لأن الاتزان الرقمي أولوية تستحق التركيز والدعم، أطلق مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء” برنامج الاتزان الرقمي العالمي “سينك” في عام 2021م، الذي يهدف إلى تعزيز الاتزان الرقمي وتشجيع الحفاظ على علاقة صحية ومتوازنة بين التقنية الرقمية وصحتنا النفسية والبدنية. وبالإضافة إلى فعاليات قمة سينك العالمية، نفّذ البرنامج مشاريع بحثية بارزة محلية وعالمية مع شركاء مرموقين، كجامعة جونز هوبكنز، ونشر العديد من الأبحاث والتقارير المهمة مثل المسح العالمي للاتزان الرقمي في عامي 2022م و2024م.
وقد أطلق برنامج “سينك” مؤخرًا الإصدار الأول من مؤشر الاتزان الرقمي العالمي، بالتعاون مع مجموعة “هورايزن”، بهدف تعزيز المناقشات العالمية ودعم عملية صنع السياسات وتوفير معيار للأشخاص لفهم عالم الاتزان الرقمي سريع التغير. وهذا المؤشر هو معيار دولي يقيس بطريقة شاملة كيفية استفادة الدول حول العالم من الفرص التي توفرها التقنية، وسعيها لضمان أساليب حياة وعمل متوازنة رقميًا.
القياس أول الطريق لصنع القرار
على المستوى العالمي، هناك تحرك متصاعد يهدف إلى إيجاد ضمانات ضد إشكالات استخدام التقنية. ويتطلب التعامل مع العصر الرقمي بذل جهود مستمرة لتعزيز الاتزان الرقمي على المستويين الفردي والمجتمعي. ومن خلال التعرف على الممارسات الجيدة والنجاحات التي تحققت في مجالات عديدة، يمكن للدول أن تستفيد من هذا المؤشر في تطوير الاتزان الرقمي من خلال إدخال تحسينات على السياسات والمبادرات ذات الصلة. ومع استمرار التقنيات الرقمية في التطور، فإننا لا نزال في المراحل الأولى من استكشاف تأثيرها على صحتنا. ومن الواضح للغاية أن بعض المشكلات تتطلب حلولًا على صعيد السياسات العامة، وزيادة الوعي والمعرفة لدى المستخدمين، وعمل البحوث العلمية لاستكشاف التأثير الإيجابي والسلبي لهذه التقنيات.
وتعبيرًا عن المفارقة التي نواجهها مع التغير الرقمي السريع، يتألف هذا المؤشر من شقين: “موازنة الاحتياجات” لقياس التأثير السلبي، و “اغتنام الفرص” لقياس التأثير الإيجابي (انظر الشكل رقم 1). في إطار “موازنة الاحتياجات”، نجد ست ركائز لقياس المخاطر المرتبطة بالتقنيات الرقمية، مثل الآثار السلبية المحتملة للتقنية الرقمية على الصحة النفسية والبدنية والترابط الاجتماعي، بالإضافة إلى أشياء أخرى مثل جودة المعلومات والسلامة الإلكترونية، إلى جانب ما بات يُعرف بـ “الحق في قطع الاتصال”. بينما يقيس شق “اغتنام الفرص” ست ركائز إضافية مرتبطة بالتأثير الإيجابي المحتمل للتقنية الرقمية في حياتنا، بما في ذلك التواصل، والترابط الاجتماعي فيما بيننا، والتعليم والمهارات التي يمكننا اكتسابها، والتحسينات الخاصة بالعمل والإنتاجية والدخل، والحصول على الترفيه والثقافة فضلًا عن الخدمات والسلع.
كيف يتفاوت الاتزان الرقمي عالميًا؟
رصد مؤشر الاتزان الرقمي العالمي في إصداره الأول 35 دولة على مستوى العالم. وباستخدام إطار عمل “موازنة الاحتياجات” في مقابل “اغتنام الفرص”، قاس المؤشر أداء كل دولة منها في كل من الركائز الاثنتي عشرة.
وتبرز كل من كندا وأستراليا وسنغافورة وإستونيا وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا ضمن الدول الأعلى أداءً، فيما أظهرت الصين أداءً جيدًا نسبيًا من بين مصاف الدول ذات الدخل المتوسط. وتُظهر معظم الدول مستويات عالية على صعيد استخدام التقنية الرقمية للتواصل والترابط الاجتماعي. وعلى الجانب الآخر تكافح العديد من الدول الآثار السلبية للتقنية الرقمية في ثلاث ركائز، وهي: العمل والإنتاجية والدخل، والصحة البدنية، والقدرة على قطع الاتصال.
وهناك عدد قليل فقط من الدول مثل سنغافورة تحقق أداءً جيدًا على كلا الشقين. وبشكل عام، فإن الدول ذات الدخل المرتفع تحقق أداءً أفضل في ركائز اغتنام الفرص، ولكن لا يزال لديها مجال للنمو والتطور في الركائز المتعلقة بموازنة الاحتياجات. وتُظهر الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى أداءً مشابهًا. وأخيرًا، تظهر معظم الدول ذات الدخل المنخفض في الطرف الأدنى من المؤشر، باستثناء الهند وكينيا وفيتنام التي تحقق أداءً أفضل من نظيراتها.
أهمية الجانبين التنظيمي والتعليمي
أبرزت نتائج مؤشر الاتزان الرقمي العالمي أن السياسات الرامية إلى تعزيز الصحة النفسية الرقمية تُعد أمرًا بالغ الأهمية لمساعدة الأفراد المعرضين للإصابة بمشكلات نفسية مثل الشعور بالوحدة والقلق، والتي ترتبط غالبًا بالعمل أو الدراسة عن بُعد. وفي الوقت الحالي، لا يوجد سوى ثماني دول لديها أطر عمل شاملة للصحة النفسية الرقمية، وتتصدر القائمة كل من سنغافورة والمملكة المتحدة بأفضل أداء.
وتُبرز نتائج المؤشر أنماطًا صحية بشكل أكبر للاتزان الرقـمي في الدول الأكثر ثراءً مثل كندا وأستراليا، مؤكدةً الحاجة إلى اتخاذ إجراءات حازمة وتدابير سياسية في الدول الأقل ثراءً. وبالمثل فإن السويد والمملكة المتحدة تُظهران مستوى أقل من السلوكيات المسببة للإدمان، وتمنحان الأولوية لعادات رقمية صحية بشكل أكبر دون إهمال النوم أو الوجبات المنتظمة. وبصفة عامة، يجب على الدول في جميع أنحاء العالم اتخاذ تدابير حازمة للتصدي لظاهرة التنمر الإلكتروني.
وبينما تكافح دول مثل أستراليا المعلومات المضللة، يجب بذل المزيد من الجهود المتضافرة في هذا الصدد. وقد قامت نحو 17 دولة من بين الدول التي شملتها الدراسة بدمج موضوع الوعي بالمعلومات المضللة في مناهجها التعليمية. وتنتشر مبادرات التوعية بالأخبار الكاذبة بشكل أكبر في الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى (60%)، في حين أن التعليم بشأن المعلومات المضللة في المناهج الدراسية هو الأكثر شيوعًا في الدول ذات الدخل المرتفع (81%).
من بين الدول الآسيوية، طبقت الصين والهند سياسات لمعالجة العادات الرقمية التي تنطوي على إدمان الألعاب، مع تسليط الضوء على مخاطر الإدمان وتشجيع ممارسة الألعاب المسؤولة، وتقديم الاستشارات والإرشادات للآباء والمعلمين على حد سواء. وتؤكد مثل هذه الممارسات أهمية التعليم في معالجة الضغوط النفسية والبدنية المرتبطة بالتقنية الرقمية والألعاب.
كما سجلت كل من نيجيريا والمملكة العربية السعودية وكولومبيا أعلى معدلات الاعتماد على التعليم الرقمي، حيث يستخدم 40% من المشاركين في الدراسة التقنية الرقمية لأغراض التعليم، ما يؤكد التوجه العالمي نحو التعليم الرقمي. وبرز “الحق في قطع الاتصال” كمبادرة سياسية رئيسة يجري تبنيها في ثلث الدول ذات الدخل المرتفع والمتوسط الأعلى، إلا أنه غائب في الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى.
