يتطلع معظم البشر إلى الحيوانات من خلال منظور ضيق جدًا، ولا يعتبرونها سوى كائنات مختلفة تبدو في الغالب هامشية في حياتهم. ومع ذلك فإن للحيونات قدرات إبداعية هائلة، سواء أكانت تبني مأوى لها، أم تغري شريكها، أم تعبّر عن غضبها أو تعاطفها، أم ترتجل أغنية جديدة، أم تخترع لعبة مسلية. هذا ما يتناوله كتاب “الحياة الإبداعية للحيوانات” للأستاذة في الإعلام الديناميكي والدراسات النقدية والثقافية كارول غيغليوتي.
تقول الباحثة إن من بين سلوكيات الحيوانات الإبداعية الأنشطة المتعلقة باللعب الذي لاحظه العلماء في الأخطبوطات والسلاحف والدبابير الورقية وبعض الحيوانات الأخرى. فعلى سبيل المثال، يعتقد علماء البحار أن الفقاعات التي يصنعها الحوت الأحدب لاصطياد مجموعات الأسماك، يتعلمها عن طريق اللعب، وليس من التعلم المرصود. كما أن الذبابة تبني، باستخدام الصفات الإبداعية نفسها عند القندس، غلافًا وقائيًا فريدًا حول نفسها باستخدام خيوط الحرير اللاصقة التي تنبثق من رؤوسها، وهي بذلك تختار المواد المناسبة له بعناية من النباتات وحبيبات الرمل وشظايا الخشب والحصى والأصداف الصغيرة. ومن جهة أخرى، ما قد لا نعرفه هو أن الغناء بالنسبة للعديد من الطيور المغردة ليس مسألة فطرية، ولكنها تتعلم كيفية الغناء في وقت لاحق من حياتها، وأن المكان الذي تتعلم الأغاني، والوقت ومن يعلمها الغناء، هي خاصة متفردة لدى كل نوع من الأنواع. كما أن حياة الحيوانات بوصفها كائنات عاطفية تؤثر أيضًا على قدراتها الإبداعية. فقد وجد الباحثون أن الدجاجات المنزلية تظهر استجابة عضوية وسلوكية واضحة تجاه صغارها عندما تستشعر إحساسهم بالضيق، وأن ذلك يخلق عندها حالة من التعاطف تساعدها في ابتكار حلول إبداعية لمواساتهم.
لطالما كانت الفيزياء تهدف إلى توسيع معرفتنا بطبيعة المادة والعالم من حولنا، ولكن كيف يمكن استخدام التجارب لتعزيز هذا المسعى؟ وكيف يمكن أن تقاس كتلة جسيم أصغر تريليون مرة من حبة الرمل؟ كيف نستطيع التقاط حركة الجسيمات التي تقطع مليارات الأميال عبر الفضاء السحيق؟ وأخيرًا، ما أهمية كل ذلك؟
في هذا الكتاب، تعرّفنا عالمة فيزياء المسرّعات سوزي شيهي على الأشخاص الذين أجروا اختبارات غيرت مجرى التاريخ من خلال مزيج من العبقرية والمثابرة والصدفة، من اكتشاف الأشعة السينية الذي حدث بالصدفة في مختبر ألماني، إلى محاولة العلماء إثبات خطأ نظرية آينشتاين، لينتهوا إلى إثبات صحتها وإن عن غير قصد.
وتوضح شيهي كيف أن “نظرتنا إلى أصغر المكونات في الطبيعة قد تغيرت بسرعة على مدار المئة والعشرين سنة الماضية”، فرغم أن العلماء اتفقوا في نهاية القرن التاسع عشر على أن “موضوع الفيزياء قد اكتمل تقريبًا”، إلا أن اكتشاف الأشعة السينية أظهر أن الكون لا يزال لديه المزيد من الأسرار للكشف عنها. وتبع ذلك سلسلة طويلة من التجارب، ففي حوالي عام 1900م، قام عالم الفيزياء الألماني ماكس بلانك بعمل مهم يتعلق “بتكميم الطاقة”، واكتشف عالما الفيزياء الألمانيان هانز غايغر وإرنست مارسدن بنية الذرات بعد بضع سنوات… إلخ.
تقول شيهي إن هذه التجارب لم تشكل فهمنا للكون فحسب، بل شكلت أيضًا الطريقة التي نعيش بها، إذ ساعدتنا هذه الإنجازات في بناء أجهزة كشف ترسم خرائط لدواخل البراكين، وتطوير معدات طبية منقذة للحياة، وإنشاء أجهزة إلكترونية تُستخدم في كل شيء من كابلات الألياف الضوئية إلى الألواح الشمسية، من بين تطورات أخرى لا حصر لها، بما في ذلك أشباه الموصلات وشبكة الويب العالمية وطرق التأريخ في علم الآثار والتصوير المقطعي. وعلى طول الطريق، تبرز شيهي أسماء لبعض العلماء المنسيين، بما في ذلك عددًا من النساء اللواتي تم حذفهن من التاريخ، ومن أبرزهن عالمة الفيزياء الهندية بيبها شودهري، التي اكتشفت دليلًا على “جسيمين دون ذريين جديدين” في الثلاثينيات من القرن الماضي.
باختصار، يستكشف هذا الكتاب الاختراعات الفيزيائية المتواصلة التي تظهر البراعة البشرية والإبداع، وفوق كل شيء الفضول والرغبة البشرية الدائمة في تحقيق المعرفة.
منذ زمن ليس ببعيد، كانت الموسوعات هي التي تشكل فهمنا للعالم، وكانت تعطي لكل من يطلع عليها إحساسًا بالحكمة المطلقة. ويتتبع الكاتب البريطاني سيمون غارفيلد في هذا الكتاب تاريخ الموسوعات من اليونان القديمة إلى عصرنا الحالي، مركّزًا بشكل خاص على موسوعة بريتانيكا التي تُعتبر المعيار الذهبي للموسوعات كلها في العالم، والتي يعود أول صدورها إلى عام 1768م، وكانت مزيجًا من مواد مستمدة من مصادر موجودة سابقًا ومقالات أصيلة من محررين متنوعين.
وقد استخدمت الإصدارات اللاحقة من هذه الموسوعة مساهمات من محررين متخصصين بعضهم ذوي أسماء لامعة، فقد كتب غارفيلد يقول: “في عام 1926م، تلقّى جورج برنارد شو 68.50 دولارًا أمريكيًا مقابل مقالته عن الاشتراكية، بينما تلقى ألبرت آينشتاين 86.40دولارًا أمريكيًا مقابل مقالته عن الزمان-المكان”. ومع ذلك، يلاحظ غارفيلد أن بريتانيكا كانت بعيدة كل البعد عن كونها المحاولة الأولى لتوحيد المعرفة كلها في العالم، إذ كان للإغريق والرومان القدامى العديد من المحاولات لجمع المعرفة في مجلد واحد. ولكن في الواقع، تمثلت أهم المحاولات في موسوعة يونغل داديان الصينية، التي تعني حرفيًا الوثائق الشاسعة لعهد يونغل، والتي كانت أقدم موسوعة في العالم والأضخم حتى سبتمبر 2007م، حينما تجاوزتها موسوعة ويكيبيديا. فقد شارك أكثر من ثلاثة آلاف مثقف في عهد الإمبراطور يونغلي (1403-1406م) في وضع هذه الموسوعة التي تتألف من 22,937 جزءًا تم جمعها في 11,095 مجلدًا، أي ما يساوي 12 ضعف الموسوعة التي وضعها الفرنسيان ديدرو ودالامبير في القرن الثامن عشر الميلادي.
ومن جهة أخرى يقول غارفيلد إن: “اختيار ما يتم تصنيفه على أنه معرفة ذات قيمة، وطريقة تقييمها وأفضل وسيلة لتقديمها، كان هو الهم الأساس لكل محرر موسوعة في التاريخ”. ليخلص في النهاية إلى أن الموسوعات ذات النسخ الورقية استُبدلت أولًا بأقراص مضغوطة، ومن ثم بويكيبيديا ومصادر رقمية أخرى. في الواقع، حسب غارفيلد، اعتمدت ويكيبيديا على معلومات كثيرة مستمدة من الطبعة الحادية عشرة لبريتانيكا (خارج حقوق الطبع والنشر) باعتبارها قاعدة معارفها الأساسية. ولكن حتى مع تراجع المطبوعات الورقية في العالم، فإن إرث تلك الموسوعات المتميزة القديمة سيستمر.
“تمثل أسطورة بابل النظير الأفضل لأسطورة اللغة الآدمية، إذ تسلط الضوء على غموض الألسنة الكثيرة التي يتحدث بها البشر وعدم التوافق فيما بينها”، هذا ما تقوله عالمة اللغة الفرنسية مارينا ياغويلو في هذا الكتاب، الذي يأتي بمثابة إضافة فصل مهم آخر إلى هذه الأسطورة البابلية الشهيرة.
تستكشف ياغويلو في هذا الكتاب تاريخ اختراع اللغات وحاضرها الحالي، من التحدث بألسنة مختلفة في أطر دينية معينة، مرورًا باختراع لغات بهدف تحقيق اليوتوبيا الشمولية، إلى الاكتشافات اللغوية الحديثة. وضمنت كتابها بحثًا عن اللغات الخيالية التي هي منتجات جهود فردية لوضع لغة ما يمكن تعريفها بأنها أنظمة مستقلة ومكتملة بحد ذاتها ومقصورة للاستخدام الجماعي، ولكنها لغات خيالية. وبالتالي، فهي تختلف عن اللغات الطبيعية واللغات المشهود لها تاريخيًا.
تحقق ياغويلو في مصادر اللغات الخيالية في الأساطير والأحلام وفي أدب اليوتوبيا. ومن ثم تأخذ القراء في جولة على اللغات المخترعة في الأدب من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، بما في ذلك تلك المذكورة في كتاب يوتوبيا لتوماس مور في القرن السادس عشر، وفي الرموز الخاصة في علم الجبر التي وضعها عالم الرياضيات الألماني غوتفريد ليبنيز في القرن السابع عشر، وفي الخيال اللغوي المتضمن في روايات الكاتب البريطاني إدوارد ليتون من القرن التاسع عشر. كما تسلط الكاتبة الضوء على الأوهام اللغوية (أو الجنون) للمتخصص اللغوي نيكولاي مار في العقد الأول من القرن العشرين قبل الشروع في نظريته اليافثية حول أصل اللغة التي تعتبر الآن نظرية زائفة. وتنظر الكاتبة أيضًا في البحث عن اللغة الفلسفية الحقيقية. ولا تغفل الإشارة إلى اللغات العديدة التي اختُرِعت في السنوات الأخيرة، سواء أكانت لغات مصطنعة تهدف إلى تسهيل التواصل العالمي، أم اللغات المتخيلة المبتكرة كجزء من عوالم الخيال العلمي.
وتخلص الكاتبة إلى القول إنه على الرغم من أن هذه اللغات الخيالية، في الغالب، لم تترك إلا بصمات قليلة على العالم الفكري الأوسع، لكن دراسة هذه الاختراعات اللغوية تسمح لنا، في الحد الأدنى، بالتعمق في فكرة اللغة وإدراك غرابتها والاندهاش أمام معجزاتها.
مقارنة بين كتابين
سحر الرهبة وقوة الأحاسيس
(1)
الرهبة: العلم الجديد للعجائب اليومية وكيف يمكنها أن تغير حياتكAwe: The New Science of Everyday Wonder and How It Can Transform
Your Life, by Dacher Keltnerتأليف: داتشر كيلتنر
الناشر: Penguin Press, 2023
(2) مثير: قصة جديدة لأحاسيسنا
Sensational: A New Story of our Senses by Ashley Ward
تأليف: آشلي وارد
الناشر: Profile Books, 2023
في العالم المحموم الذي نعيش فيه مع ضجيج الوسائل التكنولوجية والانفصال المخيف عن كل ما يحيط بنا، صدر مؤخرًا كتابان، الأول بعنوان “الرهبة” لمؤلفه عالم النفس الاجتماعي داتشر كيلتنر، والثاني بعنوان “مثير” للدكتور آشلي وارد، المتخصص في علم السلوك الحيواني، يدعوان إلى التواصل مع دواخلنا والتعرف على مشاعرنا العميقة كوسيلة لتحقيق الرضا والسعادة.
في كتابه الرهبة، يستكشف كيلتنر الشعور الغامض الذي نشعر به جميعًا، ويمتلك لغته الخاصة المتمثلة بالقشعريرة والدموع والرشقات الصوتية الخفيفة والآهات، ألا وهو الإحساس بالرهبة. ويصف الرهبة بأنها “العاطفة التي نختبرها عندما نواجه ألغازًا كبيرة لا نفهمها”، وتتميز عن الصفات المجردة الأخرى مثل الخوف أو الفرح. إنها الشعور الغامر عند الاستماع إلى مقطوعة موسيقية جميلة أو النظر إلى السماء الليلية الصافية المتلألئة بالنجوم، أو عندما نحدق في لوحة فنية مرت عليها قرون زمنية عديدة.
ولكن كيلتنر يقول إن الرهبة لا يجب بالضرورة أن تأتي دائمًا من التجارب السعيدة، بل هي تشمل أيضًا الولادة والموت ودورة الحياة. وهذه الدورة هي إحدى عجائب الحياة الثمانية التي حددها كيلتنر في كتابه، وهي ثماني عجائب توصل إلى تعريفها من خلال إجراء مقابلات مع أشخاص من ديانات وثقافات وخلفيات اجتماعية واقتصادية وأنظمة سياسية مختلفة عبر 26 بلدًا من بلدان العالم. أما العجائب السبع الأخرى فهي: الجمال الأخلاقي الذي عرّفه بأنه السلوك الفاضل تجاه الآخرين، والانفعال الجماعي الذي يتحقق خلال التجمعات الكبيرة، وسحر الطبيعة بكل مناظرها الملهمة، والموسيقى وما تحركه فينا من مشاعر، والتصميم المرئي مثل العمارة والهندسة والفن والسينما، بالإضافة إلى الروحانيات وكل ما يحرك أعماق دواخلنا، وأخيرًا، هناك التجلي عندما تظهر الحقائق الأساسية فجأة للعيان مثل الرؤى الفلسفية والاكتشافات العلمية.
وفيما يعتبر كيلتنر أن تنمية الشعور بالرهبة في حياتنا اليومية يساعدنا على استشعار إحساس أكبر بالرضا وإدراك سعة الكون، ينصح وارد في كتابه “مثير” باتباع نهج أكثر تقليدية لرفع مستوى ما هو عادي إلى مستوى ما هو مثير، وذلك من خلال استكشاف حواسنا والتواصل معها بشكل أعمق، لأنها هي التي تعطي المعنى الحقيقي لتجاربنا اليومية. فحواسنا هي جوهر الطريقة التي نتنقل بها في العالم، وهي وفقًا لوارد: “وسيلة التواصل بين ذواتنا الداخلية والعالم الخارجي”.
ويضيف المؤلف أن هناك اعتقادًا اليوم بأن لدى البشر ما يقارب من 53 حاسة عوضًا عن خمس فقط. ففي ما يتعلق بحاسة الشم، مثلًا، لدى الفرد ما يقرب من 800 مستقبل شم مختلف، وما يصل إلى 10,000 برعم تذوق معظمها على اللسان والباقي موزعة حول الخدين وداخل الفم والحلق. وإذا ما أضفنا الإحساس بالتوازن وما يعرف بالحاسة السادسة تكون لدينا مجموعة كبيرة من الأحاسيس التي لا بد أن تغني وجودنا في هذا الكون. ورغم أن كثيرًا من المعلومات التي تأتينا من خلال حواسنا لا يمكن قياسها بشكل موضوعي، لأن الدماغ هو الذي يعمد إلى تفسيرها، فإن الأحاسيس هي التي تغذي الإدراك. ومع هذا الكم الكبير من الحواس التي نمتلكها، فإن اختبارها بشكل أعمق هو ما يعزز التواصل مع العالم حولنا، ويحدد بوضوح مكاننا فيه.
اترك تعليقاً