”قليلٌ من الأرضِ يَكفي لكي نلتقي”
لأن المجتمعات مبنية على العلاقات التي يطوّرها الناس من خلال اتصال الأفراد بعضهم ببعض، يوزع المخططون الحضريون أماكن التلاقي في معظم الأحياء في مدننا الحديثة، حيث تمثّل الأماكن العامة كالحدائق والمساجد أماكن تلاقٍ يومي لأهل الحي. وهناك أماكن تجارية أخرى تعتبر أمكِنَة التقاء فعّالة كالبقالات الصغيرة والنوادي الرياضية ومقاهي الأحياء. ولكن هل صُممت هذه الأمكنة في مدننا اليوم لمساعدتنا على الالتقاء بأشخاص يشبهوننا وقادرين على تطويرنا وجعلنا أناسًا أفضل؟ وهل نحن قادرون على تطوير هذه العلاقة من خلال فرص اللقاء المتكرر والعفوي أحيانًا؟
عبدالرحمن الصايل
يقول مؤسس منظمة “مشروع للفضاءات العامة” ورئيسها السابق، فريد كنت: “إذا كنت تخطط المدن للسيارات وحركة المرور، فستحصل على السيارات وحركة المرور. وإذا كنت تخطط للناس والأماكن، فستحصل على الناس والأماكن. أما إذا لم تكن لديك خطة أصلًا، فربما تحصل على مجموعة أشياء باستثناء مدينة!”
مع موجة التحضّر الهائلة ونمو علم التخطيط الحضري، فقدت الأحياء في كثير من مدن العالم أماكن الالتقاء التقليدية. فعلى سبيل المثال، أُزيلت المقاعد التي كانت موجودة في الحارات وخارج المنازل، وأصبحت الديوانيات الأسبوعية أقل شعبية مما كانت عليه في الماضي، وصار الوصول إلى الحدائق والأماكن العامة مقيدًا، فبدلًا من وجودها بشكل عفوي وسط مجموعة من المنازل تحوّلت إلى أماكن مخصصة ومحاطة بأسوار فاصلة.
وأدى التسوق عبر الإنترنت وتجارة التجزئة الكبيرة وانتشار المجمعات التجارية العملاقة والماركات العالمية إلى تراجع مكانة المتاجر الصغيرة المحلية. وحلّت المراكز التجارية الضخمة محل تلك الدكاكين الصغيرة والبقالات في داخل الأحياء، ما أدّى إلى ضياع الناس وسط آخرين لا يعرفونهم، ولا مجال للتعرف عليهم.
لقد أصبح السكان يتنقلون بشكل أكثر “سيولة” من ذي قبل، فصاروا يعملون ويتعلمون ويذهبون إلى الصلاة خارج الحي الذي يعيشون فيه. وبالتالي أصبح لكل فرد منهم عدة مجتمعات مختلفة؛ الأمر الذي يعني عمليًا أن ليس لديهم مجتمع على الإطلاق! فقد بات من النادر أن نلتقي بالأشخاص أنفسهم في أكثر من مكان واحد. وصرنا نشاهد العديد من الأشخاص الذين يبذلون قصارى جهدهم في عدم التواصل البصري مع أي شخص آخر، كما في المصاعد على سبيل المثال والأماكن العامة الأخرى المزدحمة. وفي بعض الأحيان، نحتاج إلى تدخل إضافي لجذب الناس من الانغماس في هواتفهم الذكية وحثهم على التفاعل بعضهم مع البعض الآخر.
الوحدة أخطر مما نتصور وهـذه بعـض أسبابها
يصف كتاب “القرن الوحيد” لنورينا هيرتز الوحدة المتزايدة في المجتمعات الحديثة بأنها سبب لتآكل المجتمع. وعُنيت المؤلفة بسرد أدلة عديدة تربط الوحدة بتدهور صحة الأفراد والمجتمعات، كما تقول إن الوحدة أسوأ لصحتنا من عدم ممارسة الرياضة، وهي ضارة مثل ضرر الإدمان على الكحول. وإحصائيًا تعادل الوحدة تدخين 15 سيجارة في اليوم، ولها أيضًا ضِعف ضرر السمنة!
تستشهد هيرتز بدراسات تظهر أن الأفراد الذين يشعرون بالوحدة لديهم:
- خطر أعلى بنسبة %29 للإصابة بأمراض القلب التاجية.
- خطر أعلى بنسبة %32 للإصابة بالسكتة الدماغية.
- خطر أعلى بنسبة %64 للإصابة بالخرف.
- خطر أعلى بنسبة %30 للوفاة المبكرة.
- أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بمقدار عشر مرات.
وحددت هيرتز العديد من أسباب الشعور بالوحدة، ومن بينها الهواتف الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والعنصرية، والتحضر، وفقدان الأماكن العامة وتدهورها.
فرغم وجود المرافق المختلفة، لم يتم تصميم بعض الأحياء أبدًا ولا برمجتها للالتقاء بأشخاص آخرين. ناهيك عن أن مجتمعاتنا الحديثة أصبحت أكثر ملاءمة للسيارات منها للمشاة، ونادرًا ما نجد فيها أماكن للتسوق أو تناول الطعام أو احتساء كوب من القهوة أو الشاي على مسافة قريبة يمكن اجتيازها مشيًا. فسكان المدن يقودون سياراتهم داخل وخارج مرآب مجاور لمنزلهم أو يركنونها في مواقف مغلقة أسفل العمارة، وليس لديهم فرصة تُذكر للالتقاء بالجيران. كما أسهم النمو العمراني المفرط في ندرة أماكن الالتقاء في الأحياء الجديدة المتناثرة في ضواحي المدينة.
صناعة أمكِنَة التلاقي حول العالم
جرت في بعض المدن محاولات لتنشيط المناطق التجارية المحلية من خلال خلق تجربة مميزة لا يمكن لمراكز التسوق )المولات) تكرارها، وتضمنت تشجيع أماكن التجمع الصغيرة والمتاجر والمطاعم ذات النكهة المحلية وعربات الأطعمة المتنقلة في ساحة الحي خلال يوم أو يومين محددين من الأسبوع.
ومن المحاولات الأخرى لزيادة أمكِنَة الالتقاء ما يُسمّى بـ “الحدائق المجتمعية”، وهي عبارة عن تخصيص مساحة لأهل الحي لكي يتعاونوا على زراعتها ورعايتها وبيع منتجاتها. ومن الممارسات الدولية كذلك إتاحة المجال للفنانين لرسم الجداريات في التقاطعات، وإحياء الأمكِنَة بواسطة الفن وبعض الأثاث الخفيف الذي يتجمع الناس حوله. وتخصص بعض الدول يومًا في الأسبوع أو الشهر لإغلاق الشارع أمام السيارات، وإعادة برمجته لكي يصبح للمشاة وتنشيطه بالفعاليات المجتمعية والترفيهية.
وهناك أفكار بسيطة وغير مكلفة لإثارة التفاعل بين السكان وصنع الأمكِنَة، كوضع طاولة في الحديقة أو أسفل العمارة أو المنزل مع إبريق شاي، أو توفير مياه للشرب، أو عن طريق تثبيت مكتبة مجانية صغيرة. وهناك محاولات شخصية من بعض السكان لإثارة التفاعل من خلال تحويل منازلهم إلى أماكن لقاء، من خلال تنظيم بعض المناسبات أو استضافة عشاء ترحيبي بالجيران الجدد.
قد يكون إنشاء أماكن لتلاقي سكان الضواحي والمناطق الريفية أصعب، ولكن لدى هؤلاء منازل وساحات يمكنهم استخدامها للتجمع. وعمليًّا، يوجد في كل حي مرافق غير مستغلة يمكن استثمارها كأمكِنَة للالتقاء، مثل قاعات المدارس في العطل والفترات المسائية، أو مراكز الأحياء لترتيب الاجتماعات المتبادلة، والبرامج التعليمية لأهل الحي، وجميع أنواع الفعاليات الأخرى التي من شأنها أن تجذب الجيران.
وقد يكون الخيار الوحيد في بعض الأحيان هو البدء بالالتقاء الافتراضي. فقد استخدمت المجتمعات بشكل فعال منصات شبكات التواصل الاجتماعي مكانًا أوليًا للتلاقي في الأحياء الجديدة، حيث يتم تطوير المساكن بسرعة أكبر من البنية التحتية العامة. ويمكن أن يؤدي الالتقاء الافتراضي إلى علاقات وطيدة في الحياة الواقعية. لقد سمعنا العديد من القصص عن أصدقاء على شبكات التواصل الاجتماعي كانوا يساعدون بعضهم على الرغم من أنهم لم يلتقوا جسديًا من قبل. ومن الأفكار ذات الصلة في هذا الصدد ما قامت به مجموعة من المبتكرين الاجتماعيين على الصعيد المحلي بتصميم تطبيق “فزعة جار”، فمثل هذه الأفكار قد تساهم في إثارة التفاعل بين الجيران وزيادة فرص التلاقي.
التلاقي في العمران الإسلامي
كثيرًا ما تدعونا رؤيتنا الدينية إلى الاجتماع والائتلاف وتنهى عن الشتات والفرقة والوحدة.
فقد جاء في الحديث: “عليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية”. وتؤدي المساجد والمصليات دورًا مهمًا في صنع أمكِنَة تلاقٍ يومية، فهذا من مقاصدها الاجتماعية الدينية. ولهذا نجد في الحديث النبوي أنه كان يُنادى لاجتماع الناس في المسجد بقولهم: “الصلاة جامعة”.
ونلاحظ في هذا وجود تلازم بين الاجتماع والصلاة ومكان ذلك المسجد، ناهيك عن حرص التشريع الإسلامي على الاجتماع في شعائره الكبرى، بدءًا بصلاة الجمعة، التي أخذت اسمها من الاجتماع، ومرورًا بشعائر الاجتماع للاستسقاء والاجتماع للعيدين، والاجتماع في شعائر العمرة والحج في مكّة المكرّمة وفجاجها ومنى وعرفات والمزدلفة. ولكن لأسباب كثيرة، منها رواج العمل في أماكن بعيدة عن المنزل، تضاءلت فرص تلاقي الجيران المتكرر في المسجد الواحد.
التلاقي في مقهى الحارة
من الأمثلة الرائعة التي نعرفها لأمكنة التلاقي على مستوى الأحياء في مدننا هو انتشار مقاهي الحارات ذات الهوية المحلية في الرياض والخبر والمدن الأخرى، وكذلك تحويل بعض المنازل القديمة إلى مشاريع عائلية وفردية بطابع يعكس هوية المكان. تشجّع الحركة المصاحبة لوجود هذه الأمكنة الناس على المشي في الحي والتفاعل مع الجيران أصحاب الاهتمام المشترك وافتعال الحديث بعد رؤيتهم أكثر من مرة.
يقول الكاتب علي الموسى متحدثًا عن مقاهي الحارات: “أنسنة المدن تبدأ من فتح مقهى في ركن الشارع نستطيع فيه رؤية أهل الحي بفاتورة لا تزيد عن 5 ريالات لكوب قهوة الصباح. كرسي خشبي وطاولة عتيقة كما تفعل كل المدن التي عشتها مع الجيران، فمقاهي البرجوازية وفواتيرها تصنع مدنًا متخشبة. المقهى ثقافة لم نتقنها بعد وما زلنا طارئين عليها للأسف”.
ويقول المخطط الحضري فؤاد عسيري مفرّقًا بين المقهى ومحل بيع القهوة: “المقهى ليس قهوة فقط، بل وسيلة تواصل وتعارف وتفاعل إنساني داخله وخارجه وأثناء الطريق إليه والعودة منه، وتفاعل مع الشارع أمامه والمحيط حوله، وإذا فقد وظيفته الاجتماعية صار محلًا لبيع القهوة فقط. لا أستسيغ فكرة مقهى أذهب إليه بالسيارة!”.
التلاقي من أجل الإبداع
انشغل العلماء في دراسة أسلوب التفكير الإبداعي وكيفية تنميته بواسطة العادات والممارسات اليومية، مثل التدريبات البدنية والنوم الجيّد والقراءة. واتضح لهم أن هناك محفزًا إضافيًا يندرج في التلاقي العفوي مع الأصحاب والمعارف وحتى الغرباء. طبعًا، ليست كل المقابلات التي تأتي بالصدفة تؤدي إلى أفكار مدهشة، ولكن أستاذ العمارة كوريدون سميث يوضح أننا بينما ننتقل من لقاء إلى آخر، فإن كل تلاقٍ اجتماعي قصير يغرس بذرة يمكن أن تتحول إلى فكرة خلّاقة أو مُلهمة. أما البقاء في المنزل بين جدران أربعة فقد يفوّت كمية وافرة من الأفكار الإبداعية.
جان بول سارتر، وبابلو بيكاسو، وسيمون دو بوفوار، وآخرون من الفلاسفة والفنانين والكتّاب أنتجوا أحسن أعمالهم بفعل تبادل الأفكار في المقاهي. وهذا ما دعا المؤلف ستيفن جونسون، إلى أن يقول في كتابه “حيثما تأتي الأفكار الجيّدة” إن “المكيدة للحصول على وجهات نظر جيدة هي عدم المكوث في عزلة ومحاولة التفكير بأفكار عظيمة”. عوضًا عن ذلك، يوصي جونسون بأن “نتردد إلى المقاهي … ونذهب في نزهة مشيًا … ونحتضن الصدفة”.
وعلى غرار ما يحصل اليوم، كان المثقفون يرتادون المقاهي منذ زمن طويل. فالمقاهي في القرن الـثامن عشر هي التي أفرزت مخرجات عصر التنوير، حيث إن الناس فهموا وفق ما ذكره ديفيد بوركوس في كتابه “أساطير الإبداع” أنهم يكونون “أكثر إنتاجية وأغزر إبداعًا عندما يعملون في المقاهي”. كما تقول الدراسات إنه ليس للكافيين علاقة بالإبداع الذي هو نتيجة التلاقي مع الناس. فالتواجد بجانب أشخاص يعملون بجد يمكن أن يحفّز دوافعنا على صنع الشيء نفسه.
لذلك، يمكن القول إن الإبداع يولد من خلال التلاقي، وهي فلسفة تدعمها دراسة أُجريت في عام 2016م في بلجيكا، طلب فيها الباحثون من المشاركين أن يجلسوا جنبًا إلى جنب أمام الشاشة لتأدية مهمة ما. وكانت نتيجة الدراسة أن “تأدية المهام بالقرب من شخص يبذل جهدًا عاليًا في وظيفة ما يجعلنا نصنع الشيء نفسه”.
أهمية اللقاء بالطبيعة
إن صرخة ”Eureka!“ أو “وجدتها”، أو ما تُعرف بلحظة “آها”، توضح أهمية التلاقي مع الطبيعة لإنضاج الفكرة الإبداعية. ربما لذلك اعتاد الفلاسفة، مثل سقراط وكانط، الاستمتاع بالسير في الحديقة لتنشيط تفكيرهم الإبداعي. وفي الحقيقة ليس الفلاسفة العظماء وحدهم من يحتاج إلى تلك البيئات؛ بل إن معظم الناس يريدون أيضًا بيئات مريحة لإنعاش أنفسهم قبل العمل مرة أخرى. إن أخذ جرعة من الإلهام ممن حولنا هو أحد أهم العوامل لإنعاش الدماغ، كما أثبت العلماء أن مداومة اللقاء بالطبيعة يرتبط ارتباطًا وثيقًا وإيجابيًا بالإبداع.
تطوير أمكِنَة تلاقٍ شاملة
إذا كنّا نرغب في تطوير مجتمع شامل، فنحن بحاجة إلى مساحات تلاقٍ أشمل. ففي حين أن الجيران عادة ما يكونون مختلفين من حيث العمر والدخل والثقافة والاهتمامات وما إلى ذلك، فهم يميلون إلى التجمع مع أشخاص يشبهونهم. ولكي تكون الأمكِنَة شاملة، يجب أن تكون متاحة لأولئك الذين لديهم قدرات ودخل مختلفين، وكذلك يجب أن تعكس كافة الثقافات الموجودة في الحي. فأحد الأسباب الرئيسة لعدم شمولية الأماكن بشكل كافٍ هو أن الكثير منها لها غرض واحد، فتجذب بعض الأمكِنَة الشباب فقط، أو الرياضيين أو المثقفين دون غيرهم، أو أي شخص تم تصميم المساحة خصيصًا له.
وينبغي للمكان الشامل أن يكون متعدد الأغراض. وثمة نظرية معروفة باسم “قوة الرقم 10” (Power of 10) لضمان حيوية أمكِنَة التلاقي ونجاحها. وتقول هذه النظرية إن على كل مكان أن يستوعب ما لا يقل عن عشرة أنواع مختلفة من الأنشطة. ولن يؤدي ذلك إلى جعل المكان أكثر جاذبية لمجموعة واسعة من المستخدمين فحسب، بل سيزيد من احتمالية استخدام المكان على نطاق أوسع في جميع أوقات اليوم وخلال جميع فصول السنة، مما يجعله أكثر أمانًا للجميع.
إن أماكن التلاقي المفضلة هي تلك التي صممها وبناها الجيران بأنفسهم. ومن المرجح أن تعكس هذه الأماكن ما هو مميز في ثقافة السكان وحيهم. ومن خلال صناعة المكان، يشعر الجيران بالملكية، ويصبحون أكثر تقبلًا لاستخدام الأمكنة وصيانتها وبرمجتها. ومن الأهمية بمكان أن تكون عملية التصميم والتنفيذ شاملة كذلك، حيث ينبغي لجميع المستخدمين المحتملين أن يتمتعوا بمنظور قيّم يقدّمونه ضمن عملية تصميم الأمكِنَة، وأن يكون لكل شخص إسهامات يمكنه تقديمها لإنشاء مكان يحفّز على التلاقي، وبالتالي صنع مدن عظيمة صديقة للإنسان. وكما يقول محمود درويش: “وقليلٌ مِن الأرضِ يَكفي لكي نَلتقي”.
جميل المحتوى
تغير الحال يميل الرجال للبقاء في البيوت وتخرج النساء للمولات والحدائق والمقاهي