مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

ماتشو بيتشو

شاهدٌ عمرانيٌّ مذهل على تاريخ غامض

محمد الصالح

في البيرو، وعلى ارتفاع يبلغ 2430 مترًا فوق سطح البحر، تشمخ مدينة ماتشو بيتشو شاهدةً نادرةً على التاريخ غير المحكي لإمبراطورية الإنكا. تلك الإمبراطورية العريقة الضاربة بجذورها في عمق تاريخ الساحل الغربي من قارة أمريكا الجنوبية، والتي كانت من أكبر الإمبراطوريات الأصيلة عند اكتشاف القارة الجديدة في أواخر القرن الخامس عشر. إذ تميزت حضارة الإنكا بإبداعها منقطع النظير في فن العمارة، حيث تتجلّى الدقة والتقنية العالية في قطع الصخور ورصفها لتشكيل مدينة لطالما وُصفت بأنها “المدينة المفقودة”، وتعدُّ من التحف المعمارية الفريدة.

يمكن للزائر أن يأخذ طريقه إلى ماتشو بيتشو بالقطار من مدينة كوسكو الواقعة على بعد سبعين ميلًا منها. أمَّا عشّاق المغامرة، فيمكنهم الانطلاق إليها راجلين من كوسكو، في رحلة عبر الأخاديد الأنديزية الخلّابة، وتنتهي بهم حيث انتهى المستكشف الأمريكي هيرام بينغهام في عام 1911م، عند بحثه عمَّا تبقى من آثار شعب الإنكا العريق بعد الغزو الإسباني. فقد وجد بينغهام ضالته بعد أن تسلَّق جدارًا جبليًا تُحيط به الصخور الضخمة، وتمكَّن من رؤية الجدران التي تطل أحجارها على استحياء من الفراغات المبعثرة بين أوراق الشجر والبيوت المشيدة في نُسُق منظومة، لتنكشف في مجموع ما وقعت عليه عيناه عن المدينة الضائعة ماتشو بيتشو. ووفقًا لـ “ناشيونال جيوغرافيك”، فإن ما يراه الزائر للمدينة اليوم لا يمثل إلا %40 منها؛ إذ لا يزال الباقي دفينًا تحت الأرض. ويعتقد أن الإنكا لم يريدوا لماتشو بيتشو أن تُكتشف، فأضرموا النار في الطريق المؤدي إليها لكيلا يسلكه الغزاة، وذلك خوفًا على كنوزهم من النهب وحماية لمقدساتهم من التخريب والتدنيس.

بُنيت ماتشو بيتشو على شكل شبكة من الشوارع والساحات الصغيرة. فهي مصممة بطريقة تتيح سهولة الحركة والتنقل بين مختلف أرجائها. وتُقسم المدينة إلى قسمين رئيسين: القسم الزراعي والقسم الحضري. يتضمن القسم الزراعي مصاطب زراعية، بينما يحتوي القسم الحضري على المباني الرئيسة مثل المعابد والمساكن.

ويتجلَّى الإبداع في بناء المدينة في شتى مراحل إنشائها بدءًا من إعداد الموقع. إذ تضمّنت هذه العملية تسوية الأرض وتحضيرها لتكون ملائمة للبناء. واستخدم البناؤون أساليب لضمان استقرار المباني على المنحدرات الجبلية، وهو ما أسهم في تقليل مخاطر الانهيارات الأرضية. كما استخدموا تقنيات معقدة لإنشاء أساسات قوية للهياكل. وتضمَّنت هذه التقنيات وضع الحجارة بطريقة تسمح بالتحامها من دون الحاجة إلى “مونة” (الملاط)؛ لتوفر هذه الأساسات المتينة استقرارًا طويل الأمد للمباني، وهو ما ساعد في حمايتها من الزلازل والانهيارات الأرضية.

وأبدع الإنكا في بناء أنظمة متقدمة لجرّ المياه من الينابيع القريبة إلى المدينة لأغراض الري والشرب والاستخدامات اليومية، وضمان وصول هذه المياه إلى المناطق الزراعية والحضرية. كما صمموا نظام صرف معقدًا للتعامل مع كمية الأمطار الكبيرة في المنطقة، فاستخدموا قنوات حجرية لتصريف المياه بعيدًا عن المباني والأراضي الزراعية، وهو ما ساعد على استدامة المباني وحمايتها من التآكل والفيضانات.

وكان البناؤون الإنكا يختارون الحجارة بعناية من مواقع قريبة، فيصقلونها باستخدام أدوات حجرية لضمان التناسب الدقيق فيما بينها. وقد سمح لهم ذلك بإنشاء جدران متماسكة قوية قادرة على تحمل الظروف البيئية القاسية. واستخدموا أنواعًا مختلفة من الصخور المحلية لبناء المدينة، معتمدين بشكل أساس على الصخور النارية الجرانيتية المُستخرجة من موقع فيليكامبا القريب، لبناء معظم الهياكل الرئيسة في المدينة مثل المعابد والمباني السكنية. كما استخدموا صخور الأنديسايت النارية ذات المتانة العالية لبناء بعض العناصر المعمارية الدقيقة والمزخرفة مثل النقوش والتماثيل. أمَّا الصخور الطينية والكلسية، فقد استُخدمت في بعض الأغراض مثل بناء الجدران الخارجية والأسطح التي تتطلب تصريفًا فعالًا للمياه.

ماتشو بيتشو مدينة تقع بين جبلين من سلسلة جبال الأنديز في كوزوكو – البيرو.

لأن شعب الإنكا لم يعرف الكتابة والقراءة، وما من سجل مدوّن يحكي قصته أو قصة هذه المدينة، فإن أسرار هذه المدينة وأسباب بنائها سوف تبقى خاضعة للتفسيرات والاستنتاجات المختلفة. إذ خلافًا لاعتقاد بينغهام المبدئي أن ماتشو بيتشو كانت مدينة ملكية أو عاصمة للهزيع الأخير من مجد الحضارة البائدة، واعتقاده أن المدينة كانت مقرًا لنسوة مختارات يُسمَّين عذارى الشمس، واعتقاد بعض الباحثين أن المدينة كانت وجهة ترفيهية للعائلة الحاكمة؛ رجّح باحثون آخرون أنها بُنيت أساسًا لأداء الإنكا طقوس عبادتهم للشمس، حيث يقدِّمون النساء قرابين معتقدين أنهن بنات الشمس المقدسة. ويرجّح هذا التفسير كثرة بقايا عظام النساء في المدينة بالمقارنة مع بقايا عظام الرجال.

ويخلص الباحث جوليو ماجلي إلى أن ماتشو بيتشو كانت مركزًا للحجيج من الإنكا، معزّزًا استنتاجه بمقارنة النظام العمراني والتنظيم الداخلي والموقع الجغرافي لماتشو بيتشو مع مراكز أخرى للحجيج، مثل جزيرة الشمس في بحيرة تيتيكاكا في بوليفيا، ومؤكدًا أن التنظيم العمراني لماتشو بيتشو يحمل اختلافات مهمة عن المدن الملكية الأخرى مثل أولانتايتامبو وبيساك. كما يُضيف أن وجود بعض التراكيب ذات الطابع العبادي مثل معبد النوافذ الثلاث وحجر مربط الشمس المقدس (وهو حجر مقدس لدى الإنكا يوجد في أعلى نقطة في ماتشو بيتشو)، هو مما يؤكد أن المدينة قد بُنيت لأغراض عبادية بحتة. ويشير ماجلي إلى أن الطريقين السالكين بالحجيج إلى ماتشو بيتشو والموقع الإستراتيجي للمدينة، يحملان أبعادًا روحية تلائم ما هو معروف عن طقوس الإنكا، خصوصًا أن المدينة تعدُّ ذات موقع إستراتيجي لمراقبة الظواهر الفلكية المختلفة مثل الانقلاب الشمسي، وهو ما يرتبط بشكل وثيق بقداسة الظواهر الكونية لدى الإنكا ومعتقداتهم حولها.

وتمتد نقاشات الباحثين إلى التساؤل حول الاسم الحقيقي للمدينة المفقودة وقصة اكتشافها. فيؤكد الباحثان دوناتو جونزاليس وبريان بويرب أن المدينة الضائعة كانت معروفة لدى السكان الأصليين قبل قدوم هيرام بينغهام، وأن السكان الأصليين وعددًا من المستكشفين مثل إنريكي بالما وأجوستين ليزاراجا وجافينو سانشيز كانوا قد سبقوه إليها، وكانت تُعرف لديهم باسم بيتشو أو هاويانا بيتشو، إلا أن شهرة بينغهام العالمية وتأثيره أسهما في انتشار اسم ماتشو بيتشو الذي تُعرف به المدينة اليوم.

بُنيت المدينة برّمتها من أحجار متراصة من دون أي أدوات تثبيت.

•           معبـد الشمس

            يعدُّ معبد الشمس أحد أهم المعالم في ماتشو بيتشو، ويحتوي على نافذة رئيسة تسمح بدخول أشعة الشمس بشكل مميز في يوم الانقلاب الشمسي، وهو ما يبرز أهمية الشمس في ديانة الإنكا وفهمهم العميق لعلم الفلك والهندسة المعمارية.

•           الطريق الإنكي

            يعدُّ هذا الطريق الشهير من أقدم الطرق التي استخدمها الإنكا للوصول إلى ماتشو بيتشو، وهو يمثّل شاهدًا على التراث الثقافي للإنكا. ويمتد عبر مناظر طبيعية خلابة، مقدّمًا تجربة فريدة لمحبي المغامرات والتسلق، ويتضمن جسورًا وسلالم منحوتة في الصخور.

