لماذا بنى البشر المدن عبر التاريخ؟ وكيف نشأت المدن التي تميز عالمنا اليوم؟ وكيف نجد فيها انعكاسًا لثقافة الشعوب التي بنتها؟ هذه الأسئلة الجوهرية تقودنا لفهم كنه الأسباب التي لا تزال تدفع البشر اليوم إلى التفكير في كسر قواعد اللعبة العمرانية التاريخية من خلال بناء مدن جديدة من الصفر، والسعي لتجاوز عوامل عدم النجاح التي مرت بها بعض المدن أحيانًا. د. مشاري بن عبدالله النعيم يناقش أسباب نشأة المدن الجديدة، والعوامل التي تحف بنشأتها، وطبيعتها واتصالها بثقافة الشعوب، فيستعرض نماذج تاريخية من المدنية العربية لما قبل الإسلام وبعده، مرورًا بنماذج عالمية حديثة، ووصولًا إلى مدن المستقبل في نيوم وذا لاين.
البحث عن “المدينة الفاضلة”، كما تصورها الفيلسوف اليوناني أفلاطون، يمثّل أحد المحركات التي دفعت البشر لخلق “المدينة المتّزنة”، والتي تشمل الطبيعة المثالية للمجتمع، فضلًا عن الأسلوب الحضاري وأرقى الخدمات والنمط الهندسي المتطور للمظهر العمراني. وبالرغم من أن مفهوم المدينة كان موجودًا قبل هذه الفكرة واستمر بعدها، لكن سعي البشر إلى بناء المجتمع والاقتصاد الفاضلين كان يمر دائمًا عبر بناء المدن الجديدة.
لا بد للمدينة من بداية، فقد نشأت المدن عبر التاريخ في تجمعات سكانية بسيطة، ونمت وتطورت لتشكِّل تجمعات حضرية مليونية كما نشاهدها اليوم. ويشير البعض في هذا الشأن إلى أن أهم الاكتشافات التي توصَّل إليها الإنسان هو بناء المدن، إذ إن الحاجة للتجمع السكاني أصبح مسألة مُلحَّة للبشر بعد اكتشاف الزراعة وبداية عصر اقتصادي جديد يعتمد على التعاون والعمل المشترك.
أسباب نشأتها.. المدنية العربية نموذجًا
يُعتقد أن أول مدينة نشأت في التاريخ هي “أوروك” في بلاد الرافدين، وهذا يشير بوضوح إلى أن البلاد العربية على وجه الخصوص احتضنت أول التجمعات البشرية الحضرية منذ فجر التاريخ، فها هي مدينة أريحا الفلسطينية تمثل أقدم مدينة مأهولة، كما أن دمشق السورية تُعدُّ إحدى أقدم المدن المأهولة حتى اليوم.
ولسنا بصدد إثبات أن الثقافة العربية احترفت بناء المدن تاريخيًا وحديثًا، لكن لا بُد من الابتداء بما ذكره القرآن الكريم حول المدن التي بناها قوم عاد وقوم ثمود كمنطلق تاريخي يخولنا لأن نفهم المكون الثقافي الذي ظل متوارثًا في الجزيرة العربية وطبيعة نشأة المدن. ففي حديثه عن قوم عاد، يقول الله تعالى: “إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ .. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ” (الفجر: 7-8)، فكيف بنوا هذه المدينة التي لم يكن يضاهيها مدينة أو عمران آخر في وقتها؟ لا بُد أن أولئك الناس كانوا قد مروا بتجارب عمرانية كثيرة طوَّرت مفهوم المدينة لديهم حتى توصلوا إلى بناء مدينة عظيمة. وفي حديثه عن مدينة ثمود في الحجر، يقول تعالى: “وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ” (الشعراء: 149)، وفي موضع آخر قال تعالى: “آمنين” (الحجر: 82). والإشارة هنا إلى أن المدن تبنى من أجل تحقيق الرفاهية أو من أجل تحقيق الأمن.
لكن قصة إبراهيم (قبل 3800 عام)، عندما قام عليه السلام برفع القواعد عند البيت الحرام، تُشير إلى سبب ديني لنشأة المدن. فرغم وجود قبائل عربية محيطة بالبيت، إلا أن بداية مكة المكرمة كمدينة بدأت مع هذا الحدث. ويذكر القرآن الكريم تفاصيل مهمة حول أهمية هذا البيت وأنه سيكون قبلة ووجهة للناس من كل فج عميق. ويظهر هنا ارتباط الجانب الديني بالاقتصادي بشكل واضح، فالحج عبادة ومنافع للناس أيضًا. ويبدو أن نشأة المدن لا تنفك عن الهدف الاقتصادي الذي يظل ثابتًا مهما تعددت الأسباب الأخرى، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن المدينة تُعنى بحياة الناس ورفاهيتهم حتى لو كان الغرض من نشأتها أمرًا آخر.
وهناك سبب رابع لبناء المدن وهو السبب السياسي، وهو الأكثر حضورًا عبر التاريخ، فهو مرتبط بشكل لصيق مع السبب الاقتصادي، فكثير من المدن بنيت لأسباب سياسية وعسكرية. وتظهر علاقة البُعد الديني بالسياسي بشكل واضح في مكة المكرمة، فتطورها العمراني قبل الإسلام جعلها محطة اقتصادية أساسية، ومركزًا للتجارة في الجزيرة العربية، كما أعطاها مكانة سياسية خاصة. وتجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى “دار الندوة” الذي مثل وقتئذ مجلس شورى لزعامات مكة، إذ لم يكن هناك زعيم واحد متفرد بالسلطة في هذه المدينة. وهذا التطور السياسي له أهمية كبيرة من الناحية العمرانية، ويؤكد تطور عناصر المدينة حسب المسار الزمني لتطورها.
ويمكن أن نشير هنا أيضًا إلى الخطوات التي شرع فيها الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، عند تأسيس العاصمة الأولى في الإسلام في يثرب، وكيف أصبحت بعد ذلك المدينة المنورة. كان الأنصار يسكنون في “آطام”، وهي عبارة عن قرى صغيرة أو أحياء مستقلة بعضها عن البعض الآخر، وكل حي يسكنه فخذ من الأوس أو الخزرج. ولما هاجر الرسول إلى يثرب أقطع الأراضي الفضاء بين آطام الأنصار للمهاجرين، فتكونت المدينة حول مسجده، الذي حل مكان “دار الندوة” أو مجلس الشورى في مكة المكرمة.
ويجب أن نذكر أنه كانت توجد في المدينة المنورة “صياصي” أي قلاع يسكنها اليهود، وهو نمط من القرى أو المدن الدفاعية، التي تطورت عبر التاريخ من أجل الحماية. يقول الله تعالى: “وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ” (الأحزاب: 26)، وهو الأمر الذي يعني أنه كانت هناك خبرة عمرانية متراكمة في أذهان المسلمين في صدر الإسلام، مكنتهم من بناء مدن جديدة بعد ذلك في الأمصار التي فتحها المسلمون في ذلك الوقت.
مدن إسلامية.. وانعطافة العصر العباسي
عمل الرسول، صلى الله عليه وسلم، على تذويب الانتماء القبلي عند تأسيس العاصمة الأولى في المدينة المنورة، إلا أن هذا الأمر لم يستمر طويلًا، فقد غلبت على المجتمع العربي طبائعهم البشرية من حيث الاستقطاب العرقي والقبلي والعائلي، وهذه الطبيعة أشبه ما تكون بالظاهرة التي ميزت المدن التاريخية والمعاصرة، فلا نكاد نجد في وقتنا الحاضر مدينة لا يوجد فيها استقطاب عرقي أو قبلي حتى وإن كان بشكل محدود.
في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، أمر رضي الله عنه ببناء مدينة البصرة (14-15 هـ)، فشيّدها عتبة بن غزوان عند التقاء نهري دجلة والفرات. وبعد معركة القادسية شيَّد الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص المدينة الثانية في الكوفة (638م). وكان الهدف من إنشاء المدينتين غاية عسكرية، وذلك من أجل إسكان فرق الجيش الإسلامي الفاتح الذي كان يتكون من قبائل عربية، ولذلك أمر الفاروق، رضي الله عنه، أن تقسم البصرة إلى مجموعة “خطط”، والخطة هي أشبه ما تكون بالحي الكبير، فأسكن كل قبيلة في خطة مستقلة، بينما ترك وسط المدينة للجامع ولإدارة المدينة.
لقد كانت إحدى الوقفات المهمة حول بناء البصرة في وقت مبكر جدًا، هي إعادة ثقافة القبيلة للمدينة، وكانت الخطوة مؤثرة جدًا في تطور المدينة العربية بشكل عام. كما يصعب التغافل عن المبادئ التي أسست لها كل من البصرة والكوفة كمدن كانت وظيفتها الأساسية معسكرات للجيش وتحوَّلت بعدها إلى مدن كبيرة متنوعة الثقافة، في حين أصبحت إحداها، وهي الكوفة، عاصمة الإسلام الثانية في عهد علي، رضي الله عنه.
ومن الواضح أن بناء المدن الجديدة له جذور عميقة في الثقافة العربية وتاريخها، وبالتالي يصعب ذكر جميع المدن التي نشأت من الصفر. فهناك، على سبيل المثال، مدينة القيروان في تونس التي أنشأها عقبة بن نافع عام 50هـ/ 670م، والتي تمثل نموذجًا أسهم في تكوين مدن شمال إفريقيا والأندلس. لكن معظم تلك المدن المبكرة كانت لها أهداف سياسية وعسكرية، وعملت على استقرار الدولة الإسلامية الجديدة.
حين جاء العصر العباسي، ظهرت بوضوح ظاهرة نشأة المدن الجديدة والمختلفة كليًا عن المدن التي بناها المسلمون قبل ذلك. فقد بنى الخليفة أبو جعفر المنصور مدينة بغداد (145هـ/ 762م)، وكانت على شكل دائري، مع احتفاظه بمبدأ موقع الجامع وديوان الحكم في المركز، بينما وُضعت أحياء المدينة على الأطراف. واستغرقت عملية البناء أربع سنوات، ويبدو أن اتساع الخبرة المدينية لدى المسلمين بعد اختلاطهم بالحضارات الكبرى المجاورة لهم، دفعهم لتوسيع الصندوق العمراني مع احتفاظهم الواضح بالمبادئ المؤسسة للمدينة العربية الإسلامية.
في العام 221هـ (835م) قام الخليفة المعتصم ببناء عاصمته الجديدة “سر من رأى” أو سامراء، وانتقل إليها مع قادة جيشه. وبعده بنى الخليفة المتوكل مدينة المتوكلية بالقرب من سامراء، وشيد فيها مسجده المعروف بمئذنته الملوية (245هـ/ 859م) والذي يسع ما يقارب من 70 ألف مصلٍّ. وعلى الرغم من أن بناء بغداد وسامراء والمتوكلية يطغى عليه الصبغة السياسية، إلا أنه لا يمكن تجاهل أهمية موقع المدينة، ففي جميع الأمثلة التي تناولناها كان هناك دور أساس لملاءمة الموقع الطبيعي وسهولة الوصول إليه وقربه من موارد المياه والموارد الطبيعية الأخرى.
نماذج عالمية.. المدن مرايا ثقافة الشعوب
بالنظر إلى ظاهرة بناء المدن من الصفر من منظور أوسع، نجد أنها دائمًا ما شكَّلت إحدى الأدوات الحضارية التي وظفتها شعوب العالم لخلق المجال الحيوي وللتعبير عن ثقافاتهم المتنوعة، إذ يصعب فهم ثقافة الشعوب وتطورها العمراني والتقني ومجالاتها الاقتصادية دون العودة لمدنها التي أنشأتها. ويمكن الإشارة هنا إلى المدن الرومانية التي انتشرت على رقعة واسعة مع تمدد الإمبراطورية، وشكلت نموذجًا دفاعيًا وترفيهيًا متكررًا، واعتمدت على النظام التخطيطي شبه الشبكي، على خلاف النظام العضوي الذي تبنته المدن العربية الإسلامية.
إذًا تظل المدينة وعمرانها إحدى أدوات التعبير الثقافي. لكن ماذا حدث بعد ذلك خاصة في القرن العشرين؟ وكيف بدأ العالم يتبنى نظامًا تخطيطيًا متشابهًا أقرب إلى النظام الروماني الذي تبناه الغرب، ليتخلى بذلك عن ثقافته المدينية والعمرانية الخاصة؟
يجب أن نعرج هنا على تجربة مدينة برازيليا، التي أصبحت عاصمة للبرازيل بدلًا من “ريودي جينيرو”، فقد قام المعماري البرازيلي “أوسكار نيماير” (Oscar Niemeyer) بتصميم المدينة عام 1960م، وساعده المخطط “لوسيو كوستا” (Lucio Costa). إلا أن المدينة لم تحقق النجاح المطلوب، ومثلت على الدوام أنموذجًا يكشف إشكالية التوجه الشمولي في بناء المدن، فقد أظهرت هذه المدينة، التي بنيت بشكل كامل من الصفر، الخلل في العلاقة بين المقياس المعماري المحدود بالمنتج المادي للعمران، وبين المجال العمراني الذي يتقاطع فيه المجتمع والاقتصاد والحركة والنمو الطبيعي للمدينة.
لقد أسهم فشل هذه التجربة بشكل مباشر، في تطور تخصص التخطيط العمراني منفصلًا عن العمارة، فالمدينة كائن حي ينمو ويتمدد ويتطور، ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار دورة حياة المدينة وسكانها وتغير أمزجة الأجيال التي تعيش فيها، وتحول تقنياتهم وأنماط حياتهم ومصادر اقتصادها. والمدينة بهذا المفهوم ليست فقط المكون العمراني المادي الذي نشاهده، بل إن غير المنظور الذي يسري مسرى الدم في الجسد ويبث الحياة فيه، هو الذي يصنع الحقيقة المتوارية عن أنظارنا للمدينة.
وعند مقارنة ما حدث لبغداد وتكوينها العمراني الدائري بمدينة برازيليا، رغم المسافة الزمنية بينهما، ورغم اختلاف السياقات التقنية والاقتصادية والثقافية، إلا أننا سوف نتأكد أن خلق مدينة في إطار مادي نهائي وشبه كامل غالبًا ما يواجه تحديات كثيرة منها: زيادة عدد السكان، والحاجة إلى التمدد العضوي. فبغداد لم تستمر دائرية لفترة طويلة، إذ تلاشت حدودها الأصلية بعد هجرة الناس إليها، وذابت مدينة المنصور وسط المدينة الآخذة في الاتساع.
المدينة لا تقبل التجانس
يضاف إلى ما ذكر آنفًا، أن المدينة قائمة على التنوع واللاتجانس، وهذه ظاهرة طبيعية واقتصادية ميزت المدن الكبرى عبر التاريخ. لذلك فإن أي محاولة لخلق مجتمع مديني متجانس ستكون محاولة غير ناجحة، وقد تقود إلى ارتكاب أخطاء في القرارات التخطيطية، وهو السبب نفسه الذي جعل من فكرة المدينة الفاضلة لا تلاقي أي نجاح عبر التاريخ. لم تصمد مدينة بغداد لأنها احتوت أنموذجًا تخطيطيًا شاملًا ومتكاملًا، ولم تنجح برازيليا للسبب نفسه، فكل مدينة يجب أن تنمو وتكبر وتمر بدورة الحياة الطبيعية التي قدر لها ويفترض أن تمر بها.
نستطيع أن نشير إلى مثال آخر لبناء عواصم إدارية جديدة، فمدينة “بتروجايا” في ماليزيا بُنيت من أجل أن تخفف العبء على مدينة كولالمبور. فقد تبنّى مهاتير محمد فكرة إنشاء عاصمة إدارية جديدة عام 1999م، إلا أنه حتى اليوم، وبعد مرور أكثر من ربع قرن، لا يزال هناك عزوف ملحوظ من قِبل الإدارات وحتى السفارات الأجنبية للانتقال إلى المدينة الجديدة، وذلك رغم أنها من حيث المكون العمراني تشكل أحد النماذج التي تم التخطيط لها وتنفيذها بعناية فائقة. تظل الإشكالية الأساسية هنا هي احترام التطور العضوي الطبيعي للمدينة. لكن ربما أسهم الموقع البعيد نسبيًا عن العاصمة كوالالمبور، في حالة “بتروجايا”، في عزوف الكثير عن الانتقال إلى المدينة الجديدة، فمن الصعوبة بمكان تغيير أنماط حياة مستقرة وإجبارها على الانتقال إلى مكان آخر دون وجود حافز مقنع.
قد نتفق هنا على أنه من الصعب إعداد تصور واضح يمكن الاعتماد عليه لدورة حياة أي مدينة من العدم، وغالبًا ما تواجه المدن التي تنشأ من العدم إشكالية الصورة الذهنية المخزنة في أذهان سكانها الجدد. وهذا يقودنا إلى تساؤل جوهري: هل تُبنى العمارة قبل تحديد من يستخدمها؟ قد يكون هذا التساؤل لا معنى له في نظر البعض، طالما أن العمارة أصلًا تبقى بعد فناء من بناها ابتداءً، وغالبًا ما تتوارثها الأجيال حسب التغيرات التي تطرأ على حياتها.
مدن البترول.. والخصوصية السعودية
الخصوصية واضحة جدًا في تجربة بناء المدن الجديدة في المملكة العربية السعودية، خاصة إذا ما لاحظنا ظاهرة المدن البترولية في القرن العشرين، التي انتشرت في مناطق مختلفة من العالم، لكنها ظهرت بوضوح في شرق المملكة وشمالها. فمع اكتشاف النفط وتصديره عام 1938م، نشأت بعض المدن الجديدة في الظهران وبقيق ورأس تنورة. ومع بناء التابلاين عام 1948م، ظهرت مدن تخدم هذا الخط مثل عرعر، لكن لا يمكن أن نقول إن هذه المدن بُنيت بشكل شمولي ومتكامل، بل تُركت للنمو التدريجي وتطورت خلال مدة طويلة، رغم أنها كانت مدنًا وظيفية وتخدم هدفًا اقتصاديًا ومرتبطًا بإنتاج النفط وتصديره.
إلى ذلك، يمكن أن نضيف مدينتي الخبر والدمام اللتين نشأتا على ساحل الخليج بعد هجرة بعض قبيلة الدواسر من البحرين في العشرينيات من القرن العشرين وموافقة الملك عبدالعزيز على منحهم المواقع التي بنوا فيها بيوتهم. في واقع الأمر لم يكن لمدينتي الخبر والدمام أن تنموا من دون وجود شركة أرامكو السعودية التي قامت بوضع أول مخطط عمراني لهما عام 1947م.
ومع ذلك، فجميع المدن التي نشأت في المنطقة الشرقية قبل تأسيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع عام 1395هـ/ 1975م، لم تكن مدنًا شمولية، بل نشأت من العدم لكنها تطورت بالتدريج. إذًا نستطيع أن نفكر في مدينتي الجبيل وينبع في المملكة على أنهما تمثلان عصرًا جديدًا في بناء المدن المتكاملة، وبالتأكيد فقد واجهت هذه التجربة التي مضى عليها ما يقارب نصف قرن كثيرًا من التحديات.
وسوف نشير هنا إلى ملاحظتين، الأولى: أن ما يهم الناس هو الشعور بالانتماء الاجتماعي والمــكاني أكثر من جودة المكـان العمراني، فقد بُنيت كُلٌّ من الجبيل وينبع بجودة عالية على مستوى البنى التحتية والفوقية، إلا أن الناس لم يرغبوا في الانتقال إليهما في البداية.
الملاحظة الثانية: هي أن المكوّن الاقتصادي للمجتمع، والتغيرات التي قد تطرأ عليه، وزيادة حدِّ المنافسة على الفرص الاقتصادية، قد تجعل الناس يتقبلون كثيرًا الأفكار الجديدة، وبناء حياة اجتماعية جديدة في سبيل الحصول على الفرص المتاحة، وهذا ما حدث في مدينتي الجبيل وينبع بعد ذلك.
في واقع الأمر، إن التحولات، التي حدثت في الصورة الذهنية العمرانية للأسرة السعودية الشابة، دفعت بالكثيرين لأن ينتقلوا إلى المدينتين الجديدتين، ويبدو أن ما كنا نعتقد أنه قد يكون تجربة فاشلة، أصبح ممكنًا أن يكون مثالًا يحقق نجاحًا باهرًا.
نيوم .. ذا لاين
لعل السؤال الذي يمكن أن نطرحه في وقتنا الراهن، وبعد الأفكار العمرانية غير المسبوقة التي قدَّمتها المملكة في الفترة الأخيرة، خصوصًا المدن الجديدة مثل “نيوم” و “ذا لاين”، هي: ما مدى فرص النجاح الاجتماعي لهذه المدن؟
استنادًا إلى تجربة مدينتي الجبيل وينبع، يمكننا أن نعول اليوم على ظروف متغيرة أكثر أهمية مما سبق، تجعل مشروع نيوم ومدينة ذا لاين مشروعات ناجحة، وذلك لتوفر متغيرين رئيسين يحتمان نجاح هذا المشروع وهما: التغيرات المناخية المقبلة، ومشروع الهيدروجين الأخضر الضخم ذو البعد العالمي في نيوم.
عند الإعلان عن مشروع ذا لاين في نيوم، صرح سمو ولي العهد ورئيس مجلس إدارة شركة نيوم، فقال: “على مدى العصور، بُنيت المدن من أجل حماية الإنسان بمساحات ضيقة. وبعد الثورة الصناعية بُنيت المدن لتضع الآلة والسيارة والمصنع قبل الإنسان”. وأضاف سموه: “نحن بحاجة إلى تجديد مفهوم المدن إلى مدن مستقبلية. اليوم بصفتي رئيس مجلس إدارة نيوم أقدم لكم (ذا لاين): مدينة مليونية بطول 170 كم، تحافظ على %95 من الطبيعة في أراضي نيوم، صفر سيارات، صفر شوارع، وصفر انبعاثات كربونية”.
أما المتغير المهم الآخر هو مشروع الهيدروجين الأخضر في نيوم، الذي يُعدُّ أضخم مشروع من نوعه في العالم، كما جاء في عنوان مقالة نشرتها مجلة بلومبيرغ في 7 مارس 2021م، وهو سيجعل من نيوم مركزًا عالميًا لإنتاج الطاقة البديلة وتسويقها، وقد نشرت مجلة القافلة مقالة وافية عن ذلك في مايو/يونيو 2021م.
وبالإضافة إلى التغيرات التقنية الكبيرة، خصوصًا الذكاء الاصطناعي، يمكن أن نقول إن ما تقدِّمه ذا لاين من أفكار حضرية جديدة سيمثل المستقبل، وسيعيد تعريف المكان الإنساني بصورة ثورية مغايرة لكل الأدبيات التي كانت معروفة سابقًا.
اترك تعليقاً