ومن الطموحات أن يدفع هذا الحدث مدارس العمارة صوب الثقافة التجريبية، التي تركز على اكتشاف القوة المحلية الكامنة في المعماريين السعوديين وفي المعرفة المحلية التي يمكن أن تكون قوة تقنية متجددة. ويُفترض أن يوجّه إكسبو، سؤالًا مباشرًا إلى مدارس العمارة في المملكة حول ماهية استعدادها لهذا الحدث، وماذا يمكن أن تقدم من أفكار وتقنيات تحاور بها العالم الذي سيتجمّع في عاصمتها. ولعل السؤال المباشر حول هذا التحدي هو: كيف يمكن أن يغيّر إكسبو ثقافة التعليم المعماري في المملكة؟
التحديات التي تواجه العمارة السعودية ليست مرتبطة بشكل مباشر بإكسبو بوصفه حدثًا مهمًا يجعلنا في منافسة مع ما سوف يقدمه العالم من عمارة. فالفرصة تبدو سانحة في السنوات المقبلة، لصناعة جيل يفكر في العمارة كحلقة وصل تربطه بالعالم؛ جيل يرتبط بجذوره، لكنه يعرف كيف يخاطب العالم من خلال العمارة التي ينتجها. فلطالما كانت العمارة لغة صامتة يجري فيها ومن خلالها تبادل الرسائل الثقافية والاجتماعية والجمالية بين الشعوب؛ لذلك يجب ألا ننظر إلى إكسبو على أنه مجرد معرض، بل هو حدث يصنع التغيير على المستوى العمراني والسياحي وحتى الثقافي والتعليمي.
كانت العمارة دائمًا تقود التطورات التقنية والنقل والتخطيط العمراني، عبر هذا اللقاء الذي يحمل “التطورات الخمسية” التي تحدث في العالم مع كل إكسبو، وكانت التجارب الناشئة هي مفتاح التطور التقني والصناعي وبناء النظريات والأفكار المعمارية الجديدة. فهل استمر إكسبو في دوره؟ وهل لم يزل يقدم التجارب الجديدة التي ستقود التطورات العمرانية خلال السنوات المقبلة؟ لا أحد يجزم بما سيؤول إليه المعرض بعد كل هذه السنوات والتغيرات الكبيرة التي يخوضها العالم. لكن يمكننا أن نجري حوارًا حول “عمارة الإكسبو” كفضاء جامع للأفكار التي تخوض فيها دول العالم وتحاول من خلالها أن تعبر عن شخصياتها. ويمكننا القول إن التحول الكبير الذي حدث في إكسبو، أنه أصبح معرضًا لشخصيات المدن والدول، وأصبحت العمارة إحدى الأدوات التي تُصنع من خلالها هذه الشخصية. ربما هذا ما جعل التجارب الناشئة في مجال العمارة، تتراجع بعض الشيء لفتح المجال للأفكار التسويقية وصناعة المحتوى السياحي والتواصل الثقافي بين الدول المشاركة في المعرض.
في إكسبو دبي، بدا من مشاركات الدول أن العمارة تمر بمأزق كبير، وأن المستقبل يخبئ “غموضًا معماريًا وتقنيًا” غير مسبوق. وفي الوقت نفسه، أعلنت جائزة “بريتزكر” للعمارة، التي يعتبرها المعماريون جائزة نوبل المعمارية، عن الفائز عام 2021م، تزامنًا مع معرض دبي، وهو معماري شاب من بوركينا فاسو يُدعى ديبدو فرانسيس كيري؛ وذلك لأن هذا المعماري استطاع بأفكاره التصميمية التي نفذها بنفسه، تغيير الوضع العمراني والحياتي في قريته البسيطة من خلال تصاميم عميقة وبمواد محلية متفاعلة مع البيئة.
فرصة للعودة بالعمارة إلى إنسانيتها
المهمة بين العمارة الاستعراضية في إكسبو واحتفاء جائزة “بريتزكر” المرموقة بالتجربة المعمارية المحلية، تؤكد الفجوة الفكرية والمهنية الكبيرة بين التجارب المعمارية العميقة التي غيّرت شكل العالم خلال القرن الأخير، وبين السباق الإعلاني المحموم الذي بدأت تنتهجه مدارس العمارة المعاصرة. صراع كبير بين العمارة الاستعراضية التي تنحى منحى تسويقيًا، وبين التجارب البسيطة المؤثرة التي تفتح مجالات إنسانية واقتصادية جديدة. يبدو أن توجه جائزة “البريتزكر” كان رومانسيًا، وأن منح الجائزة لمعماري إفريقي يريد أن يقول: إن ممارسة العمارة المعاصرة وصلت إلى مرحلة أخرجتها عن دورها الحقيقي، وإن تجربة هذا المعماري، الذي يقبع في قريته البعيدة وربما لا يراها إلا قلة من الناس، أصبحت نادرة في عالمنا المعاصر. فاستمرار البعض في ممارسة العمارة الحقيقية، كما عهدناها عبر التاريخ، أصبح نادرًا ويستحق التقدير، فيما يُفترض أن يكون إكسبو هو المسرح الأكبر لعرض هذه التجارب.
ومن التجارب الناشئة، ما شاهدناه في “إكسبو هانوفر” عام 2000م، عندما قدّم المعماري الياباني شيجيرو بان، تجربة فريدة ببناء جناح اليابان من الورق المقوّى المعاد تدويره. تلك المحاولة، رغم امتداداتها التقنية، عكست حسًا بالمسؤولية الإنسانية. فمثل هذه التجارب النادرة التي تبيّن كفاح الإنسان من أجل الاستدامة، ومن أجل خلق خيارات متعددة للشعوب الأقل حظًا في مواردها الطبيعية والاقتصادية؛ كانت تمثل روح الإكسبو عبر تاريخه الطويل. ويُفترض أن يكون هذا الهدف هو طموح إكسبو الرياض، وأن يرتبط بالرياض الخضراء والسعودية الخضراء، وأن يبعث بالقيم التي يؤمن بها السعوديون وقد شكلت جوهر رؤية بلادهم 2030.
لا نستطيع أن نتجاوز أن إكسبو في نسخه الأخيرة، صار يعمل على ترسيخ الهوية المعمارية التسويقية مقارنة بأي رسائل أخرى، وأن القضايا المعمارية الكبيرة التي كانت تشغل المهتمين بهذا المجال تراجعت بشكل واضح، وتحتاج إلى أن تُبعث من جديد. إكسبو الرياض سيكون في مواجهة كل هذه القضايا التي تعتمل في أذهان المهتمين، وهي فرصة سانحة لتأكيد رؤية سمو ولي العهد، حول الشرق الأوسط الأخضر والقيم المرتبطة بجودة الحياة التي تشكل مفصلًا مهمًا في رؤية المملكة 2030. والإجابات التي يُفترض أن يقدمها هذا المعرض هي كيف أسهمت رؤية المملكة في خلق شخصية جديدة للسعودية والسعوديين، ليس على مستوى الحياة الاجتماعية الثقافية فقط، بل على مستوى التفكير والإبداع، وهذا قد يحمّل المعرض حملًا ثقيلًا، بيْدَ أنه يستحق العناء.
اترك تعليقاً