أكرمني الزملاء في أسرة تحرير مجلة القافلة بكتابة مقدِّمة العدد الخاص الذي يصدر في سبتمر 2022م، وقد اقتربت المجلة العريقة من بلوغ السبعين عامًا منذ بدء انطلاقتها. أتذكَّر أنني قبل 20 عامًا وتحديدًا في أكتوبر من عام 2002م، كنت أعمل مديرًا لقسم النشر والعلاقات الإعلامية في أرامكو السعودية، وقد أسهمت بمقالة في العدد الخاص الذي صدر بمناسبة مرور 50 عامًا، وكانت بعنوان “القافلة.. إلى أين؟”.
بمرور الوقت، تغيَّرت الوظائف وتغيَّر الزمن، ولكن لا تزال جمرات الشغف بمجلة القافلة متَّقدة، وهنا أستذكر ما قاله الشاعر جاسم الصحيح في خمسينية القافلة:
يا رحلةَ الهدفِ النبيلِ يقودها
وهجُ الذين على الحروفِ تجمّروا ..
سبعون عامًا لا الركائب أدّها
عَنَتُ المسيرِ ولا الحداة تذمّروا..
وليعذرني الشاعر الكبير جاسم الصحيح، لتغييري عدد السنين من 50 إلى 70، ليواكب ذلك متغيرات الزمن، الذي يزيدني تصرم سنينه إيمانًا في أن عنوان “القافلة .. إلى أين؟” لا يزال يطرح نفسه، ولكن في عالم يتشابه في بعض سياقاته مع عالم 2002م، ويختلف في سياقات أخرى منه عن ذلك الزمن.
ومن الصعب الحديث عن مجلة القافلة دون استشعار محبَّة الناس لها، وأن لديها قاعدة عشَّاق تُغبط عليها ممن يرتبطون بـ “علاقة حُب” معها، ولها في قلوبهم منزلة لا تقل عن مكانتها في عقولهم. وعندما تذكر “القافلة” يتداعى للشعور حجم الإرث التاريخي التليد للمجلة. فقد صدر منها أكثر من 700 عدد، شملت آلاف المقالات والاستطلاعات في أبواب وموضوعات متنوِّعة شارك فيها نخبة من أساطين الكُتَّاب والعلماء والمفكرين في المملكة والعالم العربي. وقد ظلَّت المجلة وفيَّة لما عبَّر عنه أول رئيس تحرير لها، الأستاذ حافظ البارودي – رحمه الله – عندما تحدَّث في افتتاحية أول عدد منها عن عزم المجلة على تقديم مواد شائقة تقدِّرها الخاصة وتستسيغها العامة. وقبل عشرين عامًا كانت هناك 3 أسئلة محورية تعتمل لدى أسرة التحرير حول مستقبل المجلة:
- هل هناك جدوى من استمرار المجلة بعد أن تغيَّرت ظروف انطلاقتها الأولى عام 1953م، أم أنه قد آن للقافلة أن تتوقَّف؟
- إذا كانت هناك جدوى من استمرار المجلة، فهل تبقى متنوِّعة في موضوعاتها، أم تصبح متخصِّصة في مجال معيَّن، أو لشريحة معيَّنة من القرَّاء؟
- هل تستمر المجلة بطباعة ورقية، أم تتحوَّل إلى مجلة رقمية؟
وقد قرَّر الفريق بدعم وتوجيه من رئيس الشركة آنذاك، الأستاذ عبدالله جمعة، أن هناك جدوى من الاستمرار، وأن تبقى متنوِّعة، وأن تستمر في طباعتها الورقية دون التأثير على احتمالات تحولاتها المستقبلية متى كان ذلك ملائمًا. ولكن لا بد من الارتقاء بمستواها شكلًا ومضمونًا لتكون متميزة في ظل وجود عشرات المجلات التي تُشبع نهم القُرَّاء في الأسواق. ولتحقيق ذلك أطلقت القافلة مشروعًا تطويريًّا أعاد ابتكار المجلة فأصبحت أكثر شبابًا ورشاقة ولا تُشعر قارئها بأزمة منتصف العمر. وقد قطعت بالفعل مرحلة رائعة منذ صدور العدد الخاص في أكتوبر 2002م. ولا أبالغ إن قلت إن مجلة القافلة شهدت في تلك الفترة واحدة من أزهى فتراتها، وقد تعاقب على حمل مشعل رئاسة تحريرها الأساتذة القديرون: محمد العصيمي ومحمد الدميني وبندر الحربي. وكان ذلك بالتعاون مع الشريك الفني، المحترف السعودي؛ فقد شهدت تلك المرحلة نقلة في التحرير والإخراج الفني للمجلة. وكان كلُّ عدد من تلك الأعداد يمر بين أسرة تحرير القافلة، وبين فريق المحترف السعودي بقيادة الأستاذ كميل حوا بولادة إبداعية فيها من آلام المخاض وفرحة الولادة الشيء الكثير. وشهدت تلك المرحلة أيضًا حضور القافلة على منصَّات التواصل الاجتماعي وولادة بودكاست القافلة.
وبعد هذه الرحلة، آثرت القافلة أن تستريح استراحة محارب في العام 2022م، لتعيد حساباتها وتستلهم سياقاتها الحالية والمستقبلية، وتجهِّز لمرحلة جديدة بحُلَّة متجدِّدة. غير أن أسرة التحرير رأت أهمية إصدار عدد خاص بجهود ذاتية بحتة من فريق التحرير؛ لتطُل القافلة على قرائها بمناسبة اليوم الوطني الـ92، وأن تكون المملكة بأبعادها المتعدِّدة هي محور هذا العدد الخاص. ولا يخفى أن العام 2022م يُعدُّ عامًا متميزًا للمملكة العربية السعودية؛ فقد عادت فيه الحياة لطبيعتها بعد عامين من مواجهة الجائحة. كما أن الاقتصاد السعودي يحقِّق نموًّا متميزًا وفائضًا في الميزانية بسبب تحسن أسواق النفط العالمية ومتانة الإصلاحات التي أطلقتها ضمن رؤيتها الطموحة 2030. وقد سعت القافلة أن يكون العدد الخاص مرجعيًّا يوثِّق ويسلِّط الضوء على جوانب من الحراك الذي تعيشه المملكة هذا العام، وهي تنطلق نحو المستقبل وفقًا لرؤية 2030.
وقد تم تبويب العدد عبر 24 مقالة متنوِّعة، بمشاركة كتَّاب متميزين، في ستة أبواب هي: ثقافة وفنون، وتراث وسياحة، وطاقة وبناء، وآفاق، وذاكرة القافلة، وملف القافلة، مع حرص فريق القافلة على اختيار صورة غلاف تبرز التجاور والتناغم بين التراث والمستقبل في السعودية.
ولدى تصفح العدد والدخول في أول أبوابه، وهو باب ثقافة وفنون، فإن أول ما يطالعه القارئ هو استعراض لتقرير الحالة الثقافية في المملكة لعام 2021م، الذي أصدرته وزارة الثقافة في شهر أغسطس الماضي، مع تركيز على الثقافة في الفضاء العام وتعافي قطاع الثقافة من الجائحة، وآفاق الاقتصاد الإبداعي الذي يقوم على القيمة المضافة من المنتجات والأعمال الثقافية. ولأن هذا العدد الخاص يتزامن مع اليوم الوطني، فقد حرص فريق التحرير على تضمينه مقالة للدكتورة مستورة العرابي عن تجليات الوطن في الشعر السعودي. وفي ضوء التطلعات المرتبطة بالمستقبل تضمّن الباب نفسه مقالة للشاعر الأديب عبدالوهاب أبو زيد، وهو عضو في فريق التحرير، حول الصعود الشاق للأدب السعودي نحو العالمية، ما يمكن اعتباره حلمًا لدى كل أديب وكاتب، ممن تراودهم الرغبة في ترجمة أعمالهم الأدبية وخروجها من الدائرة المحلية إلى دائرة العالمية. وقد شمل هذا الباب مقالًا عن حراك المسرح السعودي في ظل رؤية 2030، ومقالًا عن السينما السعودية بين البدايات الأولى البطيئة للسينما والاعتراف الرسمي المتأخر بها، ومن ثم توفير الدعم لها، وحوارًا مع الموسيقي السعودي عازف القانون الشهير، مدني عبادي. كما كان للفنون الجميلة محطة مع الفنانة شادن التويجري حول تجربتها التشكيلية التي حصدت فيها مجموع من الجوائز المتميزة.
أما باب تراث وسياحة، فقد شمل استعراضًا مصورًا وموجزًا لمواقع التراث العالمي الستة في المملكة العربية السعودية، وهي تشكّل مجتمعة بانوراما تجسّد التنوُّع الطبيعي والثقافي والتاريخي في المملكة. كما طرق باب تراث وسياحة الأنثروبولوجي السعودي المعروف الدكتور سعد الصويان، بمقالة عن الإبل التي أسهمت بشكل عظيم في تشكيل موروثنا الثقافي، ولكن منذ اكتشاف النفط بدأ الاعتماد عليها يقل. ومع أن للإبل مكانة خاصة في تراثنا وثقافتنا، يدعونا المقال لأن نكون أكثر إدراكًا ووفاءً لهذا الكائن الذي أمرنا الله أن نتدبر في خلقه. وإذا كانت الأزياء تشكِّل أحد عناصر الاقتصاد الإبداعي، فقد ضمَّ الباب مقالة عن تنوُّع وجمال الأزياء التقليدية السعودية، وأثر البيئة والعوامل الاجتماعية في ذلك التنوُّع وواقع وآفاق تطوير صناعة الأزياء في السعودية. ولا يقل دور المطبخ السعوي عن الأزياء في تشكيل تراث المملكة وتنوّعه المذهل. وقد تطرَّقت الأستاذة هنوف السليم، للعلاقة بين الإنسان وما يأكله.
ومن استلهام تراث الماضي إلى صناعة تراث المستقبل، يضم باب طاقة وبناء مقالة عن ما يُعدُّ أعظم مشروع بناء في العالم، وهو مشروع (ذا لاين) في مدينة نيوم؛ إذ قامت هيئة التحرير باستطلاع عن هذا المشروع الحلم، الذي لم يشهد العالم له مثيلًا في حجمه وحجم طموحه وحجم الابتكارات اللازمة لإنجازه، فهو يعيد ابتكار ما تعارف عليه البشر منذ 10 آلاف عام، أي منذ بداية تشكيل مستوطنات حضرية ونشوء المدن، ليقدِّم نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه المدن الكبرى في المستقبل. وامتدادًا لهذا الموضوع، يأخذنا أستاذ النقد المعماري البروفيسور مشاري النعيم في رحلة أخاذة في العمارة السعودية عبر 100 عام تقريبًا، منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى مشروع (ذا لاين). ومن أبرز ما يقدِّمه باب طاقة وبناء، مقالة ضافية كتبها خبير الطاقة الإستراتيجي في أرامكو السعودية، الأستاذ أفضل شودري عن كيف تصنع أرامكو السعودية مستقبلها في خضم التحوُّل البطيء والمعقَّد في قطاع الطاقة العالمي. ومن الصعب الحديث عن الطاقة دون الحديث عن السعودية الخضراء، التي هي الوجه الآخر للطاقة. فالسعودية تخطو خطوات ريادية بتوجيه ومتابعة القيادة الحكيمة عبر مبادرة السعودية الخضراء. ومع موجة الجفاف التي أصابت أجزاءً من أراضي وأنهار أوروبا هذا العام، والأمطار التي هطلت على المملكة هذا الصيف، أصبح قريبًا للأذهان ما ورد في نبوءة الرسول الكريم محمد – عليه أفضل الصلاة والسلام – من أن جزيرة العرب ستعود مروجًا كما كانت في أزمنة سحيقة ماضية.
وإذا كانت الطاقة التقليدية والمتجدِّدة من الثروات تشكِّل مصدر قوة في المملكة، فإن مصدر القوة الأكبر هو الطاقة البشرية الواعدة التي حظيت بمقالة في هذا الباب بعنوان: رأس المال البشري السعودي، خاصة بعد أن أطلقت المملكة قبل سنة برنامج تنمية القدرات البشرية، كأحد برامج رؤية 2030، ويرأس لجنة البرنامج سمو ولي العهد محمد بن سلمان – حفظه الله – بهدف أن يمتلك المواطن قدرات تمكِّنه من المنافسة عالميًّا من خلال تعزيز قيم الانضباط والاتقان وتطوير المهارات وتنمية المعارف ودعم ثقافة الابتكار.
وقد حرص فريق تحرير القافلة على تضمين باب باسم آفاق، تضمن مجموعة من الموضوعات التي تحلِّق بالقارئ في آفاق متنوِّعة. ولعل من أجمل ما تضمنه هذا الباب مراجعة شاعر عظيم معاصر هو جاسم الصحيح لديوان شاعر عظيم آخر معاصر هو سمو الأمير عبدالرحمن بن مساعد، الذي تميَّز شعره بحضور قصائد الحُب وحضور قصائد الوطن، وقد سارت بشعره الركبان وانتشرت أبياته ولا سيما المغنَّاة من كبار المطربين. وقد كان الصحيح مبدعًا في مراجعته النقدية وإبراز مكامن الجمال في الديوان. كما ازدهت صفحات هذا العدد بحوار خاص ومختصر مع سموه، تمنَّى فيه على مجلة القافلة ألا ينهكها المسير فتتوقف، كما قال بحكمة بالغة: “من السهل الدخول مجال الشعر، ولكن الصعوبة هي أن تكون مؤثرًا فيه”.
وإذا انتقلنا من آفق الشعر إلى آفاق الأعمال، فإن ريادة المملكة تعتمد إلى حدٍّ كبير على ريادة رجال وسيدات أعمالها وشبابها. ولكن من هو رائد الأعمال؟ يبقى هذا السؤال ملحًّا في ضوء أهمية نشر ثقافة ريادة الأعمال، وهو مجال تسعى أرامكو السعودية لتحفيز نقلة نوعية فيه، وفي مجال الشركات الصغيرة والمتوسطة عبر برنامج جديد باسم “تليد” تنوي الشركة الإعلان عنه في الأسابيع القادمة. أما العملة الرقمية فقد كان لها نصيبها أيضًا في هذا الباب بمقالة عنها بعد أن أصبحت تشغل عالم المال والأعمال بمخاطرها وتزايد انتشارها وتذبذب قيمتها وغموض حوكمتها، فهناك تناقض كبير بين من يراها مجرد خدعة كبرى ومن يراها الوجه المستقبلي الأبرز لكل العملات الأخرى. ولا يمكن أن نغفل في باب آفاق ما قدمه لنا تلسكوب جيمس ويب الفضائي، فقد زودنا بمنظور لآفاق كونية لم تعرفها البشرية من قبل، وحتمًا يُعدُّ إنجاز هذا التلسكوب الفائق التقنية أعظم ما قدمته العلوم في 2022م.
وبمناسبة ذكرى اليوم الوطني، تضمّن باب ذاكرة القافلة أجزاء من ورقة سبق لوزير الطاقة، سمو الأمير عبدالعزيز بن سلمان أن قدمها قبل نحو 15 عامًا، تتضمن معلومات مشوقة عن كيف فاوض الملك عبدالعزيز على الامتيازات البترولية ومنْحِها، علمًا أن بإمكان القرّاء الاطلاع على الورقة بتوسع أكبر على الموقع الإلكتروني للقافلة. ولا شك أن كل دولة يرمز لها بعلمها الذي يشكل شعارًا ومرجعًا بصريًّا، وخاصة في المناسبات الرسمية. وليس هناك مناسبة أهم من اليوم الوطني لإبراز العلم. ولأن القافلة دأبت خلال العشرين عامًا الماضية على تضمين ملف في كل عدد، فقد أفرد فريق التحرير ملفًّا عن الأعلام بين الأمس واليوم، مع احتفاء خاص بالراية الخضراء الخفاقة للمملكة العربية السعودية.
ولا يفوت أسرة التحرير أن تهنئ جميع القراء داخل المملكة وخارجها باليوم الوطني المجيد، وتدعوهم لرحلة ممتعة وإثرائية في تصفح هذا العدد الخاص، سواء في نسخته الرقمية التي تصدر قبيل اليوم الوطني، أو النسخة الورقية التي تصدر مباشرة بعد اليوم الوطني. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن فريق التحرير يسعد بتلقي آرائكم وملاحظاتكم القيمة، التي هي غذاء للقافلة وهي تخطط للمرحلة المقبلة من مسيرتها المستقبلية، وخاصة فيما يخصُّ أفضل الطرق كفاءة لجعل القافلة المجلة المفضلة لدى شريحة الشباب والشابات الذين يشكلون غالبية المجتمع السعودي والعربي، في عصر تراجع الصحافة الورقية وصعود الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي.
اترك تعليقاً