يقول نيتشه: “من لديه سبب للحياة، يمكن أن يتحمل أي شيء تقريبًا مهما يكن”.
بشكل تلقائي، ما إن تقرأ الاقتباس، حتى تتقافز الأسباب في رأسك، صغيرة أو كبيرة، كثيرة أو حتى قليلة، فدائمًا ثمة سبب في هذا العالم يبقينا أحياء، ويساعدنا على الاستيقاظ كل يوم، ويمنح معنى وقيمة لحياتنا. ولكن مهما بدت المهمّة سهلة وبسيطة، فقد تغدو أصعب وأكثر تعقيدًا في مرحلة ما من عمرك، وقد يحدث لك ما اعتقدت أنه لن يحدث لك أبدًا، ويعكر صفو حياتك، ويحوّلها إلى جحيم من العجز والخذلان واللامعنى.
وقد رأى العالم النمساوي فيكتور فرانكل، صاحب المدرسة النفسية الشهيرة “العلاج بالمعنى”، أن هناك ثلاثة مصادر قد تكون هي الأسباب الأساسية للحياة، وهي: إنجاز عمل ما، والحب الذي تمنحه وتتلقاه من العائلة أو المحبوب والأصدقاء، والشجاعة التي تجعل الإنسان صاحب حق وكلمة ويُؤثر الآخرين على نفسه. يقول برتراند راسل: “ثلاثة مشاعر بسيطة، لكنها غامرة بقوة تحكّمت في حياتي: اللهفة للحب، والبحث عن المعرفة، وشفقة لا تُطاق لمعاناة البشر”.
عادةً، لمثل هذه الأسباب يبقى الإنسان حيًّا، فحتى إن لم تقدر على منحه السعادات، فإنها تمنحه في الأقل الرغبة والقدرة على النجاة من كل العذابات التي تمرّ به.. إن إيجاد المعنى في المعاناة تجعلها مُحتملة.
يقول فرانكل: استشارني ذات مرّة ممارس عام مسنّ، كان يعـاني الاكتئاب الشديد؛ لأنه لم يستطع أن يتغلّب على فقدان زوجته التي كان يحبّها حبًّا شديدًا. لقد أحجمت عن قول أي شيء،
ولكنّي واجهته بدلًا من ذلك بسؤال: ماذا كان سيحدث يا دكتور إذا تُوفّيت أنت أولًا، وكان على زوجتك أن تبقى على قيد الحياة من بعدك؟
قال: “أوه، كان سيكون أمرًا سيّئًـا بالنسبة إليها. كم كانت ستعاني!”.
قلت: “أترى يا دكتور، لقد أُنقذت من هذه المعاناة، وأنت الذي أنقذتها منها، ومن المؤكد أنه بهذا الثمن عليك الآن أن تتحمّل المعاناة وتأسى عليها”.
لم تنتهِ المعاناة، ولكن أصبحت ذات معنى. فالتضحية في سبيل المحبوب تمنح النفس شيئًا من السعادة.
لهذا نعيش، وبسببه نتحمّل معاناة الحياة، بل في بعض الأحيان تصبح المعاناة سببًا في الاتجاه إلى طرق أخرى، لم نتخيّل يومًا أننا سنسلكها أو نمر بالقرب منها، وبشكل مفاجئ ترى المنافع تنبت على طول الطريق.
فبحسب رأي فرانكل، لا مناص من المعاناة في هذه الحياة، إنما نحن من نحدّد كيف نستجيب لها، ونحن من نختار الطريقة التي تؤثر بها في ذواتنا. يجب ألا نترك أنفسنا حتى تتدهور وتصبح عرضة للاضمحلال العقليّ والجسديّ، وطالما لا نستطيع أن نغيّر الحياة، فلنغيِّر أنفسنا ونظرتنا، وحتى أحلامنا نستبدل بها أحلامًا أخرى.
ليس على السعادات أن تكون مفيدة أو منطقية أو مُكلفة أو كبيرة، ليس عليها أن تكون استثنائية وصعبة وعظيمة، بل فلتكن سهلة ووفيرة وغير مُنقطعة؛ لأن وضع السعادة بقالب واحد يوصلك إلى حالة اليأس البعيدة.
يقول شوبنهاور بهذا الصدد: “ما يُسبّب التعاسة هو السعي وراء السعادة بافتراض أننا سنجدها في الحياة.. سيكتسب الشباب لو تمكنوا من تخليص أذهانهم من هذه الفكرة الخاطئة أن لدى العالم صفقة عظيمة سيعرضها علينا”.
ما الذي يحقّق سعاداتك الصغيرة الخاصة؟ سأبدأ أنا: الإيمان، ذلك التصديق الذي يأنس قلبي له ويرتاح عقلي في ظله، علاقاتي وكل حب وحنان أتلقاه وأعطيه، الإنجاز، الليالي المقمرة، الرياضة بشكل عام والمشي بشكل خاص، تجربة طعام جديد، ألعاب الفيديو، الكتب ورائحتها، عناوينها، وحتى رؤيتها مكدسة على الأرفُف، حرية الاختيار، المشاركة، أي نوع منها.. مشاركة السعادة والحزن ومقاطع في التيك توك وأغانٍ في الساوندكلاود… إلخ، القهوة المثلجة، مقهى هادئ أرتاده بشكل دائم مع نفس الأصدقاء، الكتابة، اكتشاف مسلسل رائع بمواسم كثيرة، والدفء في الليالي الشتوية الباردة.
وثمة الكثير من الأشياء التي لا أقدر أن أعدها وأحصيها. كما قال محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.
ابحث عن المعنى والسعادات والطمأنينة، أو لا تبحث.. استرح فقط واستلقِ في مكان ما على ضفة الحياة، وتأمل الأشياء من حولك، تعمّق في النظر إليها من مختلف الجهات.. ستتغيّر طبيعتها وشكلها في نظرك. استقبل.. دع قلبك يأخذ ما يريد، وجرّب ما لا تعرف إن كنت ترغب به، وارفض تمامًا ما لا تريد. روّض حزنك وامسح على ظهره وكأنه قط أليف، وتقبّل كل خدوشه في الروح.
اترك تعليقاً