نمرُّ جميعًا بفترات قصيرة، أحيانًا ما بين اليقظة والنوم، وأحيانًا أخرى خلال أدائنا عملًا ما بانسجام كلي، تجعلنا ننجرف إلى ما يشبه أحلام اليقظة. في مثل هذه اللحظات، يندمج الخيال بالخبرات الكثيفة، ويُمكن أن تتولّد عن ذلك أفكار قد تكون مهمة جدًا عند البعض. وقد كُتب الكثير عن هذه اللحظات، لكن العلماء بدؤوا حديثًا دراستها بوصفها مقدمة لتأسيس علم للإبداع بات حاجة ماسة على أنه إحدى المهارات الرئيسة للمستقبل. فالذكاء الاصطناعي يستحوذ على الوظائف الروتينية، ولن يبقى للبشر سوى الوظائف الإبداعية، وفي وقت قريب سيصبح غياب القدرة على التفكير الإبداعي هو الأمية الجديدة.
حقق الكيميائيون الألمان في ثمانينيات القرن التاسع عشر تقدمًا كبيرًا في فهم الكيمياء الهيكلية. لكن مركّب البنزين بقي لغزًا عصيًا على الحل. وبينما كان عالم الكيمياء الألماني أوغست كيكولي (1829م – 1896م) مستريحًا أمام المدفأة، غفا مستغرقًا في التفكير بهذا اللغز، فظهرت في خياله البصري صور تشير إلى بنيتها. وكتب لاحقًا أنه رأى ذرات تتراقص متجمعة معًا على طول خيط غير مرئي، “يلتف في حركة تشبه حركة الثعبان، ثم تحولت الذرات إلى ما يشبه ثعبانًا يلتف في دائرة ويأكل ذيله”.
أدرك كيكولي حينئذٍ أن بنية البنزين يجب أن تتكون من حلقـة من ذرات الكربـون، يرتبط كلٌّ منها بذرة هيدروجين. كانت تلك لحظة علمية فارقة، وتقول مجلة “هارفرد ميدسن” (Harvard Medicine) التي أوردت هذه القصة في خريف 2022م: “غيَّر هذا الاكتشاف فهم العلماء للكيمياء الحيوية، وسمح بإحراز تقدم في كثير من المجالات، بما في ذلك تطوير المستحضرات الصيدلانية”. وأضافت: “تسمى هذه اللحظة التي عاشها كيكولي بالهيبناغوغيا. ويُعتقد على نطاق واسع أنها مكان جميل للإبداع. لقد عبَّر العلماء والمبتكرون، مثل: كيكولي وألبرت أينشتاين وتوماس أديسون، عن هذا المسار الدماغي بحثًا عن حلول للمشكلات. كما استخرج الفنانون والموسيقيون الأفكار منها ووجهوها إلى أعمالهم”.
الكتابة في السرير
هناك كثير من القصص الطريفة الأخرى حول كيف كان مبدعون كبار يؤلفون أعمالهم لاقتناص تلك اللحظات الإبداعية، كما جاء في صحيفة “الغارديان” في 28 أبريل 2011م. إذ كتب الروائي الفرنسي مارسيل بروست روايته “بحثًا عن الزمن المفقود” وهو في السرير. وهكذا كان يفعل كلٌّ من الروائي الأيرلندي جيمس جويس، والروائي الأمريكي مارك توين، والشاعر الإنجليزي ووردثورد، والقاصة الأمريكية إديث وارتن. وكتب الروائي الإنجليزي جورج أورويل روايته الديستوبية “1984” في عام 1949م، واضعًا آلة الطباعة على السرير، واللائحة تطول.
أمَّا توماس أديسون، فكان عندما يعجز عن التقاط فكرة جديدة أو ابتكار حل ما، كما تقول مجلة “ساينس” (Science) في 8 ديسمبر 2021م: “كان يأخذ قيلولة حاملًا كرة فولاذية. وعندما يبدأ في النوم وتسترخي عضلاته تضرب الكرة الأرض، فتوقظه وتخبره بالحل”. أمَّا الرسام السوريالي الإسباني سلفادور دالي، فكان يعتقد أن مقاطعة بداية النوم يمكن أن تعزّز الإبداع؛ فاستخدم مفتاحًا ثقيلًا بدلًا من الكرة المعدنية.
ما تقوله الأبحاث الجديدة
الآن، بعد مرور أكثر من قرن، كرّر العلماء حيل أديسون وغيره في المختبر. وفي أول دراسة في هذا الخصوص أجراها باحثون من المعهد الوطني للصحة والأبحاث الطبية في باريس، ونشرتها مجلة “ساينس أدفانسس” (Science Advances) في 8 ديسمبر2021م، جنّد الباحثون أكثر من 100 شخص ينامون بسهولة، واختبروهم من خلال عرض مسألة رياضية لحلها. جرى تشجيع أولئك الذين حاولوا وفشلوا في إيجاد حل في المرة الأولى على أخذ قيلولة حاملين زجاجة في أيديهم على نمط أديسون ودالي، حيث تسقط لا إراديًا عند الدخول في مرحلة الهيبناغوغيا “الهلوسة التنويمية”. وكانت النتيجة أن %83 من أولئك الذين مروا بالهيبناغوغيا ولم يناموا تمكّنوا من حل مسألة الرياضيات، مقارنة بـ%31 فقط من أولئك الذين لم يناموا، و%14 من أولئك الذين ناموا تمامًا وصولًا إلى النوم العميق. وقالت الباحثة في مجال النوم في معهد باريس للدماغ والمشاركة في البحث، دلفين أودييت: “تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى وجود نقطة إبداعية رائعة أثناء بداية النوم. إنها نافذة صغيرة يمكن أن تختفي إذا استيقظت مبكرًا أو نمت بعمق”. وأضافت أن فريقها خطّط بالفعل لإجراء تجربة لمساعدة الأشخاص على الوصول إلى منطقة إبداعية من خلال مراقبة موجات أدمغتهم في الوقت الفعلي. وقالت: “كان حدس أديسون صحيحًا إلى حد ما، والآن لدينا الكثير لنستكشفه”.
ردود فعل واسعة
أحدث هذا الاختبار ونتيجته أثرًا كبيرًا في الأوساط العلمية المعنية، إذ حفَّز جامعات أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية على اقتفاء أثر هذه الظاهرة كما سنرى. وعلَّق على هذه النتيجة عالم الأعصاب الإدراكي بجامعة نورث وسترن، كين بالر، قائلًا: “إنها دراسة رائعة. فقد أظهرت الأبحاث السابقة أن المرور بمراحل النوم العميق يساعد على الإبداع. لكن هذا هو أول بحث يستكشف بالتفصيل فترة بداية النوم ودورها في حل المشكلات”. أمَّا باحث النوم توري نيلسن من جامعة مونتريال، فقد فُوجئ بالنتيجة، خاصة التأثير الكبير لمثل هذه الفترات القصيرة جدًا من النوم. لقد افترض العلماء سابقًا أن الأمر سيستغرق فترات أطول من النوم للمساعدة في حل المشكلات، كما يقول نيلسن.
دراسة جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس
استكمالًا للدراسة السابقة، أجرى باحثون من جامعتي هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، اختبارًا جديدًا لمعرفة إن كان بإمكانهم توسيع نتائج دراسة معهد باريس للدماغ حول حل مهمة تتعلق بالأرقام، إلى مجالات أكثر ارتباطًا بالإبداع، مثل رواية القصص. إذ أرادوا أيضًا أن يستكشفوا هل يُمكنهم توجيه محتوى أحلام الأشخاص وكيف يمكن أن يؤثر هذا المحتوى الموجه في الإبداع، ونشرت الدراسة في “إم آي تي نيوز” (MIT News) في 15 مايو 2023م.
قسّم الباحثون 49 مشاركًا إلى أربع مجموعات. ومُنحت إحدى المجموعات 45 دقيقة للقيلولة، بينما حفَّزهم جهاز دورميو على الحلم بشجرة، ثم سجّل وصفهم لأحلامهم. وفي كل مرّة كان يحدث فيها الإبلاغ عن حلم، كان الجهاز يشجّع مرتديه على العودة إلى النوم وحثّه مرة أخرى على الحلم بشجرة. وحفَّز جهاز دورميو مجموعة أخرى على مراقبة أفكار أفرادها فقط. أمَّا المجموعتان الأخريان، فبقيتا مستيقظتين مدة 45 دقيقة. تلقّت إحداهما حثًا على التفكير في الأشجار، بينما طُلب من المجموعة الأخرى مراقبة أفكارها فقط. بعد 45 دقيقة من القيلولة أو الاستيقاظ، طُلب من المشاركين أداء ثلاث مهام حُدّدت مسبقًا لربطها بموضوع الإبداع. تمثّلت المهمة الأولى في كتابة قصة إبداعية تتضمن كلمة “شجرة”.
الذين طُلب منهم أن يحلموا بالأشجار أنتجوا أكثر القصص إبداعًا، وفقًا لتقييم المقيِّمين البشريين الذين قرؤوا القصص ولم يكونوا على دراية بالمشاركين الذين كانوا في كل مجموعة. أمَّا الأشخاص الذين أخذوا قيلولة، ولكن لم يُعطوا حافزًا محددًا، فقد أظهروا أيضًا قدرًا من الإبداع أكثر من الذين بقوا مستيقظين طوال التجربة. وعندما حلل الباحثون المهام الثلاث، كان أداء المشاركين الذين أخذوا قيلولة مع تحفيز أحلامهم، أكثر إبداعًا بنسبة %43 من المشاركين الذين أخذوا قيلولة من دون تحفيز، و%78 أكثر إبداعًا من أولئك الذين ظلوا مستيقظين من دون تحفيز. ووجد الباحثون أيضًا أن الأشخاص الذين أخذوا قيلولة حققوا أداء أفضل في مقياس آخر يتعلق بالإبداع، يُعرف باسم “المسافة الدلالية”. يشير هذا المقياس إلى مدى تباعد كلمتين أو مفهومين في معناهما. على سبيل المثال، الأم والأب أقرب مسافة من الأم والضفدع. وفي مهام توليد الفعل والاستخدام البديل، وجد الباحثون أن الأشخاص الذين أخذوا قيلولة أنتجوا مجموعات من الكلمات ذات مسافة دلالية أكبر بكثير من أولئك الذين بقوا مستيقظين. وهذا يدعم النظرية القائلة إن الدماغ، أثناء بداية النوم، يجمع مفاهيم لا يستطيع جمعها أثناء ساعات الاستيقاظ.
لحظات إبداعية أخرى
وكشفت دراسة حديثة استُخدم فيها التصوير العصبي، أجراها باحثون من جامعتي دريكسيل وجونز هوبكنز الأمريكيتين، ونشرت في “دريكسيل نيوز” (Drexel News) في 4 مارس 2024م، كيف يصل الدماغ إلى حالة التدفق الإبداعي. وجرى فيها التحقق من نظريتين متعارضتين حول هذه الحالة: إحداهما يُنظر فيها إلى الإبداع على أنه تركيز مكثف على مهمة ما. وفي الأخرى، يُخفف التركيز والتحكم الواعي خلال أداء مهمة ما.
تستند النظرية الأولى إلى حقيقة أن التدفق الإبداعي يحدث عندما تتولّى “شبكة الوضع الافتراضي” في الدماغ، وهي مجموعة من مناطق الدماغ التي تعمل معًا عندما يكون الشخص في حالة تشبه التأمل العميق، توليد الأفكار تحت إشراف “شبكة التحكم التنفيذية” التي تقع في الفصين الأماميين للدماغ، والتي توجّه أنواع الأفكار التي تنتجها شبكة الوضع الافتراضي.
أمَّا النظرية الثانية، فتطرح فكرة أن الدماغ، بعد سنوات من الممارسة المكثفة، يطوّر شبكة أو دائرة متخصصة لإنتاج نوع معين من الأفكار تلقائيًا، كالأفكار الموسيقية وغيرها، مع القليل من الجهد الواعي. ومن هذا المنطلق، تُخفف شبكة التحكم التنفيذية من إشرافها حتى يتمكن الموسيقي من “ترك” حالة التدفق الإبداعي تعمل من دون تدخل. والفكرة الأساسية في هذه النظرية هي أنه إذا لم يكن لدى الشخص خبرة مسبقة، فلن يصل إلى الإبداع. اختبر الباحثون هاتين النظريتين من خلال تسجيل تخطيط كهربية الدماغ (EEGs) عالي الكثافة لـ32 عازف جيتار جاز يتمتعون بمستويات خبرة متفاوتة.
وأظهرت النتائج أن النظرية الثانية هي التي تؤدي فعليًا إلى حالة التدفق الإبداعي. أي أن المبدع يعيش في حالة من عدم التركيز والتحكم الواعي. والاستنتاج المهم الآخر هو أنه من دون خبرة عميقة في موضوع معين لا نستطيع أن نبدع فيه.
لماذا كَثُرت أبحاث الإبداع؟
تستهل مجلة “هارفرد بزنز ريفيو” (Harvard Business Review) (يناير- فبراير 2023م) مقالة حول الموضوع بالتالي: “إحدى جزر الاستقرار في بحر النقاش حول مستقبل العمل، هي الاقتناع بأن وظائفنا ستصبح إبداعية بشكل متزايد. ويبدو أن المنتدى الاقتصادي العالمي، ومؤسسة ماكينزي، وكل المؤسسات البحثية الكبرى تقريبًا، متفقة حول هذه الفرضية… وبدأت شركات عديدة بالفعل بتضمين الإبداع بوصفه كفاءة أساسية للموظفين على جميع المستويات”.
ولا يقتصر هذا الاتجاه على تفويض المهام الروتينية إلى الذكاء الاصطناعي فحسب، بل يتعلق الأمر أيضًا بتسارع وتيرة التغيير والتعقيد المتزايد للأعمال، وهذا يتطلب استجابات مبتكرة للتحديات الجديدة بشكل متكرر وفوري أكثر من أي وقت مضى. علمًا أن هناك فجوة تتسع مع الوقت، بين ما يتطلبه سوق العمل من مهارات إبداعية وبين ما يقدمه نظام التعليم الذي يبدو متخلفًا عن الركب. وعلى الرغم من أن علم الإبداع لا يزال في مرحلة الولادة، بحسب المصدر نفسه المذكور آنفًا، فإن معالم تقدمه أصبحت واضحة.
دورميو الأحلام
ربَّما لا يحتاج المبدعون في المستقبل إلى الاعتماد على أساليب تتضمن مفاتيح أو كرات حديدية أو آلة طباعة في السرير، بل يختارون بدلًا من ذلك حلًا تكنولوجيًا مصممًا خصوصًا للبقاء في حالة الهيبناغوغيا وتعزيز قدراتها الإبداعية. فقد طوّر العلماء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نموذجًا أوليًا أطلقوا عليه اسم “دورميو” (Dormio)، أثبت فعالية مدهشة في هذا المجال. الغرض الرئيس من دورميو هو تسجيل الأحلام وتحفيزها على أحلام محددة يختارها المستخدم في بداية النوم، ويمكن أن تعزّز الإبداع بطريقة مستهدفة.
يتألف دورميو من أجهزة استشعار تُوضع حول معصم الحالم وأصابعه، وتراقب إشارات النوم. وعندما يكتشف الجهاز أن الشخص يدخل في مرحلة النوم، يُشغّل تسجيلًا صوتيًا يُشجّع الشخص على التفكير في موضوع معين. وطوال الجلسة، لا يُسمح أبدًا للشخص بالدخول في دورات نوم أعمق، وبدلًا من ذلك يُوقظ بواسطة تسجيلات صوتية عندما يكتشف الجهاز علامات النوم. وتحثُّ التسجيلات الصوتية الحالم على إعادة سرد ما رآه في الحلم، وتُسجّل غمغمته. وأثناء تجارب الجهاز، جرى حثُّ الأشخاص الخاضعين للاختبار على الحلم بشجرة، وأفاد %67 منهم بأنهم رأوا بالفعل نوعًا من الشجر في أحلامهم.
ليس من الصعب أن نرى كيف يُمكن استخدام دورميو لتنمية الأفكار الإبداعية حول أي موضوع محدد يعمل عليه الحالم، سواء أكان لوحة فنية أم رواية أم مقطوعة موسيقية أم موضوعًا علميًا. صحيح أن الناس يمكنهم تحقيق الأحلام المرغوب فيها من دون أي مساعدات تكنولوجية، وذلك بالتركيز على موضوع ما قبل النوم. لكن مثل هذه الطريقة تفتقر إلى الدقة، لأنه عندما يدخل الشخص في مرحلة الهيبناغوغيا يتعثر تركيزه في معظم الحالات. يهدف دورميو إلى منع شرود العقل غير المقصود، وإبقاء الحالم على المسار الصحيح حتى عندما يجري تعليق وعيه مؤقتًا.
اترك تعليقاً