منذ الإعلان عن احتفاء المملكة بهذا العام 2023م عامًا للشعر العربي، يُوقِد الشعراء والمشغوفون بالشعر العربي عمومًا شموع الأمل، إذ يحدوهم التفاؤل بأن مستقبل الشعر سيكون بعيدًا عمّا رسمه البرتغالي أفونسو كروش في روايته القصيرة “هيّا نشترِ شاعرًا”، التي يُخيَّل إليك حين تقرؤها أنك تنظر بعينَي شاعر حالم إلى الشعر بينما هو يُحمل على نعشه ليُدفن حيًّا!
الرواية التي تنطلق على ما يبدو من واقع متخيَّل بأسلوب متهكم ساخر لا يخلو من نزعة مبالغة، يصف لنا كروش من خلالها عالمًا لا يتحدث سوى لغة الأرقام والتقنية، ويتشبَّث بحبائل المادية إلى حدِّ نسيان الجوهر، حيث لا موضعَ قدم فيه لشاعر، ولا لرسّام أو فنان، إلا بما يُشبه دور السلعة التي تُشترى لمجرّد الزينة ثمّ تُباع أو تُرمى حين يُقضى منها الوطر. أما نهايتها التي تشبه الرثاء الحزين للشعر والشعراء، فقد يُشتم منها وجود ضوء آخر النفق وإن جاء به الكاتب على سبيل القدر الساخر، فالأحداث تنتهي بإدراك الفتاة الراوِية نفسها لقيمة الشعر في جوهره، ما يدفعها إلى زيارة شاعرها المهجور باستمرار في حديقته المنفى.
مع تفاؤلنا بأن مصير الشعر لن يكون بسوداوية نهاية الرواية، تبقى أسئلة كروش التي يثيرها من وراء ستار السرد في مخاض النقاش، وهي أسئلة يشاطرها إياه كثيرون كما أنها ليست وليدة الفترة الراهنة، بل هي تلقي بنفسها على أكثر من لسان ولأكثر من سبب وجيه. فمع سطوع نجم العلوم والتفوق الكاسح لثورة التقنية، وما أشرعته بعد ذلك من أبواب يصعب إيصادها من وسائل معلومات وتواصل وترفيه، بدا من الواضح بالنسبة للبعض أن الشعر يتراجع إلى الوراء وتضيق مساحته في حياة الناس، ومعه في ذلك الفن وكثير مما يُعرف اليوم بالعلوم الإنسانية، إلى حد دعا بعضهم إلى أن يطالب علنًا بالانتصاف لهذه العلوم في النظام التعليمي. فهل يأتي يوم يُصبح الشعر فيه مجرَّد بقايا من إرث قديم لا يُعبأ به إلا للزينة وتزجية الوقت؟
ربما ما لم يخطر على بال كروش حين كتب روايته، رغم أنها لم تكمل عقدًا منذ صدورها الأول، هو أن التقنية لن تتجرّأ فحسب على إقصاء الشعراء والكتّاب والفنّانين إلى “حدائقهم”، بل إنها تهدِّد بما هو أقسى من ذلك، من سحب البساط من تحت أرجلهم وهزّ كبريائهم بجعل أغلى ما يملكونه من كنوز الموهبة عرضة لتهديد الآلة ورتابتها وتحرُّكها في دوائر الماكنات والأرقام والإلكترونات.
هل تستطيع التقنية فعل ذلك؟ على الأقل هذا ما يأمله منها بعض المتحمِّسين لها، بدوافع طيبة أو شريرة، لا سيما مع التطورات المذهلة التي تشهدها تقنيات الذكاء الاصطناعي وما يدور في فلكها من جيوش البرمجيات والروبوتات، التي تبدو اليوم قادرة في الحد الأدنى على خوض تجربة الإنتاج للصور واللوحات والتصاميم والأفلام والمقالات والقصص والقصائد وغيرها، لتُفرغ ما في جعبتها دون قيد أو شرط في متناول الجمهور، ولتضاعف مزيج الغث والسمين البشري أضعافًا مضاعفة، على الأقل من حيث الكمّ حتى الآن. ولكي نتصوّر النوايا والطموحات على وجهها الصحيح، هاكَ مثلًا روبوت شركة غوغل الذي أطلقته مؤخرًا باسم “بارد”، وهي كلمة إنجليزية تعني الشاعر أو الشاعر المغني، كما قد تُستخدم للإحالة إلى ويليام شكسبير على وجه الخصوص.
وبعيدًا عن عاطفة الشعراء للشعر وهم يرون مجازهم الأثير عرضة “الغزو” على أيدي الروبوت، لا بُد لنا أن نتساءل هنا، وإن بدافع الفضول على الأقل، عن مآل هذه التطوّرات المتسارعة، وكيف لها أن تغيِّر مشهد الإبداع اليوم وغدًا. هل حقًا سنشهد في يوم قريب قدرة آلية على إنتاج “إبداعي” يكون التدخل البشري فيه محدودًا أو حتى معدومًا؟ وهل يمكن أن تنافس جودة هذا النتاج ما عتَّقه الإنسان من تجارب طويلة تنتقل من جيل إلى جيل؟ هل يمكن أن نقرأ يومًا ما معلّقات “روبوتيّة” تسد جوعنا إلى شعر امرئ القيس وأضرابه؟ وهل سنشاهد روبوتًا ينافس بشعره في المسابقات الشعرية ليهزم بشعره “المصنوع” عباقرة الشعر؟ أم هل سنقول يومًا عن الشاعر الإنسان المحلِّق بشعره إن به مسًّا من “تقنية” كما قال عنه الأولون إن به مسًّا من جنون؟
وإذا جاء ذلك اليوم، فهل سنُطلق على مثل هذا النتاج إبداعًا أصلًا؟ أم سينتقل مفهوم الشاعر والفنّان ليصدق على ذلك الشخص الذي يحرِّك خيوط الدُمية “الروبوت”؟ وكيف يغيّر مثل هذا النتاج رؤيتنا للشعر والفن والجمال والمفاهيم المرتبطة بها ويغذّي الجدل اللامنتهي حولها؟ فإذا كان الإبداع كما نفهمه نحن البشر عملية إنسانية تمتزج فيها قدرات النظر والمحاكاة بالخيال والتصرف والتعبير وغيرها، فأي من هذه القدرات سيكون من نصيب الروبوت وأي منها سيبقى في حوزة الإنسان وحده؟ كيف سنفهم بعد ذلك الأصالة والتميز والتجديد والسرقات الأدبية؟ وكيف سيؤثر ذلك على تيارات الكتابة والنقد ونظريات اللغة؟ وأين ستكون قيمة المثاقفة والتجربة والتأثر؟ وهل سيستطيع الجمهور المتذوّق أن يحافظ على ذائقته البشرية في التعامل مع هذا المزيج من الإبداع الإنساني الروبوتي؟
ربما يكون لبعض التساؤلات السابقة نصيبٌ من خيال لا ندركه أبدًا على أرض الواقع، ولعل بعضها سابق لأوانه المناسب له، لكن الأكيد الذي لا يعتريه شك هو أن التقنية عامل تغيير سريع في المجتمع والاقتصاد والثقافة، ونحن أبناء اليوم لسنا بحاجة إلى من يُفهمنا ذلك. ورغم هذا، فقصة اللؤلؤ التي نعرض لها في ملف هذا العدد كفيلة بإقناع من في قلبه ذرة شك، فهذه الدرّة الثمينة سلبتها التقنية والصناعة كثيرًا من ألقها وصرفت عنها غوّاصيها، بحيث يمكن لنا اليوم أن نتلقّى بيت حافظ إبراهيم هذا بقراءة مختلفة:
أنا البحر في أحشائه الدرّ كامنٌ.. فهل ساءلوا الغوّاص عن صدفاتي؟!
من المؤكد أيضًا أن تلك التساؤلات لها نصيبٌ من الحقيقة، فهاكَ على سبيل المثال نموذج جائزة “هوشي شينيشي” الأدبية اليابانية، التي بدأت منذ فترة بقبول المشاركات غير البشرية، بل إن رواية “نصف روبوتية” نجحت بالفعل في تخطي المرحلة الأولى منها في عام 2016م!
رغم كلّ ذلك، يظل بصيص الأمل يراود الشعراء والفنانين بأن تبقى جذوة الشعر أو الفن متقدة، بما هو تعبير عن الإنسان في كنهه ومكنون نفسه، يدرج به مدارج الشعور ويسمو به إلى حقيقة إنسانيته؛ بما هو تعبيرٌ عن المعنى في مقابل اللفظ، وعن الجوهر في مقابل المظهر. بارقة الأمل قد تلوح لنا من مثل مبادرة احتفاء المملكة بعام الشعر العربي، فحينما يُحتفى بالشعر يُؤمل أن يكون ذلك احتفاءً يجاوز القشور إلى اللب. يمكننا أيضًا أن نتلمّس مصابيح موقدة للأمل من مبادرات الصندوق الثقافي، التي تسعى لتوجيه الاستثمارات في الثقافة عمومًا لما لها من قيمة معنوية أصيلة إلى جانب ما يُرجى من فوائدها الاقتصادية التي ينبغي استثمارها.
وبالعودة إلى التقنية الذكية والموقف منها، دعونا نرجئ قلقنا حتى نمنح أنفسنا فرصة من التأمل الجاد فيما تبشر به، لعلّها تُسعفنا بحلول نحن اليوم في أمس الحاجة إليها في شتى حقول الحياة. ودعونا نتفاءل بأن الجيل الجديد سيغتنم ما لها من فوائد لا سبيل إلى إنكارها دون أن تستحوذ نزعة الروبوت على ما بقيَ لنا من إنسانية.
اترك تعليقاً