مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

العلم خيال

كيف السبيل إلى كنس الفضاء الخارجي؟


ياسر أبو الحسب

الفضاء الخارجي ملوّث بمئات الآلاف من النُّفايات الصلبة. هذه حقيقة يعرفها الجميع. وهذه النُّفايات الهائمة في دورانها حول الأرض، تشكّل خطرًا جسيمًا، يتفنن الخيال السينمائي في تصوير جسامته، بينما يسعى العلماء إلى تصوّر وسيلة أو أداة تسمح لهم بـ”كَنس” الفضاء الخارجي؛ للتخلّص نهائيًا من هذه النُّفايات.

تعمل ألكس رائدة الفضاء وقائدة مركبة فضائية صغيرة على صيانة قمر صناعي. وحدَها في ذلك الفضاء الهائل تُحاول مُعالجة مُشكلة روتينيّة. ومن قلب الظلام، أتى مسمار طائش من نُفايات فضائية قديمة تدور حول الأرض، وتقاطَع مساره مع مسارها، فاصطدم ببذلتها، وثقب خزّان الأكسجين على ظهرها، وهنا بدأت المعاناة.

حاولت التشبّث بالقمر الصناعي، لكن جسمها بدأ يتحرك مُبتعدًا عن المركبة والقمر الصناعي، بسبب اندفاع الأكسجين من الخزان المثقوب. لم يكن هناك أي حبل يربطها بالقمر الصناعي أو بالمركبة، ضمن عدة عوامل أمان لم تتوفر لألكس، وذلك بسبب ضعف ميزانية الشركة صاحبة المركبة.

فريق الإنقاذ قريب، على بُعد 58 دقيقة، والمشهد غريب وهي تنظر إلى الأرض بأضوائها. الأضواء التي كانت عزاءً لها وإن لم تُنقذها. لأنّه، وللأسف، لم يتبقَّ لها إلا 14 دقيقة، وهي المدة التي يستطيع مخزونها من الأكسجين أن يدعمها للتنفس قبل أن ينفد، ونتيجة لذلك ستعاني الموت اختناقًا وستسبح جثّتها في الفضاء الفسيح، فوق المحيط الهادئ باتساعه المهول.


يدور الآن حول الأرض حوالي 100,000 قطعة صلبة بحجم المسمار الذي ثقب خزان الأكسجين في بذلة ألكس.


هذا مُلخص لبداية حلقة تلفزيونية من حلقات مسلسل الخيال العلمي الجميل “الحب والموت والروبوتات”، وهي الحلقة المبنيّة أساسًا على قصة للكاتبة كلودين جرِجز، وعنوانها: “يد العون”. ويمكن لمن يهمه الأمر قراءة باقي القصة بسهولة على موقع مجلة “لايت سبيد” (LightSpeed)؛ إذ نُشرت للمرة الأولى في عام 2015م. في القصة نرى كارثة حقيقية تسبّب فيها مسمار طوله لا يتجاوز السنتيمترات من نُفايات فضائيّة خلّفها الإنسان هناك في وقت ما.

يدور الآن حول الأرض حوالي 100,000 قطعة صلبة بحجم المسمار الذي ثقب خزان الأكسجين في بذلة ألكس. وهذا بخلاف مئات الآلاف من القطع أكبر من ذلك أو أصغر، ويُقدّر الوزن الكلي لتلك المُخلَّفات التي تدور حول الأرض بنحو 11,500 طن، ويزداد العدد والوزن يوميًا.

فمنذ بداية عصر الفضاء عام 1957م، مع إطلاق القمر الصناعي الروسي سبوتنك-1، أُطلق نحو 6,500 صاروخ نحو الفضاء، والأجزاء التي لم تعد مستخدمة من تلك الأشياء التي نُطلقها إلى الفضاء، تمثّل خطرًا جسيمًا من نواحٍ عدّة.

وليس من المستبعد أن يحدث ما حدث مع ألكس في المسلسل التلفزيوني لرائد فضاء في الواقع، ويُثقب خزان الأكسجين أو يُعطب أحد الأجهزة الحيوية. حتى إن ألكس نفسها كانت محظوظة؛ لأن ذلك المسمار لم يُصب جسمها. فمسمار مثل هذا ستبلغ سرعته في دورانه حول الأرض (اعتمادًا على ارتفاع هذا المدار عن الأرض) نحو 7 كيلومترات في الثانية الواحدة، فهو بمنزلة رصاصة ستخترق جسدها.


منذ بداية عصر الفضاء عام 1957م، مع إطلاق القمر الصناعي الروسي سبوتنك-1، أُطلق نحو 6,500 صاروخ نحو الفضاء، والأجزاء التي لم تعد مستخدمة من تلك الأشياء التي نُطلقها إلى الفضاء، تمثّل خطرًا جسيمًا من نواحٍ عدّة


في فِلم سينمائي آخر، تخرج رائدة الفضاء، د. ستون من مركبتها “إكسبلورر” إلى الفضاء لإصلاح عطب في تلسكوب “هابل”. وفي خضم عملها جاءها تحذير من الأرض أن هناك سحابة من الركام الفضائي نتجت عن استهداف روسي لقمر صناعي للتجسس وتدميره، وأن هذه السحابة تتوسع ناحيتها. ولهذا، قضت التعليمات الواضحة بوجوب العودة إلى الأرض فورًا. لكن الحطام الفضائي أعطب أجهزة الاتصال، فتلاشى كل اتصال لها بالخارج، ولم يكن معها سوى قائد المركبة رائد الفضاء ماثيو.

لم تكتفِ المُخلَّفات الفضائيّة بإعطاب أجهزة الاتصال لديهما، بل ضربت تلسكوب “هابل” نفسه ومركبتهما “إكسبلورر”. وعندما عادا إلى المركبة وجدا أن باقي الطاقم كله قد لقي حتفه. وتتواصل الأحداث المثيرة جدًا في أحد أكثر أفلام الخيال العلمي إثارة في القرن الحالي، وهو الفِلم الأمريكي: “جاذبية”، الذي بدأ عرضه عام 2013م.

بالرغم من بعض الأخطاء العلمية في الفِلم، كما في بذلات رواد الفضاء التي ارتداها البطلان، فقد أسهم هذا الفِلم كثيرًا في توضيح الأثر الكارثي لتلك النُّفايات الفضائية على حياة روّاد الفضاء ومعداتهم. فبحسب عالم الفيزياء الكوكبية الأمريكي والمستشار العلمي للفِلم، كيفين جريزير، تعتمد فكرة الفِلم الرئيسة على ما يُسمَّى “متلازمة كسلر”، التي تفترض ببساطة أن انفجار قمر صناعي، مثلًا، سينشر حُطامًا يؤدي بدوره إلى تحطيم أقمار صناعية أخرى في مدار الأرض المنخفض، وهذا ما سينجم عنه شلال من الحطام يسير بسرعة عالية جدًا حول الأرض.

وليست الأرض وحدَها التي تُعاني تلك المشكلة، فالكواكب والأجرام الأخرى لم تسلم هي أيضًا من مُخلَّفاتنا. فالقمر، مثلًا، تدور حوله مجموعة كبيرة من النُّفايات الصلبة خلفتها أقمارنا الصناعية ومهماتنا الفضائية، وهي مرشحة للزيادة في المستقبل مع الخطط البشرية للعودة إليه في السنوات المقبلة.


حرق المُخلَّفات الفضائية بإدخالها إلى الغلاف الجوّي، يُعدُّ بالفعل جزءًا من اقتراحات حقيقية للتخلّص من تلك المُخلَّفات


مع هذه الكوارث المُحتملة، لم يفت الخيال العلمي تناول الحلول المُقترحة للتقليل من خطورة تلك القنابل الفضائية الموقوتة. ونذكر هنا من الخيال العلمي الصعب (وهو نوع من أنواع الخيال العلمي يهتم بإبراز التفاصيل العلمية)، المانغا الياباني “بلانيتِس” (Planetes)، الذي نُشر في سلسلة بدأت عام 1999م، وتتناول أحداثه مستقبلًا في نهاية هذا القرن حين يكتظ الفضاء بالمُخلَّفات. وهناك مهمة فضائية مُخصصة، هدفها منع اصطدام تلك المُخلَّفات بالمركبات الفضائية والأقمار الصناعية في مدار الأرض أو مدار القمر. فهي تجمع تلك المُخلَّفات أو تدفعها إلى الدخول في الغلاف الجوي للأرض ثم الاحتراق.

وحرق المُخلَّفات الفضائية بإدخالها إلى الغلاف الجوّي، يُعدُّ بالفعل جزءًا من اقتراحات حقيقية للتخلّص من تلك المُخلَّفات، وذلك بوضع نظام ليزر في مدار متزامن مع الشمس، يدفع الحطامَ الموجود في المدار الأرضي المنخفض إلى أن يدخل الغلاف الجوي للأرض، ومن ثَمَّ يحترق. ويمكننا هنا أن نرى التشابه الكبير بين هذه التقنية وتلك التي اُستخدمت في المانغا.

كثيرون رأوا ذلك الشعاع في أعمال الخيال العلمي، الذي يخرج من المركبات الفضائيّة الزائرة، ليحمل أشخاصًا أو أشياء من سطح الأرض، أو الجهاز الخيالي الذي ينقل الأشياء والناس بسرعة الضوء من كوكب إلى آخر. واليوم، يقترح فريق من العلماء في جامعة كولورادو أن تُستخدم تقنية شبيهة جدًا، لكن بتوظيف أشعة إلكترونية لسحب تلك النُّفايات من دون لمسها، ونقلها إلى مكان آمن. حتى إنّهم يخططون أن تُستخدم التقنية نفسها لتنظيف الفضاء بين الأرض والقمر من تلك المُخلَّفات.

وإن عدنا إلى الأنشطة البشرية المُخطط لها على أرض الواقع، والتي تنشر المزيد من الحطام الفضائي كل يوم، ومع خطط أمازون وسبيس إكس لإطلاق أساطيل من أقمار الاتصالات الصناعية الصغيرة إلى المدار الأرضي المُنخفض، يبحث العلماء عن طريق لتحييد خطرها. ولكن مع عدم وجود رغبة حقيقية أو حتى معاهدات فضائية حتى الآن تحد من انتشار تلك المُخلَّفات، تصبح مهمة إيجاد حلول فعالة أكثر صعوبة.

ومع ذلك، هناك بعض الأفكار، ربَّما يكون أحدثها وأكثرها إثارة ما اقترحه فريق بحثي يقوده علماء من جامعة ساوث فيرجينيا الأمريكية، وهي استخدام الذكاء الاصطناعي في تتبع تلك المُخلَّفات وتغيير مسارها بواسطة مجموعة من الليزرات في حالة توقّع اصطدامها بمُخلَّفات أخرى أو حتى بنيزك صغير. وبذلك نكون قد منعنا المزيد من التصادمات، وبالتالي المزيد من الحطام. لن نزيل الحطام، لكن سنمنع وجود المزيد.

ويعمل الباحثون على تطوير خوارزمية تستطيع توقّع الاصطدامات المحتملة، وتفعيل شبكة من الليزرات لإبعاد أحد الجسمين المتصادمين عن الآخر بدقة عالية، حتى إن كانت الأجسام صغيرة. وهذا النظام سيكون لديه القدرة على منع التصادمات بين جسمين في لحظة ما، بل التأكد أيضًا من أن المسار الجديد لا يتقاطع مع جسم جديد.

يعتمد هذا الحل على فكرة أن عزم فوتونات أشعة الليزر يمكنه أن ينقل دفعًا إلى الأجسام التي تُسلّط عليها. ففي بحث أجرته ناسا عام 2011م، وجدت أن تسليط شعاع من الليزر على قطعة من النُّفايات الفضائية سيحركها مسافة 1 ملم كل ثانية، وبتعريضها لزمن أطول ستزداد المسافة، وبمزيد من الليزرات سيتعاظم التأثير.

واعتمادًا على التقنية نفسها، اقتُرح أن يوضع نظام الليزرات هذا في مدار متزامن مع الشمس بحيث يدفع ذلك النظام الحطامَ الموجود في المدار الأرضي المنخفض إلى أن يدخل الغلاف الجوي للأرض ليحترق.

وثمة اقتراح آخر، من قِبل علماء من جامعة “سري” في بريطانيا بالتعاون مع عدة دول أخرى، وهو استخدام قمر صناعي مُتخصص في جمع المُخلَّفات الفضائية، وذلك باستخدام ما يمكن تسميته “حربة” تنطلق من القمر الصناعي بسرعة عالية تبلغ 20 مترًا في الثانية؛ لتخترق القطعة المُراد جمعها وتمسك بها، ويستمر القمر في سعيه لجمع النُّفايات الفضائية. وانطلق نموذج اختباري من هذا القمر إلى الفضاء فعلًا في عام 2018م، وأُجريت تجربة الحربة عام 2019م.

وقبل تجربة الحربة جرّب القمر الصناعي نفسه طريقة أخرى، وهي استخدام شبكة لجمع المُخلَّفات. ويستخدم هذا القمر نظام استشعار ورؤية لتحديد تلك النُّفايات في الفضاء، وبعد أن يُتم عمله في الجمع سيدخل الغلاف الجوي للأرض ليحترق.

ومع كل هذه الحلول وغيرها، لم نستطع حتى اليوم استخدام طريقة فعّالة على نحو واسع للتخلّص من النُّفايات أو تقليل كميّاتها، ومن ثَمَّ تقليل الأخطار التي تتعرض لها المهمّات المستقبلية. وربَّما مع المزيد من التجارب والتحسينات المُستقبلية والخيال، نستطيع إعادة المدار حول الأرض إلى ما كان عليه يومًا ما.


مقالات ذات صلة

تُعتبر “المُركَّبات الباقية إلى الأبد” من أخطر المشكلات الصحية المعاصرة، الناتجة عن مبيدات الآفات الزراعية. بينما يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لمواجهة هذه المخاطر..

أحدثت تقنيات تحرير الجينات، مثل “كريسبر كاس 9″، ثورة في علم الأحياء والطب، حيث فتحت آفاقًا لعلاج الأمراض المستعصية بكفاءة وبتكلفة منخفضة. لكن هذا التقدم يثير تحديات أخلاقية، خاصة فيما يتعلق بتحرير “خلايا الخط الجنسي” وتأثيراتها الاجتماعية. لذا، من الضروري الموازنة بين الطموحات العلمية والاعتبارات الأخلاقية لضمان مستقبل مسؤول للبشرية.

اكتشاف الإلكترونات في القرن العشرين أحدث ثورة في فهمنا، مما أدى إلى تطوير تقنيات مسرِّعات الجسيمات وكشف أسرار مذهلة عن عالم الذرة والمادة.


0 تعليقات على “كيف السبيل إلى كنس الفضاء الخارجي؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *