مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

النجوميّة.. من هرقل إلى رونالدو

كيف صار كريستيانو رونالدو بطلًا عابرًا للقارات؟

قيس عبداللطيف


هل كانت رحلة إلى المجهول؟ ربما يمكن قول ذلك، غير أن رونالدو، الذي فشلت صفقة انتقاله إلى مدريد في صيف 2008م، كان يتطلع إلى التاريخ، وكانت لديه الثقة الكافية بالمكانة التي يملكها ليذهب إلى المجهول إن رغب.

ينمو هنا سؤال جوهري: كيف تمكّن رونالدو من بناء هذه الثقة بنفسه؟ ولماذا اختار أن يضع نفسه أمام هذا التحدي الذي لم تكن نتائجه مضمونة؟

في صيف 2003م، وصل رونالدو إلى مانشستر يونايتد، بعد أن تصارعت عدّة أندية لضمّه رغبةً في تأمين المستقبل بلاعب كان يَعِد بسطوعه نجمًا مميّزًا. لم يكن صاحب الثمانية عشر ربيعًا آنذاك يكاد يستوعب ما يدور حوله، فها هو يتحوّل من مراهق لا يكاد يعرفه أحد إلا أهل بلدته الصغيرة التي تقع في جزيرة نائية وسط المحيط الأطلسي، إلى النجم الذي يرغب السير أليكس فيرغسون شخصيًا بالتعاقد معه.

وجد رونالدو نفسه في أحد أكثر الأندية جماهيرية في عالم كرة القدم، حيث يتابعه الناس من أقصى الشرق الآسيوي وحتّى الساحل الغربي للولايات المتحدة والمكسيك. وقبل تقديمه رسميًا لجمهور النادي والصحافة الرياضية، طلب من الإدارة أن تمنحه قميصًا يحمل الرقم 28، الذي كان له في ناديه السابق سبورتينغ لشبونة. فيرغسون رفض طلبه بشكل قاطع، وقال له إن قميصًا بالرقم 7 محجوزٌ له. ووجّه المدرب إلى اللاعب رسالته الأولى: “لن تكون لاعبًا ثانويًا، لقد تعاقدنا معك لأننا نريد أفضل لاعبٍ في العالم ضمن فريقنا”.

أن تكون لاعبًا يحمل الرقم 7 في مانشستر يونايتد فهذا ليس أمرًا عابرًا، فهذا القميص مرتبط بأساطير النادي. ارتداه جورج بيست في السبعينيات، وباري روبينسون في الثمانينيات، ثمّ تبعهم الفرنسي إريك كانتونا في التسعينيات، وكان آخر من ارتداه قبل رونالدو هو نجم الشباك الأول ديفيد بيكهام.

هذه القصّة، التي يعرفها الجميع تقريبًا، هي الجذر الرئيس لعلاقة رونالدو بجمهوره حول العالم. فهذا التحدي كان الأوّل في سلسلة طويلة من التحديات الكبيرة التي خاضها النجم البرتغالي، ووجد نفسه أمامها مرّات مختلفة، سواءً كان بفعل خياراته الشخصية، أم نتيجة الظروف التي قادته إلى ذلك.

مع توالي السنوات، تمكّن رونالدو من فرض نجوميته المطلقة؛ النجومية التي يتجاوز فيها اللاعب سقف الفريق ليكون بصفته “فردًا” هو النّجم الذي تتبعه أعين الجماهير، أيًا كان النادي الذي سيلعب له.

لم تكن جماهير كرة القدم خارج حدود إيطاليا خلال الثمانينيات تعبأ بنادي نابولي كثيرًا، كانوا يحبّون مارادونا، لا يهم من يلعب إلى جانبه، ولا أهمية للون القميص ولا المدينة ولا ارتباط جمهورها بكرة القدم، فالنادي كان ثانويًّا في الحكاية. وهي قصّةٌ يمكن أن نراها متكررة في حكايات لاعبين كثر.

لكن ما هو سرّ نجوميّة رونالدو؟ إنه ليس ديفيد بيكهام؛ لم يحصل على وسامة الإنجليزي التي جعلت منه نجمًا عالميًّا إعلانيًا متجاوزًا لحدود كرة القدم. وهو كذلك ليس مارادونا؛ لم تكن له مهارته وقدرته الساحرة بالكرة. وهذه النقطة الثانية هي المبرِّر الذي يسوقه كثيرون ممّن يرجّحون كفة غريمه الأرجنتيني ليونيل ميسي في ميزان الأفضلية. رونالدو ربما يعرف في قرارة نفسه هذه الفوارق، كما يُستشف من حديثه في مقابلته الأخيرة مع الإعلامي إيدو أغيري حول احترامه لأولئك الذين يحبون ميسي ومارادونا وبيليه. لكنه مع ذلك يقول بلهجة واثقة في المقابلة نفسها: “أنا أفضل لاعب في التاريخ.. بصراحة لا أرى أحدًا أفضل مني في التاريخ”.

المؤكد أن قدرة رونالدو المذهلة على الالتزام والمثابرة والاجتهاد قلّ أن تجد لها نظيرًا عند أي رياضي في التاريخ. لقد صقل نفسه واستفاد ممن حوله، وعرف منذ البداية أن عليه أن يقاتل حتى يصل إلى المكانة التي يطمح إليها، ثمّ أصر على مواصلة القتال بلا كلل كي يحافظ عليها بعد ذلك.

يمكن أن تسمّي لاعبين أكثر مهارة فنّية من رونالدو، ويمكن أن تستحضر لاعبين كانت لهم مسيرة أكثر نجاحًا. لكن من الصعب، إن لم يكن مستحيلًا، أن تجد في تاريخ كرة القدم بأكمله لاعبًا محترفًا أكثر تنافسيّةً وحماسةً واجتهادًا من رونالدو. وهنا يكمن سرّ العلاقة التي تجذب إليه أعين الجماهير من كل قارات العالم.

إنه يمثّل القيمة العليا للاجتهاد والعمل من أجل الوصول إلى القمّة. قصته تشبه حكايات النجاح التي يرويها مدربو التنمية البشرية، لكنها هنا واقعية تمامًا. فنتائجها تنعكس أمام الجماهير على أرضية الملعب، فهو النجم القادر على صناعة المستحيل بأهدافه الحاسمة، وله سجِّل الأرقام القياسية التي لا حصر لها، والإنجازات التي تبدو عصيّة تمامًا لكنه استطاع الوصول إليها.

لفهم مسيرة رونالدو والنجاح الباهر الذي حققه في كسب شهرة واسعة وقاعدة جماهيرية هي الأضخم في تاريخ الرياضة، علينا العودة إلى كتاب جوزيف كامبل: “البطل ذو الألف وجه”. رحلة رونالدو في الوصول إلى القمّة والتربع على عرشها تتقاطع بشكل باهر مع النظرية التي اقترحها كامبل للبطل النموذجي، والتي استنبطها من قراءة حكايات الأساطير في التراث الإنساني، وهي النظريات التي استفاد منها السينمائيون وكتاب الروايات، والسياسيون كذلك.

يقسّم كامبل رحلة البطل إلى مراحل، تبدأ بالرحيل والمغادرة وترك منطقة الراحة في مغامرة نحو التحديات الجديدة، مستمعًا إلى النداء الذي ينبع من داخل نفسه. ثمّ يتلقى البطل الإرشاد والنّصح من معلم، أو يتحصل على القوة الخارقة للمألوف، التي تهيئه لترك عالمه القديم، عابرًا العتبة نحو عالم جديد تملؤه التحديات ويؤسسه المجهول.

في المرحلة الثانية، يواجه البطل التحديات الكبيرة، ويعيش حالة الابتلاء التي تصقله وتطوّر من مهارته، ثم تختبره حتى يصير قادرًا على فهم نفسه وقدراته. وحينما يدرك أنّه صار قويًّا بما فيه الكفاية، يتجاوز حدود ذاته الضيقة، ويعود إلى عالمه حاملًا وعيه الجديد معه حتى يقاتل أعدائه وينتصر عليهم.

ثمّ في نهاية المطاف، وفي المرحلة الأخيرة من رحلته، يبلغ البطل الحكمة والمعرفة، والقدرة على فهم نفسه والعالم من خلال تجاربه التي خاضها، ويصير قادرًا على صنع التأثير دون الحاجة إلى الدخول في كل المعارك التي كان مضطرًا لأن يخوضها في السابق.

إن هذه المراحل تتجلّى في حكاية كريستيانو رونالدو. فحياته في مرحلة الشباب الأولى بين سبورتينغ لشبونة ومانشستر يونايتد تمثّل المرحلة الأولى في مسيرة صناعة “البطل”، فمهاراته تُصقل بالانتقال، ويحصل على الإرشاد من خلال معلمه، السير أليكس فيرغسون، ويبدأ بفهم قدراته حينما يحصل على مكانته في النادي تدريجيًّا، ليمتلك بعدها الثقة الكافية بنفسه لينطلق في مغامرة جديدة.

هنا تأتي مرحلة ريال مدريد، التي صقل فيها رونالدو نفسه ببطئ، فهو عاش تحديات متعددة، ربما وصلت أوجها في عام 2013م، عندما خرج رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جوزيف بلاتر ليسخر منه علانية، وكلّ ذلك وهو يعيش تفاصيل أقوى منافسة رياضية شهدتها كرة القدم، مع الأرجنتيني ليونيل ميسي. لم يمضِ كثيرٌ من الوقت حتّى تأتي لحظة النّصر، التي تمثَّلت في فوزه بلقب كأس الأمم الأوروبية في العام 2016م، ثم أكد هذا التفوق بفوزه بثلاثية دوري الأبطال التاريخية رفقة ريال مدريد ومدربه زين الدين زيدان.

ثمّ تبدأ المرحلة الثالثة من الحكاية، ورونالدو يمتلك “الحكمة والمعرفة” التي تخوله بأن يذهب في أي اتجاه يشاء. فهو يعرف أنه بلغ ذروة النجاح، وكلّ ما سيأتي بعد هذا هو تأكيد على ما سبق تحقيقه. تمضي هذه المرحلة عبر محطات مختلفة، تبدأ في تورينو بإيطاليا مع نادي يوفنتوس، وتنتهي أخيرًا بالوصول إلى الرياض، مرتديًا زي النصر، القميص الأصفر الزاهي، الذي صار من أشهر قمصان الأندية حول العالم.

في شرحه لكتابه الآنف ذكره، يوضّح جوزيف كامبل أن لكل قصة بطولة نمطًا عالميًا يتضمن مراحل تتشابه في كثير من الأحيان وإن اختلفت تفاصيلها. وما يجعل هذه الرحلة تخلد في الذاكرة وتحفظها الألسن وتتناقلها عبر الأجيال هو أنها تعكس تجربة الإنسان نفسه في مواجهة التحديات والنمو من خلالها. الأبطال يُخلّدون لأنهم يمثلون القيم العليا لمجتمعاتهم، مثل الشجاعة والحكمة والتضحية. والبطل لا يحقق النصر لنفسه فقط، بل يعود لمشاركة حكمته مع الآخرين، مما يجعله رمزًا يُحتذى به. من هرقل إلى أوديسيوس، ومن بروميثيوس إلى الملك آرثر، جميع الأبطال يتبعون نمطًا واضحًا، ورحلة رونالدو لا تختلف عن هذا النمط.


مقالات ذات صلة

تأليف: غدير الخنيزي
الناشر: روايات (مجموعة كلمات)، 2024م

في قلب الصحراء السعودية، حيث تتعانق الصخور مع السماء، وتنساب رمال الزمن عبر الوديان، تتألق كهوف العُلا وكأنها جواهر طبيعية وعجائب جيولوجية مذهلة تحمل في طياتها قصصًا من عصور غابرة.

يتزايد الاعتقاد الشعبي بوجود ظواهر غريبة وأجسام طائرة غير محددة تزور الأرض من الفضاء الخارجي.


0 تعليقات على “كيف استطاع كريستيانو رونالدو أن يصبح أسطورة عالمية؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *