مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

كيف تفكّر بجسدك؟


د. سعود عبدالعزيز العمر
أكاديمي وكاتب سعودي

غالبًا ما نتصوّر أن الدماغ يؤثر في الجسد كالسائق بالسيارة، لكن الأبحاث الحديثة كشفت أن التأثر والتوجيه يحدث من الجانبين. فالجسد، من خلال نشاطاته الحسية والحركية، يؤثر بالدماغ أيضًا. 

لتوضيح هذه الفكرة، جرِّب الوقوف بوضعية القوة ثواني عدة: قف بظهر منتصب، ويداك على خصرك، وباعد قدميك. غالبًا ما يلاحظ من يقف بهذه الوضعية أنها تولّد شعورًا بالثقة والحزم داخله. هذا ما يُعرف باسم “التغذية الراجعة الجسدية”. 

في عام 2010م، أجرت الباحثة آمي كادي وفريقها دراسة تأثير وضعية القوة. طلبوا من نصف المشاركين اتخاذ وضعية القوة دقائقَ عدة، ثم وضعوهم في مواقف مثيرة للتوتر. وأظهرت النتائج أن هؤلاء المشاركين تفوقوا على أقرانهم في التعامل مع المواقف الصعبة، وسجلوا مستويات أقل من هرمون التوتر “الكورتيزول” ومستويات أعلى من هرمون الثقة “التستوستيرون”. 

القدرة الفائقة للجسد والنشاطات الجسدية على التأثير في العقل تُعرف باسم “الإدراك المتجسّد” (Embodied Cognition). ويشير المفهوم إلى أن للجسد، من خلال أنظمته الحسية والحركية، قدرةً هائلةً على تشكيل أفكارنا وذكرياتنا ومشاعرنا. فعلى سبيل المثال، المشي يحفز الإبداع ويزيد وضوح التفكير، والتنفس العميق يقلل من مستويات التوتر والقلق. 

لا يقتصر تأثير التحركات الجسدية على تلطيف المشاعر وتحسين مستويات الهرمونات فقط، بل يُمكن للشخص أن “يجسِّد” تفكيره؛ أي أن يستخدم جسده وعقله ليبتكر، ويجد حلولًا لمشكلات لا يستطيع أن يحلها باستخدام دماغه فقط. ففي تجربة تُسمَّى بـ “تجربة الحبلين” لعالم النفس نورمان ماير، أُدخل المشاركون في غرفة كبيرة تحتوي حبلين يتدليان من السقف تفصلهما مسافة متر، وعلى الأرض كانت توجد كمَّاشة “زرادية” وعلبة أعواد ثقاب وقطن. طلب الباحث من المشاركين أن يمسكوا الخيطين معًا في الوقت نفسه، ونفّذوا ذلك بسهولة. بعد ذلك زاد الباحث المسافة بين الحبلين إلى أكثر من مترين، وطلب منهم أن يفكروا في حل باستخدام المواد المتوفرة لديهم، لكن لم يتمكن بعضهم من حل المشكلة. بعدئذٍ، طلب من المشاركين أن يقفوا ويتحركوا في الغرفة ويعبثوا بالموجودات، وما كانت سوى دقائق قليلة حتى اكتشفوا الحل: اربط نهاية أحد الحبلين بالكماشة، ثم قم بأرجحة الحبل، ثم أمسك بالحبل الثاني، وبعد ذلك أمسك بالحبل الأول أثناء تأرجحه. أوضحت هذه التجربة بجلاء أن القدرة على الابتكار وحل المشكلات تتحسن إذا سُمح للأشخاص بالحركة، وتتدهور إذا أُلزموا بالجلوس في مكانهم، كما يحدث للطلاب في الفصول الدراسية التقليدية. 

نظرية الإدراك المتجسد تتصادم على نحو صريح ومباشر مع الفلسفة التقليدية، وخصوصًا ثنائية العقل والجسد “الثنائية الديكارتية”، التي وضع أسسها الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في القرن السابع عشر، والتي ترى أن العقل والجسد جوهران منفصلان تمامًا. فوفقًا لهذه النظرة، العقل هو المصدر الوحيد للتفكير والتعلُّم، بينما الجسد مجرد خادم مُطيع له. الإدراك المتجسد يتصادم أيضًا مع نظريات علم النفس الكلاسيكية، التي لم يكن للجسد فيها أي دور يُذكر، ولا تتجاوز المعرفة فيها أن تكون مجرد عمليات ذهنية ليس لها أي علاقة بالإحساس والحركة. نتيجة لهذا الإرث المعرفي العتيق، صرنا نرى العقل والجسد شيئين مختلفين منفصلين لا علاقة بينهما، ونعدُّ الجسد مجرد عبء ثقيل نجرّه خلال رحلة التعلُّم. 

غُرست بذور نظرية الإدراك المتجسد في القرن التاسع عشر من خلال الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي ويليام جيمس، الذي كان من أوائل من عدُّوا أن الفكر والعقل لا ينفصلان عن التجربة الجسدية. في كتابه “مبادئ علم النفس”، أكد جيمس أن العقل والجسد يتضافران في عملية الإدراك، مُقدمًا بذلك رؤية تتجاوز الثنائية الديكارتية. وتردد صدى نظرية الإدراك المتجسد أيضًا في القرن العشرين، حيث صرَّح اللغويان جورج لايكوف ومارك جونسون في كتابهما الشهير “الاستعارات التي نحيا بها”، أن اللغة تنبثق من تجاربنا الحسية. وللتوضيح، حين نتعلم شيئًا جديدًا نتذكر تجربتنا الحسية السابقة في الانتقال من الظلمة للنور، فنقول “العلم نور”. هذا يدل على أن التجربة الجسدية والحسية سبقت المعرفة العقلية، وشكّلت أساسها؛ أي أن الجسد أسهم بشكل أكبر من العقل في ابتكار هذه الاستعارة اللغوية. 

في عام 1998م، وسّع العالمان أندي كلارك وديفيد تشالمرز هذه النظرية في ورقتهما “العقل الممتد”، وجاء فيها أن عقل الإنسان يتجاوز جسده ليشمل الأدوات التي يستخدمها مثل الهواتف والكمبيوترات.  

ولنظرية الإدراك المتجسد تطبيقات مهمة في التعليم. فهي تشجع على طرق تدريس تتجاوز القراءة والاستماع، لتشمل التفاعل النشط مع المادة التعليمية. كما يمكن استخدامها في تصميم الفصول الدراسية لتعزيز الحركة والتفاعل الجسدي. كما أن التقنيات الحديثة مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز، تقدِّم فرصًا مثيرة لتطبيق هذه النظرية؛ حيث يمكن استخدامها لخلق بيئات تعليمية افتراضية يتفاعل فيها الطلاب جسديًا مع المفاهيم المجردة. نظرية الإدراك المتجسد تقدِّم رؤية جديدة للعلاقة بين العقل والجسد، وتفتح آفاقًا واسعة لتحسين طرق التعلُّم والتعليم. 


مقالات ذات صلة

تُعتبر “المُركَّبات الباقية إلى الأبد” من أخطر المشكلات الصحية المعاصرة، الناتجة عن مبيدات الآفات الزراعية. بينما يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لمواجهة هذه المخاطر..

أحدثت تقنيات تحرير الجينات، مثل “كريسبر كاس 9″، ثورة في علم الأحياء والطب، حيث فتحت آفاقًا لعلاج الأمراض المستعصية بكفاءة وبتكلفة منخفضة. لكن هذا التقدم يثير تحديات أخلاقية، خاصة فيما يتعلق بتحرير “خلايا الخط الجنسي” وتأثيراتها الاجتماعية. لذا، من الضروري الموازنة بين الطموحات العلمية والاعتبارات الأخلاقية لضمان مستقبل مسؤول للبشرية.

اكتشاف الإلكترونات في القرن العشرين أحدث ثورة في فهمنا، مما أدى إلى تطوير تقنيات مسرِّعات الجسيمات وكشف أسرار مذهلة عن عالم الذرة والمادة.


0 تعليقات على “كيف تفكّر بجسدك؟ ”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *