة؟ وهل يمكننا بالفعل التدريب على الحياة؟ وما الجوانب الحياتية التي يعنى بها؟ بماذا يختلف التدريب على الحياة عن العلاج النفسي؟ وهل هناك حدود فاصلة واضحة بين هاتين المهنتين المساعدتين؟ وإلى ماذا تشير الزيادة الكبيرة في أعداد من يمتهنون هذه المهنة في العالم، وكذلك أعداد الناس الذين يلجؤون إليهم؟

لمَّا كان مفهوم مدرب الحياة (Life Coach) مفهومًا غربيًا تشكّلت جذوره الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية، فإننا إذا ما أردنا أن نعرف أصل تسميته، فعلينا الرجوع إلى كلمة “Coach” أو مدرب كما تُسمَّى باللغة الإنجليزية. فأصل هذه الكلمة يعود إلى منتصف القرن السادس عشر، حيث كانت الكلمة تعني عربة كبيرة مغطاة بأربع عجلات، وقد جاءت من المصطلح الفرنسي (coche) والألماني (kotsche)، وأيضًا من الكلمة المجرية (kocsi)، وكلها كلمات تعني العربة، وقد سُمّيت كذلك نظرًا لأن العربات كانت تُصنع في بلدة “كوكس” (Kocs) الصغيرة في المجر.

أمَّا مصطلح المدرب (coach) الذي نستخدمه اليوم، فقد نشأ في جامعة أكسفورد الإنجليزية في عام 1830م، حيث كانت هذه الكلمة في ذلك الوقت، وفقًا لقاموس علم أصول الكلمات، مصطلحًا عاميًا للمعلم الذي “ينقل” الطالب خلال الامتحان (وهي استعارة من معنى العربة التي تنقل)؛ أي أنه مدرس خاص يساعد الطالب على النجاح في الامتحان. ومن ثَمَّ، ظهر مصطلح المدرب الرياضي في القرن التاسع عشر، ثم انتقل إلى التدريب في مختلف أنواع الفنون؛ إذ تكون مهمة المدرب مساعدة الأشخاص على تحسين أدائهم والوصول إلى مستويات أفضل من الإنجاز. أمَّا مفهوم مدرب الحياة كما نعرفه اليوم، فقد ظهر في ثمانينيات القرن الماضي بعد أن أدرك المدربون الرياضيون ومديرو الفرق الرياضية أن الثقة بالنفس والصحة النفسية والتصميم لدى اللاعبين، كانت كلها جزءًا لا يتجزأ من نجاح اللاعبين، تمامًا مثل الموهبة الطبيعية والمهارات التقنية. لهذا السبب، ولأن مصطلح مدرب الحياة جاء من عالم الرياضة، سُمّي بالتدريب على الحياة عوضًا عن “الاستشارة” أو “المشورة” أو “الإرشاد”.

أول ما دخل التدريب على الحياة إلى مجالس إدارة الشركات الكبرى، حين أدركت أن مديريها التنفيذيين يمكنهم الاستجابة بطرق مماثلة للرياضيين. ولذلك، ومن أجل إطلاق كامل إمكاناتهم واتخاذ أفضل القرارات في مجال عملهم، ساعدت تلك الشركات المديرين والموظفين على التعامل مع قضاياهم التي تؤرقهم خارج العمل. وفي وقتنا الحالي، أصبح التدريب التنفيذي والإداري والمهني متاحًا لجميع الموظفين في الشركات الكبرى كجزء من ثقافة أعمالهم.

ومن مجال الأعمال، دخل مفهوم مدرب الحياة إلى مختلف المجالات الحياتية؛ ليحقق بالفعل تسميته بكونه مدربًا للحياة، فتطور وأصبحت له فئات فرعية عديدة منها: تخطيط الحياة، وتعزيز رؤية الحياة، والرعاية الذاتية القصوى، والروحانيات، والعلاقات، والصحة واللياقة البدنية، والإبداع، والاستقلال المالي، والتنظيم، والأطفال، والمراهقون، وطلاب الجامعات، واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط، حتى الإدمان وغيرها من الفئات الأخرى. وبالفعل، لاقت تلك المهنة رواجًا كبيرًا، وازدادت أعداد من يمتهنونها في مختلف أنحاء العالم؛ مما أدى إلى تأسيس “الاتحاد الدولي للمدربين” (ICF) في عام 1992م، وهو مؤسسة تهتم بتمثيل التميّز ودعمه في مجال الأعمال والتدريب الشخصي في جميع أنحاء العالم.

تحديد المهمة

ولكن، ما هو بالضبط التدريب على الحياة؟ وفقًا للاتحاد الدولي للمدربين: “التدريب على الحياة هو شراكة مستمرة تساعد العملاء على تحقيق نتائج مُرضية في حياتهم الشخصية والمهنية؛ إذ يستطيع العملاء من خلال عملية التدريب، تعميق تعلمهم وتحسين أدائهم ونوعية حياتهم. وبدءًا من رغبات العملاء، يلجأ المدربون إلى إعداد التقارير والاستكشاف والالتزام الثابت مع العملاء لدفعهم إلى الأمام، فيعملون على تسريع تقدمهم من خلال توفير قدر أكبر من التركيز والوعي فيما يتعلق بخياراتهم الحياتية. كما يركز التدريب على مكان وجود العملاء في الوقت الحاضر، وما هم على استعداد للقيام به للوصول إلى حيث يريدون أن يكونوا في المستقبل”.

يعمل مدربو الحياة مع الأفراد الذين يتطلعون إلى طرق مختلفة للوصول إلى أهدافهم المحددة، سواء أكان الأمر يتعلق بالعمل أم بالمجال الشخصي أم العائلي. فيكون المدربون شركاء تفكير غير متحيزين، يساعدون عملاءهم على استكشاف مكامن غير مستغلة لديهم متعلقة بالخيال والإنتاجية والقيادة. وذلك يكون عادة من خلال عقد جلسات أسبوعية أو نصف أسبوعية مدتها ساعة واحدة. وفي هذا الإطار، هناك من يشبّه عمل مدرب الحياة الناجح بعمل النحّات الذي يتطلع إلى أعماق الشخص الذي يكون أمامه، ويعمل على مساعدته على إظهار أفضل ما عنده، على طريقة مايكل أنجلو حين قال: “رأيت الملاك داخل الرخام، ونحتّ حتى أطلقت سراحه”.

أمَّا الأشخاص الذين يلجؤون إلى مدربي الحياة، فعادة ما يكونون أولئك الذين يشعرون بأنهم عالقون في مكان واحد في حياتهم، ولا يستطيعون التقدم إلى الأمام، أو يحتاجون إلى نهج جديد، أو تغيير في حياتهم، أو إلى تحديد أهدافهم، أو أنهم يمرون بمرحلة انتقالية، أو لا يحصلون على النتائج التي يريدونها. ومن ثَمَّ، فهم بحاجة إلى من يساعدهم على إيجاد طريقة جديدة في التفكير، حتى يغيروا حالهم إلى حال أفضل، وذلك توافقًا مع ما قاله ألبرت أينشتاين ذات مرة إنه: “لا يمكن حل المشكلات بمستوى التفكير نفسه الذي أوجدها”. وبشكل محدد أكثر، يمكن لمدرب الحياة مساعدة أي شخص في الإقدام على إنشاء عمله الخاص، أو التعايش مع مرض مزمن، أو إدارة أموره المالية بشكل أفضل، أو تطوير قدراته الخطابية، أو تحسين مستوى التعاون بين فريق العمل في أي مؤسسة ما… إلخ.

من الناحية العلمية، تشير عدة دراسات حديثة إلى أن ما يقدّمه مدربو الحياة لأولئك الأشخاص، هو تعزيز ما يُسمّى بـ “رأس المال النفسي” الذي يحمل أربعة أبعاد مهمة، وهي: الكفاءة الذاتية والأمل والتفاؤل والمرونة.

فالكفاءة الذاتية هي الإيمان والثقة بالقدرات الشخصية، بحيث تزداد عندما يحدد الأفراد الأهداف، وعندما يفكرون في كل ما مروا به من تجارب ناجحة.

والبعد الثاني المتمثل في الأمل، هو حالة تحفيزية تتميز بالإحساس بالقدرة على تحقيق الأهداف، بحيث تتجلى في عنصرين مترابطين: الشعور بالقوة، وفهم كيفية إحداث التغيير. وهذا ما يساعد مدربو الحياة على تحقيقه.

والبعد الثالث، وهو التفاؤل الذي ينطوي على إسناد إيجابي للمستقبل، وكما ذكر الباحثان في رأس المال النفسي كارولين م. يوسف – مورغان وفريد لوثانز: “يستلزم التساهل مع الماضي، وتقدير الحاضر، والبحث عن الفرص للمستقبل”.

والبعد الأخير، هو المرونة التي تتضمن القدرة على التعافي بسرعة وفعالية من الظروف المعاكسة. وما يساعد عليه مدربو الحياة في هذا المجال، هو تحفيز الشخص على البحث بشكل استباقي عن موارد مفيدة وإدارة ظروفه على نحو إيجابي، والتأقلم من خلال إعادة التقييم المعرفي.

بين العلاج والتدريب على الحياة.. حدود مربكة

من جانب آخر، هناك مسألة مهمة تتعلق بالتدريب على الحياة عندما نسأل: هل التدريب على الحياة علاج أم هو مجرد تدريب؟ وهل هذا يهم؟

في عالم التدريب على الحياة يُستشهَد بشعار يقول: “التدريب ليس علاجًا”. ولكن الوصف الذي غالبًا ما يُعطى للتدريب يطرح سؤالًا حول أين ينتهي التدريب على الحياة ويبدأ العلاج. ومن غير المستغرب، أن يخلط الناس بين هاتين المهنتين المساعدتين. فعند التمييز بين التدريب والعلاج النفسي يُسلَّط الضوء على العديد من المسائل الأساسية، من بينها أن التدريب مسألة تعاونية، بحيث أن المدرب لا يعرف دائمًا الأفضل، كما أنه لا يتعاطى مع الماضي، وكل المشكلات النفسية التي كانت حاضرة فيه. فهو موجِّه نحو النتائج، ويهدف إلى تعظيم القدرات، وليس معالجة المشاعر، وهو قصير المدى ومحدد التركيز، كما أنه غير رسمي، بما في ذلك ما يتعلق بوقت الجلسة ومكانها والتواصل بين الجلسات، والإفصاح الذاتي من قبل المدرب. وهو مخصص للأفراد الذين لا يعانون مرضًا نفسيًا، ولا يتضمن “وصمة العار” التي قد تصاحب علاج الصحة العقلية. مع ذلك، فإن هذه الفروق لا تكاد تفصل بين التدريب على الحياة والعلاج النفسي كما يُمارس عادة اليوم؛ ذلك لأنه منذ عدة عقود مضت، حوَّل العلاج السلوكي المعرفي مركز القوة بعيدًا عن المعالج الذي يعرف كل شيء لصالح نهج قائم أكثر على التعاون بين المريض والمعالج اللذين يعملان معًا كفريق واحد.

إضافة إلى ذلك، ورغم الاستمرار في الدفاع عن حدود واضحة مع المرضى والتحذير من الارتباط بهم في أدوار أخرى، فقد تطوّر مجال العلاج النفسي نحو شكليات أقل صرامة حول وقت الجلسة ومكانها والوصول إلى المعالج بين الجلسات. ويرجع ذلك جزئيًا إلى تدخلات الطب النفسي عن بُعد، التي تتيح خيارات علاجية أكثر مرونة من النماذج التقليدية. لذلك، عندما يتعلق الأمر بالتعاون مع العملاء بروح الفريق أو اعتماد نهج ذي نظرة مستقبلية، ومختصر ومركّز وغير رسمي نسبيًا، لا يمكن القول إن التدريب على الحياة يختلف بشكل كبير عن العلاج النفسي.

أمَّا فيما يتعلق بالتمييز بين العلاج النفسي على أساس الصحة النفسية للعملاء ووصمة العار المصاحبة له، فإن الحجة القائلة إن مدربي الحياة يعملون مع أفراد يتمتعون بصحة جيدة، في حين يتعامل المعالجون النفسيون مع أفراد مصابين بأمراض عقلية؛ تحمل افتراضًا شديد الخطر، وهو أن المدربين قادرون على تشخيص المرض العقلي وإحالة المرضى إلى مكان آخر قبل البدء بالتدريب. ولكن بالنظر إلى أن غالبية المدربين لم يتلقوا تدريبًا رسميًا في مجال الصحة العقلية، حتى يتمكنوا من تشخيص الأمراض العقلية، فمن المتصوّر أن تُغفَل الحالات النفسية الخطِرة. وكل ذلك يعني أن الحدود الفاصلة بين هاتين المهنتين المساعدتين، تبقى مربكة إلى حد بعيد؛ مما قد يخلق مشكلات على صُعُد مختلفة.

مهنة غير منظمة

هناك مشكلة أخرى تُضاف إلى مهنة التدريب على الحياة، وهي أنها مهنة غير منظمة، وليس لها معايير محددة ولا مجالس رقابية، ولا قواعد أخلاقية، ولا مناهج موحدة، بحيث لا تتطلب أي تعليم رسمي أو أي تدريب أو شهادة مُعترف بها؛ مما يسمح تقريبًا لأي شخص أن يُسمّي نفسه مدربًا على الحياة.

ومع ذلك، فقد نمت هذه المهنة إلى مستوى صناعة فاقت قيمتها أربعة مليارات دولار أمريكي في عام 2022م، وذلك بحسب التقرير الصادر عن الاتحاد العالمي للمدربين في 2023م، مع عدد مدربين وصل إلى 109,200 في جميع أنحاء العالم. وقد لا يكون هذا النمو الكبير مستغربًا في عالم اليوم سريع الإيقاع وكثير المتطلبات، بحيث يشعر الناس فيه بالإرهاق والضياع في جو من التعقيدات الحياتية المتواصلة والسعي المستمر إلى تحقيق الذات. كما أنه نمو مُرحّب به، شرط وجود نقاش عالمي حول قضايا الصحة العامة؛ للمساعدة على تحديد ما يجب أن تشمله وألا تشمله مهنة التدريب على الحياة، وتقدير إمكاناتها وقيودها بشكل أفضل. فمثل هذا النقاش لن يحمي العملاء والمرضى فحسب، بل إنه سيساعد على ضمان النمو الصحي لخدمة جديدة واعدة.


مقالات ذات صلة

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.

وعينا ومشاعرنا تشكلت من خلال التفاعل الحقيقي مع الطبيعة، وأن الابتكارات التكنولوجية وُلدت من تجارب حية مع العالم الطبيعي..

موسكو مدينة تترك بصمة لا تُنسى على زوَّارها. مدينة نابضة بالحياة، نظيفة، آمنة، ودودة، وتستقبل العائلات والسيَّاح بحرارة.


0 تعليقات على “مدرب الحياة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *