تمثل مفاوضات الملك عبدالعزيز – يرحمه الله – مع شركات البترول التي سعت قبل قرن من الزمن إلى التنقيب عن الزيت في المملكة، واحدًا من أهم الفصول في تاريخ المنطقة الحديث، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، لما كان لسير هذه المفاوضات من نتائج لاحقة على مسار التنمية في المملكة وحتى على مسار الاقتصاد العالمي. وأبرز من أرّخوا لهذه المفاوضات كان صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سلمان آل سعود في الورقة التي أعدّها لمؤتمر “المملكة العربية السعودية في مائة عام”، ونشرت “القافلة” أجزاء كبيرة منها في عدد ربيع الأول ١٤٢٠هـ (يونيو/يوليو ١٩٩٩م). وفيما يأتي بعض أبرز ما جاء فيها، علمًا أن بإمكان القرّاء الاطلاع على الورقة بتوسع أكبر على الموقع الإلكتروني للقافلة.
قصة الامتياز الأول
كان امتياز البترول الأول، هو الذي منحه الملك عبدالعزيز في عام 1921م، لشركة بريطانية اسمها ايسترن جنرال سينديكات، التي مثلها في المفاوضات رجل نيوزيلندي هو الميجور فرانك هولمز. وتضمنت الاتفاقية مجموعة شروط محددة، كان من بينها التزام الشركة بدفع إيجاز سنوي للمنطقة الممنوحة قدره 2000 جنيه إسترليني ذهبًا تدفع مقدمًا كل سنة من سنوات الامتياز.
وباشرت الشركة الحفر والتنقيب عن البترول، غير أنها لم توفق في العثور على أية مكامن بترولية. ونظرًا لأن الشركة قصَّرت في مواصلة أعمال التنقيب والحفر خلال العامين الثالث، والرابع من التنقيب، كما أنها لم تدفع الإيجار السنوي الذي تعهدت به خلال سنتين متتاليتين (1925م و1926م)، فقد قرر الملك عبدالعزيز سحب الامتياز منها عام 1928م، استنادًا إلى إخلال الشركة الواضح بشروط الامتياز.
امتياز البترول الثاني
عندما أكد المهندس الجيولوجي كارل تويتشيل في عام 1931م وجود البترول في المملكة، فوّضه الملك عبدالعزيز بالبحث عن شركات بترول أمريكية ترغب في الاستثمار في أعمال البحث والتنقيب عن البترول وتطويره في المملكة. وعلى الأخص في المنطقة الشرقية، كما أعطاه تفويضًا لاستقطاب شركات معدنية لاستغلال الثروة المعدنية.
وعندما تقدَّمت شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا بعرضها للتنقيب عن البترول وفق شروط محددة، رفض الملك عبدالعزيز شروطها، وقدّم للشركة عرضًا يضاعف قيمة ما يتوجب على الشركة أن تدفعه الحكومة، وشمل 100000 جنيه ذهبًا عند توقيع الاتفاقية، وكذلك دفع 30000 جنيه ذهبًا سنويًا كإيجار، ودفع حد أدنى للريع قدره 200000 جنيه ذهب سنويًا، وكان الهدف من هذا الحد الأدنى إلزام الشركة بالإنتاج بكميات كبيرة بدلًا من التقاعس في تنفيذ الاتفاقية. وبعد فترة من المفاوضات الشاقة، والتعثر الناجم عن الكساد الكبير الذي ضرب الاقتصاد العالمي، تم توقيع الاتفاقية وأصدر الملك عبدالعزيز مرسومًا ملكيًا برقم 1135 وتاريخ 14 ربيع الأول 1352هـ (7 يوليو 1933م) بالترخيص للشركة وبالمصادقة على الاتفاقية.
واستبعد الملك عبدالعزيز شركة بترول العراق التي سعت بدورها للحصول على هذا الامتياز، لأنه كان لديها ما يكفي من البترول في العراق، ولو أنها حصلت على امتياز في المملكة فسوف تعدّه امتيازًا ثانويًا، فتؤخر تطويره حماية لمصادرها في العراق من المنافسة.
اتفاقية المنطقة المغمورة
إثر الاكتشافات البترولية الضخمة لاحقًا، طلبت شركة ستاندارد أويل من المملكة إعطاءها امتيازًا إضافيًا يشمل حقوق المملكة في المنطقة البحرية الموازية لساحل المملكة الشرقي في الخليج العربي. فوافق الملك عبدالعزيز، ولكن بشروط جديدة تعكس تحسن الموقف التفاوضي للمملكة. وتم توقيع اتفاقية بهذا الخصوص بتاريخ 10/10/1948م. ومن ضمن تلك الشروط أن يكون الريع المدفوع للدولة أكثر من الريع المدفوع مقابل الإنتاج في المنطقة اليابسة بمقدار 5 سنتات وأن يكون الحد الأدنى للريع المدفوع سنويًا هو مليونا دولار، تدفع مقدمًا في أول كل سنة ميلادية، ابتداءً من تاريخ توقيع هذه الاتفاقية، على أن تضمن الشركة دفع ذلك الحد الأدنى لمدة 4 سنوات، حتى ولو تخلت عن رقعة ذلك الامتياز. وقد اشترطت الحكومة على الشركة مباشرة الحفر والاستكشاف في هذه المنطقة بكل جد ونشاط واستخدام أفضل الطرق التقنية المعمول بها دوليًا في ذلك المجال.
امتياز المنطقة المحايدة وشركة جيتي
وعندما تقدَّم بول جيتي صاحب شركة البترول الأمريكية المستقلة المسماة باسيفيك وسترن أويل كوربوريشن من الملك عبدالعزيز في عام 1949م بطلب للحصول على امتياز بترولي في حصة المملكة من المنطقة المحايدة، وافق الملك ولكن بشروط تحقق للمملكة أكبر مردود ممكن، وأهمها: أن تدفع الشركة للحكومة عند توقيع الاتفاقية مبلغ 9,5 مليون دولار كعلاوة عند توقيع الاتفاقية، وأن يكون الحد الأدنى للريع المدفوع مقابل الإنتاج هو مليون دولار سنويًا.
كما تعهدت الشركة بإنشاء مصفاة لتكرير الزيت بطاقة 12000 برميل يوميًا، عندما يصل إنتاجها إلى 75000 برميل يوميًا لمدة 90 يومًا، وبأن تسلم الحكومة من تلك المصفاة بعد إنشائها ما مقداره 100000 جالون من البنزين و50000 جالون من الكيروسين من دون مقابل، وبتوظيف السعوديين في أعمالها بالإضافة إلى الموظفين الأجانب، وبتقديم الخدمات الطبية والتعليمية لموظفيها وتدريبهم على أعمال الشركة الفنية وإعطاءهم منحًا دراسية.
ورغم تعهد الشركة بإنشاء مصفاة طاقتها 12000 برميل إلا أنها أنشأت المصفاة بطاقة أكبر من ذلك وهي 36000 برميل يوميًا.
اتفاقية التابلاين
كانت شركة ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا صاحبة الامتياز بالمنطقة الشرقية قد حصلت على موافقة الملك عبدالعزيز على إدخال شركة تكساس أويل الأمريكية كشريكة في الامتياز بحصة قدرها %50 في شهر ديسمبر عام 1936م. وبعد نحو عشر سنوات، تقدَّمت كلٌّ من شركة ستاندارد أويل أوف نيوجرسي، وشركة سوكوني فاكوم بطلب لشراء حصة من شركة الامتياز، فوافق الملك عبدالعزيز على دخول هاتين الشركتين بالامتياز السعودي، لما في ذلك من فائدة لتطوير المزيد من حقول المملكة وتسويق إنتاجها، وقد تم ذلك في ديسمبر 1946م وأصبحت حصة شركة سوكوني فاكوم (موبيل لاحقًا) %10 بينما حصلت كل واحدة من الشركات الثلاث الأخرى على حصة قدرها %30 وسميت الشركة الجديدة حينئذ باسم أرامكو.
طلب الشركاء الأربعة موافقة الملك عبدالعزيز على إنشاء مشروع خط للأنابيب يمتد داخل الأراضي السعودية من أبو حدرية إلى الحدود الأردنية السعودية قرب طريف، ثم يمتد عبر الأردن وسوريا ولبنان إلى ميناء للتصدير في الزهراني قرب صيدا. وألَّف الشركاء الأربعة لهذا الغرض شركة باسم “التابلاين”. ويتضمن المشروع مد خط للأنابيب بقطر 30 إلى 31 بوصة ويبلغ طوله في الأراضي السعودية نحو 1375 كيلومترًا (854,4 ميل) تؤسس عليه أربع محطات للضخ في النعيرية والقيصومة ورفحاء وبدنة، وتبلغ طاقته التصديرية نحو 310000 برميل يوميًا.
تم توقيع الاتفاقية بهذا الشأن بتاريخ 11 يوليو 1947م. وقد التزمت الشركة بموجبها بنقل كمية كبيرة من الزيت السعودي إلى الأسواق العالمية، وإنشاء وصيانة طريق للسيارات على طول خط الأنابيب على حسابها، وإنشاء المدارس اللازمة لتعليم أبناء موظفيها السعوديين، والمستشفيات اللازمة لعلاج موظفيها وعائلاتهم، بما في ذلك المواطنين المقيمين بقرب محطات الضخ، وكذلك حفر آبار المياه.
لم يُخف على الملك عبدالعزيز أن فتح طريق لتصدير الزيت السعودي من منطقة ساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي إنما يفتح المجال لتقوية القدرة التنافسية للزيت السعودي حيال صادرات البترول عبر خط أنابيب البترول الآخر، الذي تمتلكه شركة بترول العراق، الذي يمتد عبر سوريا إلى طرابلس في لبنان، علاوة على الفوائد المحلية الأخرى التي توفرها محطات الضخ الأربع التي كانت نواة لتعمير المناطق المحيطة بها وظهور مدن جديدة في شمال المملكة. وإزاء هذه الفوائد أصدر الملك عبدالعزيز قراره بالمصادقة على الاتفاقية في 24 أكتوبر 1949م.
قرارات بعيدة النظر
سحب الملك عبدالعزيز حقوق الامتياز من شركة ايسترن جينرال سينديكات في عام 1347هـ (1928م) بعد أن فشلت جهود الميجور فرانك هولمز في البحث عن البترول في المنطقة الشرقية وإخلاله بشروط الامتياز. ومنذ ذلك الوقت راح الملك عبدالعزيز يبحث عن شركات من جنسيات أخرى.
كانت الشركات البريطانية تسيطر على امتيازات البترول في إيران والعراق وتملك فيها أكبر الحصص، ولو أعطيت امتيازات أخرى في المملكة كما طلبت شركة بترول العراق لاحقًا، فلا يُتوقع لها أن تستثمر منابع البترول فيها بنفس الاندفاع الذي تظهره في إيران والعراق لأن لديها هناك ما يكفي. ونتيجة لذلك توجه الملك عبدالعزيز إلى الشركات الأمريكية الكبرى ذات الأسواق الكبرى في العالم، ومنحها الامتيازات البترولية المعروفة سواء في المنطقة الشرقية أم المنطقة المحايدة، محققًا بذلك توازنًا إستراتيجيًا، مقابل الهيمنة البريطانية في المنطقة.
وعندما حاولت شركات الزيت الفرنسية والهولندية وغيرها الدخول في امتيازات البترول السعودي بعد انتهاء الحرب أسوة بشركات نيوجرسي وموبيل، رفض الملك عبدالعزيز وأصر على إدخال الشريكتين الأمريكيتين فقط، ونتج عن ذلك بروز المملكة كواحدة من أكبر مصدري البترول في العالم، ونمو كبير في العلاقات الاقتصادية بين المملكة وبين الولايات المتحدة الأمريكية.
اترك تعليقاً