إضافة إلى مؤلفاته التي تُرجِم بعضها إلى نحو ثلاثين لغة، أدَّى الشاعر والروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922م – 1993م)، دورًا أكاديميًا بارزًا في المغرب العربي، لم يقتصر على الإسهام في النهوض ببنية التعليم الجامعي في الرباط، بل تجاوزه إلى تطوير مناهج التفكير عند جيل جديد من الجامعيين الشبان المغاربة، وذلك بموازاة استمراره في العطاء الأدبي والفلسفي، وصولًا إلى إطلاق ما سمَّاه “الشخصانية الإسلامية”.
عندما عاد محمد عزيز الحبابي من فرنسا، بعد أن نال من جامعة السوربون شهادة الدكتوراة عام 1954م، وكانت رسالته بعنوان “من الكائن إلى الشخص.. دراسات في الشخصانية الواقعية”، عُيِّن أستاذًا فعميدًا في كلية الآداب بالرباط؛ حيث كان عليه أن يضع أسس بنائها الحديث، وأن ينظِّم مختلف أقسامها، بما في ذلك قسم الفلسفة على وجه الخصوص، ويفتح الأبواب أمام جيل الشباب المغاربة الذين كانوا يعودون إلى الوطن، بعد أن نالوا شهاداتهم العليا في المشرق، ويستقطب أساتذة أكفاء كانوا في البداية من المشارقة، الذين كان قد تعرَّف عليهم أثناء دراسته في باريس. ومن بين هؤلاء السوري هاشم حكمت، الذي كان قد حصل هو أيضًا على الدرجة العلمية نفسها مترجِمًا كتاب الغزالي “ميزان العمل” عام 1945م، والمصري نجيب بلدي، الذي كان قد نشر وقتئذٍ باللغتين العربية والفرنسية دراسات حول مدرسة الإسكندرية، وحول الفيلسوف بيركلي، وحول “مذاهب الفكر الأخلاقي” و”ثوابت الفكر الفرنسي”.
يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في مقال كتبه عندما رفض سارتر جائزة نوبل، يعقد فيه مقارنة بين من يدعوهم “المفكرين الأحرار”، ومن يُسميِّهم “الأساتذة العموميين”، ملمِّحًا إلى سارتر وميرلوبونتي: “إن المفكِّرين الأحرار يعارضون، بوجه ما، الأساتذة العموميين… وإن الطلبة لا يستمعون جيدًا إلى أساتذتهم إلا حين يكون لهم أيضًا معلِّمون آخرون… للمفكِّرين الأحرار خاصيتان: نوع من الفرادة التي تلازمهم في كل حال، ولكن أيضًا شيء من الاضطراب، شيء من فوضى العالم الذي منه ينبجسون، وضمنه يتكلَّمون”. لذا، “فمهما كانت أعمال ميرلوبونتي لامعة وعميقة، فإنها كانت تحمل صبغة الأستاذ، وتابعة لأعمال سارتر من أوجه عدَّة”.
نذكر هذا المقطع، وهذه المقارنة بالضبط، لاستحضار صورة الأستاذ العميد مقترنةً بالأستاذ نجيب بلدي الذي درَّسنا، إلى جانب الأستاذ الحبابي، خلال سنوات الإجازة وما بعدها، والذي تشاء الصُّدف أن يكون هو أيضًا تلميذًا لميرلوبونتي، وذلك شعورًا منَّا أن دولوز يكاد يقارن أيضًا بين هذين الأستاذين المُبجَّليْن.
المقصود بمفردة “الفوضى”
من بين الألفاظ المثيرة في المقطع المذكور آنفًا كلمة “فوضى”. لا ينبغي أن نفهم من الكلمة هنا ربطًا بالنزعة الفوضوية التي نُعت بها سارتر، وإنما هي هنا أقرب إلى الفوضى البيداغوجية؛ أعني عدم تقيُّد الدرس الفلسفي بقواعد تعليمية هي أقرب إلى روح الكتب المدرسية التي تحرص على الإلمام المستوفي بتاريخ الفلسفة، وتتعامل مع نصوصـه بنوع من التقديس، فتُهيِّئ للطالب درسًا جاهزًا لا يتبقَّى عليه إلا استظهاره.
مقابل هذا “الانضباط” التربوي، ينفتح المفكر الحرُّ على “شيء من الاضطراب، شيء من فوضى العالم”. هنـا تُرفع عن نصوص تاريخ الفلسفة قدسيتها، ولا يغدو المعلم “يمثِّل شيئًا” على حدِّ تعبير دولوز؛ أي أنه لا يكون صاحب مذهب، ولا حتى صاحب رأي، وإنما يجعل من درس الفلسفة تمارين على التفكير الفلسفي.
نستطيع أن نتبنى هنا ما يقوله دولوز عن سارتر وصفًا للحبابي مدرِّسًا. في دروس الحبابي لم يكن المتلقي يحسُّ أنه يُحصِّل ويتلقَّى، بقدر ما يشعر أنه “يتحرَّر”، مستعيرين الكلمة من أحد عناوين كتب الأستاذ نفسه: “أهي حرية.. أم تحرُّر؟” (1956م). يسعى هذا النوع من الدروس أساسًا إلى أن ينقلَ الطالب “من المنغلق نحو المنفتح” (1963م)، كما يقول عنوان كتاب آخر. فكأن الأستاذ الحبابي كان بمنزلة سقراط قبل أكاديمية أفلاطون، وخارجها، وتمهيدًا لها.
الأهمية التي أولاها للترجمة
في هذا الإطار، كانت تُعقد صباح كل أربعاء حلقةٌ تضم قسمي الفلسفة العربي والفرنسي (نقول حلَقة، لأن الأستاذ الحبابي كان يفضل أن يجلس بين الطلبة وهم على شكل نصف دائرة، من غير تدرُّج، ونكاد نقول خارج النظام المعهود)، للتمارين على الترجمة التي كانت تجمع كلَّ دلالاتها الفوضوية والتحرُّرية، لكن أيضًا دلالاتها التدقيقية التي كانت تروم البحث عمَّا كان الأستاذ الحبابي يدعوه “اللطائف” (nuances)، التي كان يحبُّ أن يترجمها بـ”لُويْنات”، والمقصود بذلك تذوُّق الكلمات للإحساس بطعمها، والوقوف عند “لُويْناتها”. ولعلَّ من بين الأفضال الكبرى للأستاذ الحبابي في هذا الباب، سواء على كلية الآداب، أو على شعبة الفلسفة الفتية، بوصفه عميدًا لها، هو سَنُّ الترجمة مادةً أساسية وإجبارية في الامتحان الكتابي في شهادات الإجازة جميعها، وكذا في الشهادتين اللتين تعقبانها.
لا ينبغي أن تذهب بنا كلمة “فوضى” بعيدًا وتخرجنا عن بيداغوجيا الدَّرس الفلسفي. إذ يجب ألَّا نُغفل الصَّرامة التي كان الأستاذ العميد يُبديها إزاء سير الدروس، التي أرسى بفضلها أسس كلية حديثة، وأقام قسمًا للفلسفة كان يريده أن يكون ندًّا للأقسام التي درَس وتخرَّج فيها. غير أن هذه الصرامة لم تكن خالية من مسحة وجدانية كانت تتجلى في شغفه بالتدريس، وفي تقرُّبه الدائم من الطلبة واحدًا واحدًا، بهدف أن يغرس فيهم أن الفلسفة هي قبل كل شيء تفكير حرٌّ، لكنها كذلك محبَّة وصداقة.
من نتائج التفكير الحر
هذه “الصداقة” هي التي جمعته في فرنسا سنواتٍ مع “حركة فكر”، التي جعلته يتعرَّف عن قرب على “النزعة الشخصانية”. كانت هذه الحركة تضم مجموعة من الفلاسفة الذين كانوا يلتفون حول مجلة “إيسبري” (فكر)، التي كانت تصدر في العاصمة الفرنسية بدءًا من عام 1932م. والشخصانية، كما يصفها الحبابي نفسه في أطروحته، وعلى لسان زعيمها عمانوئيل مونيي، لم تكن منظومة فلسفية، بقدر ما كانت “مجموعة انضواءات ومواقف يتخذها المرء إزاء عالم اليوم”. كما أن مجلة “فكر” لم تكن مجلة منغلقة، وإنما كانت منبرًا يلتقي فيه المؤمن بغير المؤمن، سعيًا وراء إقامة أرضية مشتركة تتقاطع فيها وجهات النظر، وتتقارب فيها القيم، وتتلاقى المنظورات.
ويبدو أن هذه المسحة المتحررة والمنفتحة قد استهوته، كما يبدو أنه كان يحسُّ أن مونيي كان يعبِّر إلى حد ما عن مطامحه هو، عندما كتب في أول عدد من مجلته: “إن العالم قد أصيب بخلل أوقفه عن السّير. فالرّوح وحدها يمكنها أن تعيد للعالم القوة على السّير. لكن إرادتنا تمتد كذلك إلى عالم الفعالية”. لا شك في أن هذا المنحى العمَلي، الذي لا يكتفي “بأن يدرس الإنسان فقط، وإنما يريد أن يحارب من أجله”، على حد تعبير مونيي، قد استهوى المفكر المغربي وجعله يقتنع أن الشخصانية ليست “نظريات ميتافيزيقية محضًا، وإنما هي بحث عن فعالية ومجهود كبير لفرض الإنسان على العالم وإدماجه”.
الشخصانية الإسلامية
سعى الحبابي إلى أن يبلور هذا الموقف، ليس فقط فيما دعاه في أطروحته “شخصانية واقعية”، تكتفي بأن تكون امتدادًا لنظيراتها في فرنسا، وإنما في “شخصانية إسلامية” (1967م) تتمتع بنوع من “الخصوصية”، وتسعى إلى أن تفتح الشخصانية على آفاق أخرى، آفاق الإسلام؛ وبذلك فهي تتميز بنوع من الحيوية ومن الفكر النقدي. غير أننا حتى إن وجدنا هنا “سلاح النقد” يعمل عمله، فإننا لا نعثر على “سلاح الفلسفة”. فنحن لا نلمس كثيرًا عند “الشخصانية الإسلامية”، في جدالها مع المفكرين الإسلاميين المحدثين، تسلحًا قويًا بمعرفة فلسفية مثل تلك التي نلفي بعض جوانبها في أطروحة “الشخصانية الواقعية”. بيْدَ أننا لا ننكر، مع ذلك، أن نفَسًا فلسفيًا حقيقيًا يظل يعمل في كتابات الحبابي، ولعلَّه يعمل أكثر في شخص مؤلفها الذي لا يمكننا أن ننفي روحه السقراطية، وولعه بإثارة الأسئلة، وطرحه المتواصل لنفسه موضع تساؤل مستمر. ذلك أن صاحب “من الكائن إلى الشخص” يستعيد ذلك “الفكر النضالي”، الذي تميَّز به مؤسس الشخصانية عمانوئيل مونيي، والذي نجده، ربَّما ليس في شخصانية الحبابي، وإنما في شخصه الذي يتأرجح بين النظام والفوضى، بين الالتزام وعدم الاكتراث، بين الشعر والفلسفة.
فلتنضــب أودية الدمـوع
ولينقشـع ســواد الحـــداد
ســـنشيـــّـد على الأرض
فـــــــــردوس الـــــوجـــود
بأغـــــــــــــاني الأمــــــــل
ونبـــــــــــــل العمـــــــل
سـنبدع مستقبل الصفـاء
علـــــى أجنحـــــة الأوتــار
ونـــــــــــــملأه أخـــــــوة
من ديوان “بؤس وضياء”، الطبعة الفرنسية، باريس، 1958م.
اترك تعليقاً