•           ساحة الإنكا الرئيسة

            يُعتقد أن هذه الساحة كانت تُستخدم في الاحتفالات والاجتماعات الرسمية. يحيط بها كثير من المباني المهمة مثل المساكن والمعابد والمباني الإدارية. وتعدُّ هذه الساحة شاهدًا على التنظيم الاجتماعي والسياسي للإنكا.

ما يُميّز ماتشو بيتشو هو تكيّف هندستها المعمارية مع الجبال.

•           المصاطب الزراعية

            المصاطب الزراعية في ماتشو بيتشو تمثّل تحفة هندسية، فقد بُنيت بالحجر المحلي وصُمّمت لتناسب التضاريس الجبلية. واستُخدمت هذه المصاطب للزراعة واستغلال الأمطار كمصدر رئيس للمياه للاستغناء عن نظام ري معقد، وهو ما ساعد في حماية التربة ومنع التآكل وضمان استدامة الأراضي الزراعية.

•           قمة الجبل

            توفر قمة الجبل إطلالات بانورامية رائعة على ماتشو بيتشو، وتعدُّ وجهة مفضلة لمحبي المغامرات. ويتطلب الصعود إلى القمة مجهودًا بدنيًا كبيرًا، ولكن روعة الإطلالة تستحق العناء.

•           حجر مربط الشمس (إنتيهواتانا)

            يُعدُّ هذا الحجر أحد أبرز المعالم الأثرية في ماتشو بيتشو. ويُعتقد أنه كان يُستخدم لأغراض تخدم المقدسات الفلكية لدى الإنكا. وهو عبارة عن هيكل حجري منحوت بدقة، يقع على قمة تلة داخل الموقع الأثري لماتشو بيتشو. يشتهر بتصميمه الفريد، ويُعتقد أنه كان يُستخدم لتحديد أوقات السنة، وخاصة الانقلاب الشتوي، حيث يعمل الحجر مثل أداة فلكية لتتبع حركة الشمس والظل.

لم تكن ماتشو بيتشو فقط مصدر إلهام للمهندسين وعلماء الآثار، بل هي أيضًا مصدر إلهام كبير للشعراء.

فقد كانت زيارة ماتشو بيتشو محطة محورية في حياة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، الذي تأثر بعظمة الموقع والأطلال المحيطة به، وهو ما جعله يتأمل في التاريخ الإنساني والحضارات القديمة. ورأى في ماتشو بيتشو رمزًا للإنجازات البشرية والقدرة على الإبداع والبقاء، مستوحيًا من المدينة أحد أشهر أعماله “مرتفعات ماتشو بيتشو”. وتتجلى في هذا العمل معالجة رائعة لبعض أهم المفردات الشعرية، مثل: العزلة والبحث عن الذات والتاريخ والإرث والاتصال بالأرض،

ومن ذلك قوله في المقطع الأول:

“شخص ما ينتظرني بين آلات الكمان

شخص وجد العالم مثل برج يُغرق شكله الحلزونيّ

أعمقَ من الأوراق الحادة ذات اللون الكبريتيّ.

وأنا أدفع يدي أعمق من ذلك، سيفًا ملفوفًا بالشهب

أدفع يدي متموجة وشهية

في طبقات الأرض الثرية بالذهب

في أحشاء رحم الكوكب.

رفعت ناصيتي في أعمق الموجات

غاطسًا كقطرة تغوص في سكون الكبريت

وكرجل أعمى عدت إلى الياسمين

في الربيع البشري المتلاشي”.


مقالات ذات صلة

بدأت الفكرة عام 2012م، عندما كانت الصديقتان جينيفير دي لا ماري ولورا جلوهانيتش، جالستين في أحد المقاهي في مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية، تقرأ كل واحدة منهما كتابًا مختلفًا؛ إذ كانت عادتهما التنقل بين مقاهي المدينة ومطاعمها بحثًا عن ملاذ خارج البيت ومتطلبات الأعمال المنزلية المتواصلة، للهدوء والاستمتاع بالقراءة. وبينما كانتا غارقتين في […]

تهدف الاستعارة اللغوية إلى الإقناع. وهي في ذلك أجدى من التشبيه المباشر. إذ إنها تؤدي دورًا عاطفيًا يمسّ وجدان الأفراد وتصوّراتهم، وهو ما يمكّن اللغة التصويرية من أن تكون مقنعة جدًا. وهذا ما يجعل الاستعارة آلية أساسية من آليات التواصل.  وبعدما كانت الاستعارة شأنًا أدبيًا لعدة قرون من الزمن، أصبحت دراستها أقرب إلى أن تكون […]

هل أصبحنا في عصر تُعادي ثقافته العامة الكوميديا، عبر وضع عدد لا نهائي من القيود والمحاذير التي تجعل مساحة المسموح به لصانع الكوميديا تضيق يومًا بعد يوم؟


0 تعليقات على “ماتشو بيتشو.. سحر الإنكا”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *