أصل كلمة أدب “الدعوة إلى المأدُبة” وهي مائدة الطعام، وهي كلمة رفيعة تُوحي بالسمت والوقار والرقي والثقافة.
لكن ماذا لو قلنا إن جزءًا كبيرًا من التراث الأدبي يُعنى بالسخرية التي تشمل الصعلكة من تكدية (الحيلة والتسول لاستجداء المال) وبخل وتطفُّل وغيرها من مساوئ الأخلاق التي يترفَّع عنها الناس!
لقد تمكنت السخرية من اكتساح الأدب فتبوأت لها منزلة فيه، ويمكن القول إن الجاحظ هو الذي بدأ بهذا الصنف الأدبي، وتبلور على يده. فالجاحظ بنظرته الثاقبة، وذائقته الأدبية، ينظر إلى المهمش فينقله للمقدمة، ويرى أن السخرية تحارب صور الجمود والاعتياد، وتنقل الموضوع من صراع الطبقات، الذي كان مُشكلًا في عصره، إلى الرأي العام للتداول والضحك عليه. فرأى الأدب في البخيل واللص والإماء والعبيد، وقد اشتهر كتاب “البخلاء” من بين كتبه، فطابع الكتاب مَرِحٌ فَكِه، ومما ذكر فيه: “وصايا البخلاء ومناقضتهم للسمحاء”، ومعلوم أن البخل لا يأتي وحدَه، بل يجرُّ معه شدة الخلق والطمع والأنانية، وحتى الصعلكة.
يقول الجاحظ: “إنهم رقعوا رقعًا لا يقبل الرقع”، وهذا يدل على شدة الذكاء اللغوي وقوة حججهم التي مُزِجت بروح فكهة، ومع ذلك، فهم قد بلغوا مبلغ البلاغة لإقناعهم السامع بمذهبهم رغم دناءته. وهذا ما يذكرنا بالتلاعب السينمائي، مثلما نرى أن اللص مظلوم والشرطة ظالمون، فالبخيل يرى أنه ذكي يُحسن التدبير، ويحفظ المال. أمَّا الكريم، فهو يضيّع المال ومُسرف ومبذِّر.
ويعدُّ خالد المكدّي أو ما عُرِف بـ”خالدويه” أبرز البخلاء الذين ذكرهم الجاحظ. وقد تمثَّل خالدويه لابنه وصية عند موته يأمره بحفظ المال والكد للحصول عليه بكل الطرق من صعود الجبال وقطع الصحاري وركوب البحار، وحتى السرقة والاحتيال، وكان ممَّا أوصاه أن يحذر من خروج الدرهم ولو كان للصدقة، فإن الدرهم عليه “لا إله إلا الله”، وهو إن أخرجه فكأنه أُخْرج من كنف الله تعالى، فكيف به إذا أخرج كل يوم درهمًا للصدقة!
فما كان من ابنه إلا أن تمثّل بتلك الوصية، وزاد على أبيه بُخلًا فلم يكفّنه عند موته!
ومثل كتاب “البخلاء” ما ألفّه البغدادي في كتابه “كتاب التطفيل وحكايات الطفيليين”، والطفيلي هو الذي يدخل على القوم دون أن يُدعى. فجمع البغدادي أخبار الطفيليين ووصاياهم، فمن تلك الوصايا قول أحدهم: “إذا دخلت عرسًا، فلا تلتفت تلفُّت المُريب، وتخيَّر المجالس، فإن كان العرس كثير الزحام فمُرْ وانهَ، ولا تنظر في عيون أهل المرأة ولا في عيون أهل الرجل، ليظنَّ هؤلاء أنك من هؤلاء، ويظنَّ هؤلاء أنك من هؤلاء، فإن كان البواب غليظًا وقَاحًا، فابدأ به ومره وانهه من غير أن تعنفه، وعليك بكلام بين النصيحة والإدلال”.
وقد فتح الجاحظ الباب للسخرية أن تُتَداول بوصفها أدبًا قائمًا بذاته، وممن تأثر ببخلاء الجاحظ الأديب الفرنسي موليير في مسرحيته “البخيل”، ثم تدرّجت السخرية حتى ارتبطت بالمسرحيات والسياسة والكاريكاتير.
لكن فن السخرية في الأدب لم يكن ابتداعًا من الجاحظ، بل قد ورد في الأدب القديم وبشكل حاضر في الهجاء. فالهجاء قائم على السخرية والذم من الطرف الآخر، وتُعدُّ النقائض التي وقعت بين جرير والفرزدق أعظم ملحمة ساخرة، إن صح التعبير. والنقائض تعني: أن ينقض الشاعر قصيدة الشاعر الآخر، وتكون على نفس الوزن والقافية، فمن ذلك قول الفرزدق يفخر على جرير:
حُلل الملوك لباسنا في أهلنا
والسابغات إلى الوغى نتسربلُ
فنقض جرير قوله:
لا تذكروا حُلل الملوك فإنكم
بعد الزبير كحـائضٍ لم تغسلِ
وقيل إنَّ أعظم هجاء كان على لسان الحُطيئة حين
هجا الزبرقان بقوله:
دعِ المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ويُرى أن ألذع الشعراء في الهجاء هو ابن الرومي، وقد فاق الحطيئة بالهجاء، وهو شاعرٌ كبير عاش في العصر العباسي، من طبقة بشّار والمتنبي، فمن هجائه لابن حرب:
لك أنـفٌ يـابن حـــربٍ أنِفـت منــه الأنـــوف
أنت في القُدسِ تصلي وهو في البيت يطوف
نرى في هذين البيتين صورة كاريكاتيرية ساخرة لاذعة. ومن أشد ما قال أيضًا يذم الشعراء الذين يتكسّبون بشعرهم:
يقولـون ما لا يفعــلون مسبّـةً
من الله مسبــوبٌ بهـا الشعراءُ
وما ذاكَ فيهم وحدَه بل زيادةٌ
يقولـون ما لا يفعــلُ الأمـــراءُ
أمَّا عن التكدية والصعلكة، فإن وجودهما سنة في الحياة باختلاف الزمان والحال. والصعلوك: الذي لا مال له ولا اعتماد، وقد صعلكته إذا ذهبت بماله، ومنه تصعلكت الإبل إذا ذهبت أوبارها. وقد برز في العصر الجاهلي جماعة من الصعاليك، ووُسم أدبهم بـ”أدب الصعاليك” وقد رفعوا أنفسهم مرتبة عالية، فهم يرون أن في سرقتهم ونهبهم نصرة للمظلوم وإقامة للعدل، ويصفون أنفسهم بشدة التنبه واليقظة والذكاء والفروسية والسرعة وتحمل الصعاب، ومن أبرز شعرائهم: عروة بن الورد، والشنفرى، وتأبَّط شرًّا.
اترك تعليقاً