ما إن اندلعت الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، حتى توالت سريعًا سلسلة من العقوبات الغربية الموجهة ضد الأولى. لكن بعد ثمانية أيام فقط، كانت هناك عقوبة غير تقليدية تتعلق بكرة القدم تبرز بقوة في عناوين الأخبار، إذ أُعلن عن تعليق عضوية جميع المنتخبات الروسية الوطنية في كرة القدم، وكذلك الأندية التي تتبع الاتحاد الروسي للّعبة، حتى إشعار آخر. وتُعتبر هذه العقوبات الكروية الأسرع في تاريخ كرة القدم المعاصرة التي تُفرض على دولة نتيجة لأفعالها السياسية. وفي حين تراجعت رياضات أخرى مثل التنس عن العقوبات التي فرضتها، فإن العقوبة الكروية لا تزال قائمة. وهذا ليس مجرد صدفة، بل يعكس الواقع المذهل لمكانة كرة القدم بوصفها قوة ناعمة، فبقاء حرمان روسيا وأنديتها كرويًا يُعتبر تذكيرًا للعالم غير المنشغل بالسياسة بأن الحرب مستمرة.
في تلك الأيام، تعرَّض رجل الأعمال الروسي البارز رومان أبراموفيتش لضغوط هائلة لبيع نادي تشيلسي الإنجليزي الذي يمتلكه، بوصفه مليارديرًا روسيًا وثيق الصلة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. اضطُر أبراموفيتش لاحقًا للتخلي عن النادي وتسليمه لملياردير أمريكي اسمه تود بويلي. ومن جانب آخر، صدرت تعليمات ملزمة لمقدمي خدمات البث الفضائي في الدوريات الأوروبية الغربية بإظهار الدعم لأوكرانيا، وبالفعل قرّر الدوري الإسباني وضع العلم الأوكراني إلى جانب النتائج، في حين قامت إيطاليا بإضافة كلمة “سلام” بجوارها.
عند زيارة موقع “سوفت بور 30” (Softpower 30)، الذي يقوم بتصنيف الدول وفقًا لقوتها الناعمة، نجد المملكة المتحدة تحتل المركز الثاني حاليًا بفارق ضئيل خلف فرنسا. وفي شرحه لنقاط قوتها التي جعلتها في هذا المركز الرفيع، يقول الموقع: “تكمن قوة المملكة المتحدة في التعليم والثقافة كقطاعين رئيسين يدعمان قوتها الناعمة”. ويُلاحظ أيضًا في شرح الموقع لمفهوم الثقافة إشارته الصريحة إلى أهمية الدوري الإنجليزي الممتاز بوصفه مصدرًا لقوة ثقافية ناعمة للمملكة المتحدة.
تمرير الرسائل بواسطة الجذب
وكان مفهوم القوة الناعمة قد أصبح محط اهتمام إعلامي في أوائل التسعينيات. ويشير العالم السياسي جوزيف ناي، الذي يُعتبر الأب الروحي لهذا المفهوم، في مقال نشره عام 2012م إلى أن “أفضل أداة للدعاية هي بعدم وجود دعاية”. وهذا يعني أن أفضل وسيلة لنقل الرسائل السياسية والاقتصادية للناس ليست عن طريق الدعاية المباشرة، وإنما عبر مشاريع أخرى لها حزمة من الأهداف المستقلة، بحيث تجذب الناس إليها ليتم بواسطتها التأثير عليهم. لذلك كان تعريفه الأول للقوة الناعمة بأنها “الحصول على ما تريد من خلال الجذب”.
ومن المعروف أن السياسيين غالبًا لا يفوّتون أي فرصة للظهور في أي مكان يجتمع فيه الناس، مع رغبة واضحة بالتأثير فيهم. وبذلك يمكن أن نفسّر نشاط السياسيين في المجال الفني والمسرحي، بل حتى في أماكن العبادة في بعض الأحيان. وعندما ندرك أن عدد مشاهدي كأس العالم 2018م بلغ 3.572 مليار مشاهد حسب ما أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا”، بنسبة تغطية تقترب من %45 من سكان كوكب الأرض في بطولة مدتها شهر واحد فقط، سندرك لحظتها لماذا تُعد كرة القدم من أهم منشطات القوة الناعمة، خصوصًا أن نسبة المشاهدة هذه تتميّز بتركّزها في القوة الشابة من المجتمع، والتي تكون عادة الأكثر تأثيرًا في المجالات السياسية والفكرية والاقتصادية.
وقد علم يوزف غوبلز، المروج الأشهر بالدعاية السياسية المضللة لصالح الحزب النازي، بالقوة الناعمة لكرة القدم قبل غيره، وأدرك إمكانية تفوقها على السلاح والسياسة التقليدية. فبعد هزيمة ألمانيا في مباراة ودية أمام السويد، كتب رسالة إلى أدولف هتلر جاء فيها: “100,000 شخص غادروا الملعب في حالة من الاكتئاب. الفوز في مباراة كرة قدم أهم بالنسبة للناس من احتلال مدينة في الشرق”.
