مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2023

لغويات

التعددية اللغوية في الألفية الجديدة


أ . د. صالح بن ناصر الشويرخ
أستاذ اللسانيات التطبيقية بجامعة الإمام محمد بن سعود

تعتبر التعددية اللغوية وما يتصل بها من تعددية ثقافية من خصائص الألفية الجديدة، ومن الظواهر اللغوية والاجتماعية شائعة الانتشار في هذا العصر. فالمجتمعات الحديثة متعددة، سواء أكان ذلك على مستوى اللغة أم على مستوى الثقافة، فاستعمال لغتين أو أكثر يمثل النمط الطبيعي لأكثر من ثلاثة أرباع البشر. والتعددية اللغوية هي أي درجة من القدرة اللغوية تمكّن الفرد من استعمال لغتين أو أكثر. فالشخص متعدد اللغات هو الذي يستطيع أن يتواصل بأكثر من لغة، سواء أكان ذلك إنتاجًا، تحدثًا وكتابة، أم استقبالاً، استماعًا وقراءة. وتُعرّف المفوضية الأوروبية التعددية اللغوية بأنها قدرة المجتمعات أو المؤسسات أو المجموعات أو الأفراد على استعمال أكثر من لغة في حياتهم اليومية بطريقة منتظمة.

وهناك عدد من العوامل التي ساعدت في انتشار التعددية اللغوية. أولاً: الاستعمار، حيث كان له دور جوهري في استعمال لغتين مختلفتين في منطقة واحدة. ثانيًا: الهجرة إلى أكثر المناطق ثراء، مما زاد الحاجة إلى التواصل بين البلدان. ثالثًا: المحافظة على لغات الأقليات في كثير من البلدان، مما أدى إلى وجود لغتين في مكان واحد. رابعًا: الدعوة إلى تعليم أكثر من لغة في المدارس في كثير من دول العالم. خامسًا: انتشار استعمال وسائل التواصل الاجتماعي. علاوة على ذلك، كان لوسائل الإعلام المختلفة دور في انتشار اللغات الأجنبية في مختلف المجتمعات، فالتعددية اللغوية أصبحت في المجتمع الحديث ضرورة لا يمكن تجنبها أو تجاهلها.

وللتعددية اللغوية فوائد لا حصر لها، تشمل الجوانب الإدراكية والشخصية والاجتماعية والأكاديمية والمهنية للأفراد. فعندما يكون الإنسان قادرًا على التحدث بعدة لغات، يكون قادرًا على إدراك الاختلافات الثقافية الدقيقة، وعلى تقدير المسائل التي يصعب في كثير من الأحيان ملاحظتها من قِبل الشخص أحادي اللغة. فقدرة المرء على إتقان أكثر من لغة تمكّنه من رؤية العالم المحيط به من زوايا متعددة لتمنحه رؤى جديدة وفهمًا أكثر دقة وعمقًا للثقافات التي تمثلها اللغات الأخرى. وتسهم التعددية اللغوية في تسهيل التفاعل بين الأفراد المنتمين إلى ثقافات وخلفيات لغوية مختلفة. فسبب التوترات والخلط والتشويش والاختلال العاطفي عند مواجهة رؤى ثقافية جديدة، هو عدم القدرة على تفهم الاختلافات وتقديرها. والتعددية اللغوية تساعد في التعامل مع هذه التفاوتات وتخلق حساسية ثقافية، تؤدي إلى تفاعلات عالمية ناجحة، خاصة في السياقات المهنية. إن الكفاية اللغوية في عدة لغات تساعد المرء في تعلم مذاهب مختلفة في الملاءمة التداولية والمقبولية اللغوية أو الاجتماعية. وبناء على ذلك، يمكننا القول إنه يمكن من خلال التعددية اللغوية زيادة الوعي بالفروق الثقافية والشعور بالتعاطف مع هذه الفروق على المستوى اللغوي (خاصة المستوى التداولي) وعلى مستوى القيم والطباع. فمتعدد اللغات يكون على وعي بمختلف طرق التواصل، ويعتمد على السياق المتصل بمختلف الثقافات وليس ثقافته الأصلية فحسب.

وهناك أيديولوجيتان لغويّتان شائعتان ذواتَا صلة مباشرة بالتعليم، ومرتبطتان بمفهوم الدولة القُطرية: الأولى الإيمان بالمعيارية اللغوية، والثانية الإيمان بالأحادية اللغوية. إن الأحادية اللغوية المتمثلة في اللغة المعيارية فكرة شائعة وأيديولوجية منتشرة ذات جذور عميقة. ومن مظاهرها انتقاد اللهجات والتناوب اللغوي وجميع أشكال المزج اللغوي، ومن مظاهرها البارزة في الولايات المتحدة الأمريكية حركة “الإنجليزية فقط”.ومع ذلك، بدأت بعض المنظمات والأفراد في مواجهة مثل هذه الأيديولوجيات، فقد أطلقت مدينة شيكاغو مبادرة اسمها “شيكاغو متعددة اللغات”، وهي مبادرة ترفض الأيديولوجية أحادية اللغة، وتؤيد استعمال اللغات الأخرى غير الإنجليزية وانتشارها. وقد صادَق مجلس المدينة في 14 مارس 2007م على هذه الوثيقة، مما يعني إمكانية إحداث تغيير في السياسة اللغوية للمدينة.

ثم إن المفوضية الأوروبية تشجع ظاهرة التعددية اللغوية؛ إذ إن لديها سياسة خاصة بالتعددية اللغوية، كما أنها تحمل شعار “متحدون في التنوع”، وهو يرمز إلى ما يمكن أن يسهم به التنوع اللغوي وتعلم اللغات في نجاح المشروع الأوروبي. فاللغات تساعد في توحيد الناس، وتجعل الأفراد قادرين على الوصول إلى البلدان الأخرى وثقافاتها، وتعزز الفهم المتقاطع ثقافيًا. إن المهارات اللغوية في اللغات الأجنبية تؤدّي دورًا مهمًا في تعزيز التنقل بين الأمم، والتعددية اللغوية تحسن التنافسية للاقتصاد الأوروبي. وقد اتفق أعضاء المفوضية على تعزيز التعاون في مجال التعددية اللغوية وتحسين تدريس اللغات في المدارس. فالوكالة تعمل مع الحكومات المحلية لتحقيق أهدافها الطموحة المتمثلة في تشجيع جميع المواطنين الأوروبيين على تعلّم لغتين أجنبيتين على الأقل مع البدء في تعلّم اللغات الأجنبية في سن مبكرة. كما أن الاتحاد الأوروبي يشجع التعددية اللغوية من خلال وضع سياسات تتطلب من المواطنين تعلّم ثلاث لغات على الأقل؛ لغتين إلى جانب اللغة الأم.


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “التعددية اللغوية في الألفية الجديدة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *