“الفيوجن” مفردة إنجليزية تعني الانصهار، وقد تحوَّلت إلى مصطلح ظهر خلال ستينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، ويشير إلى نوع من الموسيقى يمزج بين إيقاعات وآلات من موسيقات مختلفة. ثم انتقل مصطلح الفيوجن وموسيقاه إلى ثقافات أخرى من بينها العربية. وفيما يرى البعض أن هذا الاتجاه الموسيقي الجديد يسمح بالتجريب والابتكار، ويُسهم في خلق روابط ثقافية، هناك متحفظون عليه يرونه خطرًا على الأصالة والهويات الثقافية الوطنية.
هذا الشكل من التفاعل ليس جديدًا
إن التفاعل مع الثقافات الأخرى في مجال الموسيقى لا يعود إلى العقود الأخيرة فحسب. فالموسيقى العربية بعراقتها وثرائها، شهدت عبر تاريخها الطويل تطورًا مستمرًا، استجابةً لتحولات الزمن واحتياجات الجمهور. وتعكس هذه الاستجابة محاولة الموسيقيين العرب للدمج بين الأصالة الموسيقية العربية والعناصر الحديثة المستوحاة من الموسيقى العالمية.
بدأت محاولات المزج في الموسيقى العربية بشكل واضح منذ منتصف القرن العشرين، قبل ظهور ما يُعرَف بـ “الفيوجن” أو المزج الموسيقي، الذي ظهر في ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك عندما أصبح العالم أكثر تداخلًا بفعل التكنولوجيا والتواصل الثقافي. كان بعض الروَّاد مثل محمد عبدالوهاب يستلهمون الألحان الغربية في أعمالهم، مثل استخدام التانجو والفالس. ومع تطوُّر الموسيقى في العقود اللاحقة، ازداد انفتاح الموسيقيين العرب على أساليب الموسيقى الغربية مثل: الروك، والجاز، والهيب هوب. وكانت لعبد الحليم حافظ أعمال مشابهة، كما في أغنية “قارئة الفنجان” على سبيل المثال، حيث شكَّل استخدام الأورغ والجيتار الكهربائي إضافة إيجابية.
يُمثِّل هذا الاتجاه أحد أكثر المسارات الموسيقية إثارة للجدل في الوقت الحالي، بين من يراه مجالًا للإبداع وبين من يراه تهديدًا للأصالة.
بعض إيجابيات الفيوجن
حقَّق الفيوجن الموسيقي كثيرًا من الفوائد والإيجابيات التي جعلته يحظى بشعبية متزايدة، وبخاصة في صفوف الشباب. ومن أبرز هذه الإيجابيات:
مدّ الجسور الثقافية: من خلال المزج بين الموسيقى العربية والغربية، يساعد الفيوجن في تعزيز التفاهم الثقافي بين الشعوب. فهو يُتيح لجمهور عالمي غير عربي، التعرُّف على الموسيقى العربية، ويُسهم في نشرها عالميًا. مثال على ذلك، موسيقات الفنان اليمني أحمد فتحي، الذي شارك بمؤلفاته مع أوركسترا موسكو بمسرح تشايكوفسكي، وقدَّم أهم أعماله، مقطوعة “ساكورا”، على آلة العود عام 2018م. إذ كان تفاعل الجمهور مع هذه الموسيقى إيجابيًا، وعدّوا أنها أخذتهم في رحلة إلى العالم العربي. فقد كانت تجربة دمج آلة العود مع الأوركسترا ذات طابع موسيقي مميز بأسلوب أداء الآلة والإحساس العربي الأصيل، وأظهرت إمكانات آلة العود للغرب.
توسيع القاعدة الجماهيرية: يُمكن للفيوجن أن يجذب مستمعين جددًا من خارج دائرة المهتمين بالموسيقى التقليدية، ولا سيَّما عندما تُقدَّم الموسيقى العربية في إطار عالمي. ومثال على ذلك، المقدمات الموسيقية لفريد الأطرش، التي عزفتها الأوركسترا في نيويورك، واختيار هذه الأعمال من قبل المايسترو فرانك بورسيل.
والقصة كما نقلها فريد الأطرش وفرانك بورسيل، هي أن الأطرش كان جالسًا في أحد نوادي باريس، مستمعًا ومستمتعًا بالموسيقى التي تعزف، وإذا به يُفاجأ أن الفرقة الموسيقية الفرنسية تعزف أحد ألحانه “وياك وياك الدنيا حلوه وياك”، وتفاعل الحضور مع أنغام هذه الموسيقى. في هذه اللحظة ترك فريد المكان وراح يتمشى في شوارع باريس، ويفكِّر: كيف ننقل موسيقانا إلى الغرب؟ وهو مؤمن بأن موسيقانا لو استمع إليها الجمهور الغربي لأحبها. في اليوم التالي، طلب من الموسيقار والمنتج الفرنسي، فرانك بورسيل، اللقاء والتعاون لإنتاج أعمال موسيقية عربية.
استمع بورسيل إلى فريد مدة ساعتين، ودُهِش بما سمعه، فتمَّ الاتفاق على إنتاج وإعادة توزيع بعض أعمال فريد لدمج الموسيقى العربية مع توزيع أوركسترالي عالمي، وأسفرت هذه التجربة عن نجاح باهر، وجرى تسجيل أسطوانة لأربعة أعمال لفريد، وهي: ليلى، وزمردة، وحبيب العمر، ونجوم الليل. ووُزِّعت هذه الأسطوانة في أوروبا والعالم. وهنا نستنتج أن للفيوجن الموسيقي دورًا كبيرًا في توسيع القاعدة الجماهيرية.
المرونة الإبداعية: يمنح الفيوجن الفنانين فرصة للابتكار والتعبير الفني بحرية أكبر، بعيدًا عن القيود التقليدية التي قد تحدُّ من ذلك. فعلى سبيل المثال، عندما قدَّم الفنان محمد الحملي مسرحية “شبح الأوبرا” العالمية باللهجة الكويتية، وأضاف إليها الإحساس العربي في الأداء الغنائي، لاقت نجاحًا مشهودًا في دولة الكويت. وأيضًا تجربة مسرح الرعب للفنان والمخرج عبدالعزيز المسلم، لتأثره بهذا النوع من الأعمال المسرحية، فقد ترجمها بالدمج بين الفكر الغربي والعربي، وأثمرت هذه الفكرة مسرحية الرعب “مصاص الدماء” عام 1995م، وكان نجاح العمل كبيرًا في دولة الكويت والخليج. واستمر هذا الفنان بتأليف هذا النوع من الأعمال المسرحية وإخراجها إلى يومنا هذا، والاستمرار هو دليل النجاح طوال تلك السنوات.
تطوير المهارات الموسيقية: يتطلب الفيوجن إتقانًا للأنماط الموسيقية المختلفة، وهو ما يدفع الموسيقيين إلى تطوير مهاراتهم ودراسة أساليب وتقنيات جديدة. كما هو الحاصل للعازفين على الآلات الوترية مثل آلة الكمان؛ إذ يتدرب الدَّارس على الأسلوب الغربي الكلاسيكي، ويدرس بعد ذلك الأسلوب الشرقي؛ لذلك يكون التحصيل المعرفي الذي حصل عليه سببًا لتميّزه في الأداء.
الجيل الجديد أصبح أكثر انفتاحًا على تجربة أنماط موسيقية مختلفة، وهو ما يعني أن الفيوجن سيبقى حاضرًا بوصفه مجالًا إبداعيًا، ولكن نجاحه سيبقى أيضًا مشروطًا.
بعض الأمثلة على الفيوجن العربي
عمر خيرت: تُعدُّ ألحان عمر خيرت مثالًا بارزًا على الفيوجن الموسيقي، حيث يستخدم الأوركسترا الغربية لتقديم مقطوعات تجمع بين الروح الشرقية والتوزيع الكلاسيكي العالمي. وبذلك يكون قد كسب الجمهورين الغربي والشرقي. ويتميز عمر خيرت باختيار المقامات والدرجة التي يصوّر بها المقام، فهذا له تأثير على المستمع.
عمر بشير: عازف العود العالمي، الذي يدمج بين أسلوب والده منير بشير وتراث الموسيقى العربية مع أنماط الجاز والبلوز. فقد استقطب هذا الدمج مستمعين جددًا من العالم الغربي المحبين لأسلوب الجاز بطريقة جديدة ومختلفة.
ياسر عبدالرحمن: عازف على آلة الكمان، وله أسلوبه الخاص الذي تميز به في تأليف الموسيقى التصويرية مع فرقة الأوركسترا. وكانت أعماله ناجحة، كما هو الحال في مسلسل “الضوء الشارد” و “المال والبنون”.
وبعض المحاذير التي ينطوي عليها
على الرغم من الإيجابيات العديدة، فإن هناك تحديات وسلبيات قد يواجهها هذا النوع من الموسيقى، أبرزها:
خطر فقدان الهوية: يرى بعض النقاد أن الإفراط في المزج مع الأنماط الغربية، قد يؤدي إلى تلاشي الهوية الموسيقية العربية، خصوصًا إذا قُدِّمت بطريقة تفتقر إلى الأصالة. وهنا يأتي دور النقاد المتخصصين لتفادي هذه المشكلة.
صعوبة المزج المتوازن: يتطلب الفيوجن توازنًا دقيقًا بين العناصر المختلفة، وإلا فقد تبدو الموسيقى مشوشة أو غير متناغمة. وعدم الإتقان في المزج يمكن أن يُفقِد العمل جودته.
الانتقادات من المحافظين: هناك مقاومة من بعض الجمهور والنقَّاد الذين يرون في الفيوجن خروجًا عن التقاليد، وهو ما قد يعرض الفنانين للهجوم بسبب تخليهم عن الجذور الموسيقية. لذا، يجب أن يكون العمل مدروسًا من كل النواحي.
التحديات التقنية والإنتاجية: يتطلب المزج بين الأنماط المتنوعة تقنيات إنتاج متطورة، قد تكون مكلفة أو غير متوفرة لجميع الفنانين.
التأثير التجاري: قد يُنظر إلى الفيوجن على أنه محاولة لإرضاء أذواق السوق التجارية العالمية بدلًا من التعبير الفني الصادق.
من ذاكرة القافلة: أزمة
الموسيقى العربية المعاصرة،
إلياس سحّاب، من العدد
يوليو-أغسطس 1996م.
مستقبل الفيوجن عربيًّا
على الرغم من التحديات، يبدو أن الفيوجن في الموسيقى العربية سيستمر في التطور بوصفه جزءًا من التحول الثقافي العالمي. فالجيل الجديد من الفنانين أصبح أكثر انفتاحًا على تجربة أنماط موسيقية مختلفة. ولتعزيز نجاح هذا الاتجاه، من المهم إيجاد توازن بين التراث والحداثة، مع التركيز على تقديم موسيقى تُعبِّر عن الهوية العربية بشكل معاصر ومؤثر. الفيوجن ليس تهديدًا للأصالة، بل فرصة لإعادة تعريفها في إطار حديث يمكنه مخاطبة الجمهور العالمي والمحلي على حد سواء.
ونظرًا للتاريخ الطويل من تثاقف الموسيقى العربية مع موسيقى الأمم الأخرى، لا يمكننا اعتبار الفيوجن مجرد اتجاه في الموسيقى العربية، بل هو تعبير عن التحولات الثقافية والاجتماعية التي يشهدها العالم العربي في عصر العولمة.
اترك تعليقاً