وقد شهد العمل عن بُعد طفرة كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية. وكشف مؤشر الاتزان الرقمي عن أن الاقتصادات المتقدمة تحتل الصدارة في توفير فرص العمل عن بعد والمرونة في العمل، وأن 50% من الدول متوسطة الدخل لديها مخصصات لتأشيرات الرِحالة الرقمية (أو العمل المتنقل). كما كشف مؤشر الاتزان الرقمي العالمي عن انتشار السياحة الرقمية بشكل أكبر في إيطاليا وفرنسا.
تخصّص جامعة ملبورن الأسترالية صفحة لطلب المساعدة في التعافي من إدمـان الإنترنت، وتوفر أطباء ومتخصصين للمساعدة. وتُعرِّف الصفحة، الاستخدام المفرط للإنترنت بأنه قضاء وقت مفرط في أنشطة الإنترنت، مثل: الألعاب وغرف الدردشة على حساب التواصل الاجتماعي الحقيقي أو الدراسة. وتحدد أعراض الإدمان بزيادة الوقت بوصفها مؤشرًا أول، والشعور بالقلق أو الاكتئاب عند عدم الاتصال بالإنترنت، والفشل في التحكم بوقت الاستخدام. وتنصح بطلب المساعدة عند الشعور بهذه الأعراض.
كيف نصل إلى توازن رقمي أفضل؟
فيما يتعلق بالإجراءات الخاصة بالسياسة العامة الرامية إلى التحسين، يُعد وجود قيود من أجل بيئة رقمية آمنة خالية من التنمر الإلكتروني أمرًا بالغ الأهمية، كما كشفت النتائج. ويمكن القيام بذلك من خلال تدابير وسياسات سلامة البيانات لمكافحة التنمر الإلكتروني، خاصة في الدول متوسطة الدخل.
وتعد أنظمة السلامة العمرية لحماية الأطفال والقُصّر أمرًا ضروريًا لتوفير مساحة رقمية آمنة. ومن الضروري أيضًا وضع تدابير لحماية سلامة الأفراد ورفاهيتهم من خلال أطر عمل شاملة للصحة النفسية الرقمية وإطلاق برامج توعية.
ويجب إتاحة القدرة على قطع الاتصال من خلال التدابير القانونية التي تضمن اتخاذ المنصات الرقمية الخاصة بالألعاب أو التواصل الاجتماعي الإجراءات المقررة للحد من مخاطر الإدمان السلوكي. كما يمكن تطبيق التشريعات التي تشترط أن تسمح منصات وسائل التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت للمستخدمين باختيار عدم إنشاء المحتوى القائم على الخوارزميات، الذي يثبُت أنه أكثر تسببًا في الإدمان. من المهم أيضًا اعتماد سياسات عمل مرنة، خاصة في الدول ذات الدخل المتوسط والدول ذات الدخل المنخفض، وضمان سن تشريعات خاصة بحق قطع الاتصال من أجل الارتقاء بالحدود الصحية للعمل والدراسة عن بُعد.
تعزيز العادات الرقمية الصحية، بما في ذلك بذل جهود حثيثة للاستفادة من الفرص ومعالجة التحديات التي تواجهها التقنيات الرقمية، هو السبيل الأساس لتحقيق الاتزان الرقمي المجتمعي والحياة الصحية المتوازنة. ومن بين الفوائد الرئيسة لمؤشر الاتزان الرقمي العالمي وضع المعايير وتحديد الأولويات لهذا العمل. ويأمل هذا المؤشر مع تطوره وتوسعه وتحديثه في أن يكون صناع السياسات وأصحاب المصلحة قادرين على قياس مدى تقدمهم في هذا الجانب على جميع الأصعدة.
لمزيد من المعلومات
لمزيد من المعلومات حول برنامج سينك من مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”، يُرجى زيارة الصفحة التالية:
*حول الكاتب:
فهد البياهي: قائد أبحاث برنامج “سينك”، مركز “إثراء”
مارغريتا درزنيك: الشريك الإداري لمجموعة “هورايزن”
اترك تعليقاً