ولكرة القدم شبه واضح بمنصات البث الرقمية الحديثة في قدرتها على التأثير في أفكار الجماهير بشكل جماعي وتشكيل صورة معينة في أذهانهم، فكلاهما يشتركان في توفير تجربة مليئة بالأدرينالين والقدرة على شد الانتباه الكامل لفترة طويلة. وخلال هذه التجربة يمكن تحقيق التأثير بسهولة، إذ يمكن نقل الأفكار والرسائل من خلال حركات بسيطة، مثل وضع علم دولة ما بجوار النتيجة، أو انثناء اللاعبين على ركبة واحدة قبل بدء المباريات كعلامة تضامن رمزية ضد العنصرية.
تشكيل الصورة الذهنية
وعلى الرغم من أن الأبحاث ومقالات المفكرين كثيرًا ما تشير إلى الجانب السلبي من القوة الناعمة لكرة القدم، وتتحدث عن استغلال الحكومات لها لتغطية الأخطاء أو الفساد، إلا أنه لا يمكن تجاهل الجانب المشرق عند استخدامها بنية صالحة ولصالح هدف إيجابي. وتاريخ هذه اللعبة وحاضرها يحفلان بالعديد من الأمثلة على توظيف القوة الناعمة فيها لأغراض حسنة، فمثل أي نوع آخر من قوى التأثير الناعمة، تعتمد طبيعة الأمر بالنسبة لكرة القدم على نية المتعاملين معها وأهدافهم.
ومن دون الخوض في التفاصيل العميقة، فقد أشار كتاب “دبلوماسية كرة القدم منذ عام ”1914إلى طلب السفير الإسباني في تونس عام 1969م من حكومة بلاده بالتحرك لإقناع ريال مدريد بلعب دور في بطولة تقام في شمال إفريقيا، لتسريع بناء علاقات طيبة بين الطرفين. وبعد ذلك الطلب بتسع سنوات، كان الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة يشيد باللاعبين بعد عودتهم من مونديال 1978م في الأرجنتين قائلًا: “أنجزتم مهمة خمسين سفيرًا”، وكان يقصد أن العالم بات يعرف تونس جيدًا بعد نتائج المنتخب الطيبة في كأس العالم، إذ حققت تونس آنذاك أول فوز عربي في تاريخ المونديال على حساب المكسيك (3-1)، وفرضت التعادل على ألمانيا الغربية دون أهداف.
وتُعد البرازيل من أبرز الأمثلة في هذا الصدد، فأسماء مثل بيليه ورونالدو ورونالدينيو يعدلون أقوى سفراء الدول تأثيرًا، حيث رسموا صورة إبداعية للشعب البرازيلي وتحرره من التقاليد المحدودة، وبرهنوا على امتلاك لاعب السامبا خيالًا مختلفًا عن غيره من اللاعبين. وتأتي احتفالات المنتخب البرازيلي في كأس العالم بعد تسجيله الأهداف لتعكس صورة لا يمكن مقاومتها في أذهاننا بأن البرازيل بلاد فرح وبهجة، مما يجعل جمهور المشاهدين يرغبون في زيارتها على الأقل مرة في حياتهم.
وعند قراءة كتاب “كرة القدم.. الحياة على الطريقة البرازيلية” للمؤلف أليكس بيلوس، سيدرك القارئ الأثر المدهش الذي تمتلكه هذه الجلدة المستديرة على ثقافات الشعوب المولعة بها، وكيف يمكن لها أن تكون قوة دافعة إيجابية للمجتمعات لإيجاد حلول لأزماتهم. ويكفي أن أذكر هنا معلومة لا تفارق ذاكرتي من هذا الكتاب مفادها أن البرازيليين أصبحوا الأفضل في العالم مهاريًا بشكل قاهر وليس اختياريًا، وذلك نظرًا لتعرضهم للتمييز العنصري في بلادهم من قبل المستعمرين الأوروبيين والمستثمرين منهم بعد ذلك، وهذا كان ينطبق حتى على المباريات، حيث كان ضربهم في الملعب شبه مباح. ونظرًا لضعفهم البنيوي بالمقارنة مع الغربيين، لم يكن لديهم سلاح يمكنهم أن يتفوقوا به على خصومهم في الملاعب سوى الرقص مع الكرة، فكان هذا الأسلوب الذي لا يزال مستمرًا حتى يومنا هذا، وبات ثقافة برازيلية في الملاعب يعتزون بها.
تجارب ناجحة للعرب
في مقال نُشر على موقع قناة الشرق الأوسط، سلَّط وزير الإعلام السعودي الحالي، سلمان الدوسري، الضوء على “قوة محمد صلاح الناعمة”. نُشر المقال في عام 2018م، وذلك في فترة تفوّق اللاعب المصري مع فريق ليفربول، حيث كان يحقق إنجازات مذهلة ويسجل أهدافًا بشكل لا يصدق، مما أسهم في قيادة فريقه إلى نهائي دوري أبطال أوروبا في تلك السنة. وركز المقال على قدرة صلاح على تغيير نظرة الغرب نحو اللاعبين العرب وصورتهم المهنية كلاعبين محترفين من أعلى طراز.
وأشارت دراسة بريطانية أيضًا إلى تأثير اللاعب الواضح في تراجع ظاهرة “الإسلاموفوبيا” وجرائم الكراهية في منطقة ميرسيسايد، الموطن الرئيس لنادي ليفربول، بنسبة تقارب %19، كما سجَّلت تغريدات جماهير ليفربول المعادية للمسلمين انخفاضًا بنسبة .%50
وفي الفترة الأخيرة، شهدنا تجليات جميلة للقوة الناعمة في الكرة العربية، وتحديدًا في المملكة والإمارات، وكان ذلك يتحقق داخل الملعب وخارجه.
في المملكة، ظهرت القوة الناعمة من خلال استثمار نادي نيوكاسل يونايتد من جهة، وجلب كبار النجوم إلى الدوري السعودي من جهة أخرى. أما نيوكاسل فتأهل بسرعة مذهلة إلى دوري أبطال أوروبا بعد أن كان يصارع للنجاة من الهبوط، وذلك بفضل الصفقات الذكية التي أبرمها بتكاليف مناسبة، مما أثار إعجاب الكثيرين ممن أشادوا بحكمة الاستثمار السعودي في النادي. وقد أظهرت هذه الصفقات رؤية إستراتيجية متميزة تختلف عن الصورة النمطية المغلوطة في الغرب حول المستثمرين العرب.
وتجلّى وجه آخر للقوة الناعمة من خلال صفقات الدوري السعودي الكبرى واستغلالها لأغراض إستراتيجية أرفع. فوصول نجوم كرة القدم مثل كريستيانو رونالدو وكريم بنزيما وغيرهم إلى الدوري السعودي، أثار تساؤلات حول غايات هذه الصفقات. ولكن في غضون ذلك، أعلن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن مشروع الاستثمار والتخصيص للأندية الرياضية، فأكد هذا الإعلان أن الهدف لم يكن مجرد استعراض للقدرات المالية، بل هناك استخدام ذكي لشهرة هؤلاء النجوم لخدمة هدف اقتصادي مهم يستفيد منه المجتمع بشكل عام، من خلال زيادة فرص العمل وتعزيز دور كرة القدم الاقتصادي ونشر الوعي بأهمية الرياضة.
أما بالنسبة للإمارات، فكان مانشستر سيتي يحقق ثلاثية تاريخية هي الثامنة في عالم كرة القدم الأوروبية، لينضم بها إلى قائمة فيها بعض عظماء كرة القدم مثل مانشستر يونايتد وبرشلونة وبايرن ميونخ. وانتقل الفريق الأزرق في 15 سنة من الاستثمار الإماراتي إلى مكانة يوصف فيها بالأقوى والأفضل في العالم دون نقاش، كما أصبح مركزًا لمشروع أكبر اسمه مجموعة “سيتي فوتبول”، التي تُعد الآن أكبر استثمار كروي قيمة في العالم، وهو ما دفع الإعلام الإنجليزي للإشادة مرة أخرى بالمستثمر العربي، الذي آمن بالخطوات العلمية والتدرج حتى يحقق أهدافه.
اختصارًا لما سبق، يمكن القول إن الانطباع السائد في بعض الأبحاث والمقالات عن الاستخدام السيِّئ لقوة كرة القدم الناعمة ليس إلا نتيجة النظر للموضوع من زاوية محدودة تلحظ بعض القضايا، فهناك تجارب عديدة تكشف عن قدرتها الإيجابية على خلق التغيير المرجو. ولعل من الجميل أن يكون الجزء الإيجابي من ذلك فيه بصمات عربية واضحة، خصوصًا فيما يتعلق بتغيير الانطباعات الخاطئة عن منطقتنا.
كرة القدم تجلب نصف سكان الأرض لمشاهدتها، وهي تتمتع بإمكانات واعدة لأن تصبح أهم قوة ناعمة على وجه الأرض، وذلك بناءً على حجم النقاشات والتفاعلات التي تثيرها في شبكات التواصل الاجتماعي. ويمكن استغلال هذه القوة لتغيير الصور النمطية السائدة والمغلوطة، ويمكن أيضًا استخدامها لبناء أسس اقتصادية إستراتيجية، ولتوجيه الاهتمام لقضايا إنسانية مهمة وتوعية الجمهور ببعض المخاطر الصحية. وهي بالتأكيد إحدى أسرع الوسائل لتحقيق هذه الغايات الطيبة، وبالتالي ينبغي أن نوليها الاهتمام المستمر لتظل قوة دافعة تؤثر إيجابًا على المجتمعات الشبابية.
مقال اكثر من رائع ويعكس مدى ربط كرة القدم بالقوة العالمية غير النفط