مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

ما زلنا نتعلم جديدًا منه

كسوف الشمس الكلي


د. نضال قسوم

يحدث الكسوف الكلي للشمس عندما يغطي القمر، في حركته الدورانية المنتظمة حول الأرض، قرص الشمس بالكامل من منطقة معيّنة من الأرض. فيؤدي هذا الاصطفاف إلى إغراق المشهد الطبيعي في شفق غريب، فيتحول النهار إلى ليل لبضع دقائق عابرة. ومع حجب القمر للشمس تدريجيًا، تنخفض درجة الحرارة، وتتحول زرقة السماء إلى عرض أثيري لألوان الشفق. ثم في لحظة من العجب الخالص تختفي الشمس، ويحل محلها تاج سماوي؛ إذ تظهر هالة الشمس التي يحجبها عادة ضوؤها الساطع. ويحدث هذا الكسوف الكلي المذهل كل 18 شهرًا تقريبًا، كما يحدث كسوفٌ جزئٌي ما بين مرتين وخمس مرات سنويًا في أماكن مختلفة على الأرض، لكنه أقل جمالًا وإثارة.

“مصادفة كونية”.. ولكنها لن تستمر إلى الأبد

إضافة إلى كونه مشهدًا مذهلًا، فإن الكسوف الكلي للشمس عجيب؛ لأنه يحدث فقط على كوكبنا، وذلك بسبب المصادفة الرائعة في المقاييس والمسافات بين الأرض والقمر والشمس. فالقمر يغطي الشمس في هذا الحدث؛ لأن قطريهما (الظاهريين) في السماء يتساويان إلى حد بعيد. فالقمر أصغر من الشمس قطرًا بـ400 مرة، لكنه أقرب إلينا 400 مرة. علاوة على ذلك، يدور القمر حول الأرض في مستوى يختلف قليلًا، أعلى أو أسفل من مستوى مدار الأرض حول الشمس، مما يجعل الكسوف لا يحدث في كل دورة، لكنه ليس نادرًا جدًا.

هذه “التوافقات الرائعة فريدة من نوعها بالنسبة إلى الأرض، ولا يحدث هذا في أي مكان آخر في النظام الشمسي بهذه الطريقة الخلابة التي تُرى بالعين المجردة. ولم يعثر العلماء حتى الآن على أقمار للآلاف من الكواكب التي اكتشفوها في العقدين الأخيرين حول نجوم أخرى (ولا شك أن لها أقمارًا)، وما زلنا نبحث عن نظام لنجم وكوكب وقمر تتناسب فيه المواقع بدقة فتحدث ظاهرة الكسوف هناك.

وإذا لم تكن التوافقات مدهشة بشكل كافٍ، فإن الكسوف الكلي لا يحدث إلا في فترة تمثل حوالي %5 من تاريخ الأرض، قبل زماننا هذا وبعده. ذلك لأن القمر يبتعد عن الأرض بحوالي 3.8 سنتيمتر سنويًا؛ وهذا يعني أنه بعد 100 مليون سنة من الآن، سيكون أبعد عن الأرض بـ%10، ومن ثَمَّ فلن يغطي الشمس تمامًا. لذا، فإن كسوف الشمس الكلي لم يكن يحدث في الماضي البعيد، ولن يحدث في المستقبل البعيد.

رسم توضيحي للكسوف الكلي، مصدر الصورة: .ESO/M. Kornmesser

المعتقدات الشعبية في الماضي والحاضر

غالبًا ما قُوبل كسوف الشمس عبر العصور بمزيج من الخوف والتبجيل والفضول. فصاغت الحضارات القديمة أساطير عديدة لتفسير هذا الحدث الغامض. ففي بلاد ما بين النهرين، كان يُنظر إلى الكسوف على أنه معارك بين “الآلهة”، بينما في الصين القديمة، تصوّروا تنينًا عظيمًا يلتهم الشمس. ونسبه الإسكندنافيون إلى “فنرير”، ذلك الذئب الوحشي الذي يلتهم الشمس خلال معركة كونية كبيرة. وفي الهند، كان الكسوف هو “راهو”، وهو ثعبان شيطاني يبتلع الشمس.

ولا تزال آثار بعض هذه الأفكار موجودة إلى يومنا هذا في الممارسات الثقافية المحيطة بالكسوف. فهي تعكس التأثير العميق للكسوف على المجتمعات البشرية، والشعور بالرهبة عند الناس تجاه هذه الظاهرة المثيرة.

وفي المقابل، فإن النبي محمد، صلّى الله عليه وسلّم، صحّح معتقدات الناس حول كسوف الشمس عندما تزامن مع موت ابنه، فقال لهم: “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا وصلّوا وتصدّقوا”، للتذكير بعظمة الله وتواضع البشر أمام قوته الخالقة.

وبالفعل، ندرك اليوم أن الكسوف هو ظاهرة طبيعية تحدث بانتظام ودقة، وتعكس نظامًا دقيقًا في الطبيعة والسماء، وتمنحنا فرصة لفهم الكون ومكاننا فيه. إنه تذكير بأن الكون ليس ساكنًا، بل هو متغير، وأن الأرض والبشر جزء من هذا التغيّر والتطور.

التفسيرات العلمية عبر التاريخ

على مر التاريخ، شكّل تفسير كسوف الشمس تحديًا للعلماء. وأظهرت التفسيرات المبكرة للكسوف براعة العلماء القدامى وحدود معارفهم في آن واحد. فقد استخدم الفلكيون البابليون، حوالي عام 700 قبل الميلاد، بيانات الكسوف التي جمّعوها (تواريخها ومددها… إلخ) لتوقع حدوثها في المستقبل. في اليونان القديمة، اقترح فلاسفة مثل طاليس، في القرن السادس قبل الميلاد، وأناكساجوراس، في القرن الخامس قبل الميلاد، تفسيرات طبيعية للكسوف، مركّزين على حركات الأجرام السماوية وانتشار ضوء الشمس وانعكاسه هنا وهناك. واقترح بطليموس، في القرن الثاني الميلادي، نموذجًا يحجب فيه القمر الشمس. وفي القرن السابع بعد الميلاد، ذكر عالم الفلك الهندي أرياباتا، أن القمر يلقي بظلاله على الأرض. أمَّا في الحضارة الإسلامية، فتجدر الإشارة إلى الأرصاد الدقيقة للشمس التي أجراها عدد من علماء الفلك في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، ومنهم على وجه الخصوص البتاني، الذي قاس القطر الزاوي للشمس ولاحظ تغيّره الطفيف بسبب تغيّر المسافة بين الأرض والشمس، وهو ما تنبأ به بطليموس، ولكن لم يتم قياسه، وينتج عن ذلك إمكانية حدوث كسوف حلقي (حيث لا تتغطى الشمس كليًا عند مرور القمر أمامها).

لم تظهر التفسيرات الدقيقة لظاهرة الكسوف إلا في عصر النهضة الأوروبية مع التقدم في علم الفلك النظري والرصدي. فقد أحدثت ثورة كوبرنيكوس وكيبلر وغاليليو ونيوتن في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، قفزة عملاقة في فهمنا للنظام الشمسي وقدرتنا على القيام بحسابات دقيقة وصحيحة. فقد قدمت قوانين كيبلر لحركة الكواكب نهجًا رياضيًا، وبيّنت نظرية نيوتن للجاذبية الأسباب الفيزيائية للحركات السماوية، مما أدى أخيرًا إلى فهم ظاهرة الكسوف وغيرها (مثل الخسوف) بشكل علمي رصين.

ومع التقدم في التلسكوبات، استطاع العلماء التعمق أكثر في الكسوف والبحوث الفلكية المختلفة. ففي عام 1715م، تنبأ عالم الفلك الإنجليزي الشهير هالي، بحدوث كسوف كلي للشمس ورصده، مما جذب حشودًا كبيرة في لندن. وباستخدام تلسكوب صغير وأدوات أخرى، شاهد هالة (أو إكليل) الشمس، وظاهرة أخرى جميلة تُعرف باسم “خرزات بَيلي”. وأكدت الأرصاد اللاحقة تركيبة الهالة ودرجة حرارتها، وكشفت أسرارًا أخرى لها. وتستخدم دراسات الكسوف الحديثة أجهزة متطورة لسبر الغلاف الجوي للشمس وهالتها، ومجالها المغناطيسي، وكذلك ما تحت سطح الشمس.

في القرن التاسع عشر، ومع ظهور التحليل الطيفي، اكتسب العلماء معلومات مهمة حول الخصائص الفيزيائية للشمس، التي يمكن رصدها خلال الكسوف، مثل اكتشاف الهيليوم عام 1868م من قِبل العالم الفرنسي بيار يانسين. فالكسوف يمثل فرصة لدراسات واستكشافات متنوعة للشمس.

وشهد القرن العشرون مزيدًا من التقدم في فهمنا للكسوف، وبلغت ذروة ذلك في تطوير المراصد الفضائية بأجهزة تُوضع على متن بعض الأقمار الصناعية. وأتاحت هذه التطورات التكنولوجية للعلماء دراسة الكسوف بأطوال موجية مختلفة، وفتحت نوافذ جديدة حول النشاط الشمسي.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن الكسوف أدَّى دورًا فعالًا في تأكيد نظرية النسبية العامة لآينشتاين، من خلال تمكين قياسات دقيقة لانحراف ضوء النجوم المارة بجوار الشمس، وذلك بسبب تأثيرها الجاذبي. وكان آينشتاين قد حسِب هذا التأثير، وقدَّم تنبؤًا جرى تأكيده في كسوف سنة 1919م.

مصدر الصورة: .NASA

كسوف 8 أبريل 2024

من المتوقع أن يكون كسوف 8 أبريل 2024م، حدثًا مهمًا وآسرًا لمحبي السماء في أنحاء أمريكا الشمالية. وسيُرى هذا الكسوف الكلي على مسار طويل من المحيط الهادئ إلى شمال المحيط الأطلسي، ليغطي أجزاء من المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ويتيح لملايين الأشخاص فرصة رؤية هذا المشهد السماوي العظيم. سيبدأ الحدث بعد الظهر في المكسيك، ثم يغطي ظل القمر شريطًا يمتد حتى شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. وسيدوم الكسوف الكلي حوالي 4 دقائق ونصف، بحسب الموقع المحدد على طول المسار.

يتوقع الملاحظون أن يكون هذا أحد أكثر الكسوفات متابعة من طرف الجمهور والإعلام، فيجذب حشودًا من المشاهدين إلى جانب العلماء وهواة الفلك.

الدراسات المستقبلية للكسوف

كما أشرنا آنفًا، يسمح الكسوف الكلي للعلماء بدراسة هالة الشمس وتغيّراتها وتكوينها الغازي وديناميكيتها، وظواهر مهمة أخرى مثل: الرياح الشمسية والمجالات المغناطيسية لنجمنا النشط.

ويوفر كسوف الشمس أيضًا فرصًا قيّمة لدراسة تباطؤ دوران الأرض وتغيّرات جيولوجية أخرى. فمن خلال التوقيت الدقيق لمدة الكسوف الكلي في مواقع مختلفة وعصور مختلفة، يمكن للعلماء التدقيق في سرعة دوران الأرض والتحقق من تغيراتها.

وأخيرًا، في علم الغلاف الجوي، يعتبر الكسوف بمنزلة تجربة طبيعية تسمح بدراسة آثار تغيرات الإشعاع الشمسي المفاجئة على الغلاف الجوي للأرض والمناخ. فمن خلال تحليل التغيرات في درجة الحرارة والرطوبة والضغط الجوي أثناء الكسوف، يمكن للعلماء تحسين النماذج الجوية وفهم تعقيدات النظام المناخي للأرض بشكل أفضل.

إن تطوّر تقنيات الرصد المختلفة سيمكّن العلماء من دراسة الغلاف الجوي لكل من الشمس والأرض والتفاعل بينهما، مما سيساعد على تحسين النماذج المناخية وغيرها من مجالات البحث ذات الصلة. وقد تركّز دراسات الكسوف المستقبلية أيضًا على تحسين نماذج النشاط الداخلي للأرض من خلال الاستفادة من البيانات التي ستُجمع أثناء الكسوف.

ختامًا، يذكّرنا كسوف الشمس الكلي بالترابط بين الأرض والبشر، وبين الأجرام السماوية والكون. ومن خلال فهم هذه الظاهرة، فإننا لا نحتفل بتقدمنا العلمي فحسب، بل نعي أيضًا الرهبة التي أسرت المجتمعات البشرية لآلاف السنين. ونحصل على فرصة للتعرّف على رحلة الاكتشاف العلمي والفلكي للعالم والكون، وهي رحلة مثيرة شارك فيها علماء كُثر من البابليين إلى خبراء القرن الحادي والعشرين.


مقالات ذات صلة

تُعتبر “المُركَّبات الباقية إلى الأبد” من أخطر المشكلات الصحية المعاصرة، الناتجة عن مبيدات الآفات الزراعية. بينما يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لمواجهة هذه المخاطر..

أحدثت تقنيات تحرير الجينات، مثل “كريسبر كاس 9″، ثورة في علم الأحياء والطب، حيث فتحت آفاقًا لعلاج الأمراض المستعصية بكفاءة وبتكلفة منخفضة. لكن هذا التقدم يثير تحديات أخلاقية، خاصة فيما يتعلق بتحرير “خلايا الخط الجنسي” وتأثيراتها الاجتماعية. لذا، من الضروري الموازنة بين الطموحات العلمية والاعتبارات الأخلاقية لضمان مستقبل مسؤول للبشرية.

اكتشاف الإلكترونات في القرن العشرين أحدث ثورة في فهمنا، مما أدى إلى تطوير تقنيات مسرِّعات الجسيمات وكشف أسرار مذهلة عن عالم الذرة والمادة.


0 تعليقات على “كسوف الشمس الكلي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *