في الربع الأول من هذا العام، وتحديدًا بعد ظهور ما يسمى بالـ “شات جي بي تي” (ChatGPT-3)، وقّعَ عددٌ من المتخصصين والخبراء في الذكاء الاصطناعي عريضة تطالب بالتوقف عن تطوير مثل هذه التقنيات المتقدِّمة من تقنيات الذكاء الاصطناعي، وبالتصدي للسباق المحموم الذي تقوم به الشركات، فقط لمدة ستة أشهر. والقصد من هذا التوقف أن يتسنَّى للعقل البشري التأكد من المصير الذي يقودنا إليه هذا التطور المذهل، ولتتاح له أيضًا الفرصة لاتخاذ ما يلزم من الإجراءات المقيدة لهذا الجموح الآلي. وسبب هذه المطالبة حسب ما ذكرته هذه العريضة يكمن في الخوف من امتلاك هذه الآلة ذكاءً تفتقد معه البشرية القدرة على السيطرة والتنبؤ بما يمكن أن يقوم به هذا العقل الاصطناعي، وما قد يترتب على ذلك من مخاطرَ بشرية. فقد أشارت هذه العريضة، فيما أشارت إليه، إلى أن هذه الأنظمة المتقدِّمة قد دخلت عالم المنافسة مع الإنسان. ولا شك أن جانبًا من هذه المنافسة يتمثل في الدخول إلى عالم اللغة التي هي إحدى خصائص الإنسان، وإحدى القدرات العليا التي يتمحور حولها كثير من القدرات العليا الأخرى، كالتفكير والإدراك وحل المشكلات واتخاذ القرارات، وسيكون حديثي هنا منصبًا على الجانب اللغوي من هذه المنافسة. فما الذي يجري؟ وماذا يعني أن تتكلم الآلة لغتي: أي لغتي أنا الإنسان؟
لقد ارتبط التفكير في الذكاء الاصطناعي منذ بدايته بمسألة اللغة، حين وضع عالم الرياضيات البريطاني ألن تورنغ (Alan Turing) معياره الشهير الذي عدَّه الاختبار الذي يمكن من خلاله معرفة مدى امتلاك الآلة ذكاء يضاهي الذكاء البشري، وذلك حين عد حوار الآلة مع الإنسان بلغته الطبيعية ووصولها في ذلك إلى مستوى لا يمكن معه التمييز بين إجابات الآلة وإجابات الإنسان، وقد عُدَّ ذلك دخولًا إلى عالم الذكاء البشري.
وإذا كان بعض المختصين قد شكك في دقة هذا المعيار في قياس ذكاء الآلة، فإن البعض الآخر، وتحديدًا في ذلك الوقت وإلى ما قبل ثورة المعلومات التي صاحبت ظهور الإنترنت، زعم أن امتلاك الآلة قدرة لغوية تضاهي قدرة الإنسان ضرب من ضروب المستحيل، أو في الأقل شيء من الخيال العلمي الذي لا يمكن تحققه في المستقبل القريب. وما أن أطلَّت الألفية الثالثة، وما صاحبها من انفجار معلوماتي وتطوِّر كبير في خوارزميات تعلُّم الآلة وتطور في قدرة المعالِجات الحاسوبية على التعامل مع البيانات الضخمة، حتى بدأت التنبؤات تتغير وبصورة متسارعة إلى درجة غياب القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وهو ما دفع أولئك الخبراء والمختصين إلى توقيع تلك العريضة. فالثورة التي تقودها النماذج اللغوية الكبيرة (Large Language Models) الكامنة خلف تطوير تقنية “شات جي بي تي” و”بارد”، وغيرها من أنظمة الحوار بين الإنسان والآلة، تُعدُّ نقلة تاريخية كبيرة في تفاعل الآلة مع الإنسان وسيكون لها ما بعدها.
وبعيدًا عن تفصيل القول في طبيعة عمل هذه الخوارزميات، فإن المذهل في الأمر هو أن هذه التقنيات صارت قادرة على الرد على استفسارات وأسئلة الإنسان بلغته الطبيعية وتلخيص النصوص وكتابة المقالات وإجراء الحوارات المطوَّلة مع الإنسان بصورة تعكس من ناحية فهمًا بطبيعة السؤال/ الطلب، وتعكس من ناحية أخرى قدرة عجيبة على توليد الجُمَل الصحيحة قواعديًا إلى درجة لا يمكن معها التفريق بينها وبين الجُمَل التي ينتجها البشر بلغاتهم الطبيعية. ليس هذا فقط، وإنما تبدو تلك الجُمَل (النصوص) التي تولدها هذه الخوارزميات سليمة دلاليًا ومتسقة مع المطلوب إلى حدٍّ كبير.
والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو ماذا يعني أن تفهم تلك الخوارزميات ما يطلب منها ثم تنتج جملًا صحيحة قواعديًا ودلاليًا؟ هل هذا يعني أن الآلة أصبحت تمتلك معرفة لغوية (معجمية، وتركيبية، ودلالية، وتداولية) تضاهي أو تقارب معرفة الإنسان بلغته ومعرفته بالعالم الخارجي الذي تحيل عليه لغته؟ وهل أصبحت الآلة بذلك قادرة على اجتياز اختبار تورنغ الذي أشرنا إليه؟
إن المعرفة اللغوية التي تقوم عليها خوارزميات النماذج اللغوية الكبيرة هي معرفة لغوية محدودة تنحصر في حساب تجاور الكلمات في الجُمل حسابًا رياضيًا، وهذه فكرة لها مستند لغوي أساسه نظرية عالم اللسانيات البريطاني فيرث (Firth)، التي ترى أن جزءًا من دلالة الكلمات يأتي من السياق النصي الذي تقع فيه.
وحقيقة الأمر أن المعرفة اللغوية التي يمتلكها الإنسان حول لغته أوسع من ذلك بكثير. ففهم المقصود لا يعتمد فقط على معرفة العلاقة النصية بين المفردات، وإنما يتجاوز ذلك إلى المعرفة بخصائصها الأنطولوجية، وعلاقة ذلك بما تحيل عليه في العالم الخارجي من أشياء يربطها ببعض علاقات منطقية وأخرى ثقافية تمكِّن الإنسان من معرفة الحقيقة من المجاز والصدق من الكذب، والمعنى المباشر من المعنى الضمني وغير ذلك من المعارف المتعلقة بالمقام والسياق التداولي، وهذه المعارف اللغوية تتجاوز في تعقيدها، كما يشير بعض المختصين، تعقيد المعرفة المتعلقة بالكون والفضاء الخارجي أو المعرفة المتعلقة بالجينوم البشري. فمتى ستصبح الآلة قادرة على امتلاك ذلك كله؟
اترك تعليقاً