معجون هو بالماء والطين والأساطير، مغرم بالأفلاج والصحاري والجبال والوديان، يقتفي آثارها ويعي تفاصيل أخبارها، محب للطيور والحيوانات، عاشق للموسيقى والعزف على العود، مفتون بروح المغامرة المدفوعة بفطرة وعفوية، مسكون بالحكايات وأحوال الناس في بلده سلطنة عمان، يسمعها، يعيشها، يرويها، وأحيانًا يلعب دور البطولة فيها بعقلية متفتحة واعية بتحولات الواقع، وبموهبة بكر ولغة باذخة رصينة نثرًا وشعرًا.
أنضج تجربته الكتابية على مهل خلال رحلة إبداعية قاربت العشرين عامًا. وبمزيد من الاعتناء بمشروعه الأدبي، حافظ على أصالة تجربته وبكارتها، مصقولة بقراءات متنوعة تنفتح على عوالم الشعر وإبداعاته العالمية والعربية، إضافة إلى تشبعه وتأثره بالأصوات الروائية بطول المسافة من المحيط إلى الخليج، وصولًا إلى تتويج روايته “تغريبة القافر” الصادرة عن دار مسكيلياني (2022م) بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية للعام 2023م. السطور التالية قراءة في مجمل أعمال الشاعر الروائي العماني زهران القاسمي.
د. سمير محمود
قبل نحو عقدين من الزمان، برز شغف القاسمي بالشعر، الذي يجتاز به المناطق الكئيبة جدًا في حياته على حد قوله. فأخذ يكتب “سيرة الحجر” في ملحق “أشرعة” الثقافي بصحيفة الوطن العمانية منذ عام 2008م، في نصوص شعرية أسفرت عن عشرة دواوين. ثم اتّجه إلى السرد وعوالم القصص القصيرة، البوابة السحرية لإبداعاته الروائية، فكتب القصة والرواية بلغة شعرية خالصة. كان حصاد هذه التجربة مجموعة من المؤلفات من بينها: “أمسكنا الوعل من قرونه” (مجموعة نصوص، 2007م)، و “سيرة الحجر1” (قصص قصيرة، 2009م)، و “سيرة الحجر2” (نصوص، 2011م)، وأربع روايات هي: “جبل الشوع” (2013م)، و “القنّاص” (2014م)، و “جوع العسل” (2017م)، و”تغريبة القافر” (2022م).
شخصيات من رحِم البئر
يتنقل القاسمي دائمًا بين الشعر والرواية تنقّله بين الوديان والأفلاج والصحاري والجبال، محاولًا سبر أغوارها والبوح بأسرار الطبيعة البكر في سلطنة عمان وتقديمها في سرديات روائية شعرية أو أشعار نثرية تسلب الألباب. وقد جاءت روايته “تغريبة القافر” في 11 فصلًا وخاتمة، كأنها شهور العام، وبمشهد افتتاحي صادم حيث العثور على جثة مريم بنت حمد ود غانم غريقة في البئر بقرية المسفاة (مكان الأحداث)، في زمان غير محدد في الرواية، ربما كان الخمسينيات من القرن الماضي أو ما قبلها.
ارتبطت “التغريبة” في ذهنية التلقي بسيرة بني هلال و “التغريبة الهلالية”، حيث الترحال والبعد من الديار، أو العيش بين قوم لا تنتمي إليهم، كحال معظم شخصيات الرواية التي بدت عجيبة في سلوكها منعزلة عن بعضها، تنتمي إلى عوالم الجن، حيث تشقى في الواقع وتكد ثم تُدفن حية داخل الأفلاج ولا يلتفت إليها أحد، فيبتلعها النسيان كما ابتلعت البئر جثة الأم مريم!
ومن أجواء الرواية نقرأ: “كل شيء يغيب، الناس والبلاد، أخبار اللي عرفناهم وحكاياتهم، كل شيء يغيب وما يبقى لنا إلا الوجع”!
ولهذا يأتي صوت الأب متسقًا مع تلك الرؤية للتغريبة، حين يحذر ابنه سالم “القافر” قائلًا: “باه بلادك ما بلاد، البلاد اللي تأكل كل أموالك بلاد فاجرة، البلاد بو تستغلك وتأخدك تمرة وبعدين ترميك فلحة ما بلاد، باه سالم دوّر على بلاد غيرها، البلاد بو تنكر جميلك ما تستحق تعيش فيها ساعة”. كما يتذكر الأب زوجته الغريقة، ويخاطب ابنه: “عطشان أسمع صوت أمك، أسمع ضحكتها، باه صوت أمك جنّة، ويداها كانت حياة”.
الماء أصل الحكاية
نجحت تغريبة القاسمي في استحضار كل عناصر البيئة والطبيعة والمجتمع العماني: الطيور والأودية والأفلاج والجبال والكهوف، وسلطة الدين والخرافة والدجل، والأساطير التي تسكن حكايات الجدات والأغاني الفلكلورية، لحضورها الطاغي في أعمال السحر والشعوذة. وتلك واقعية زهران السحرية في الاقتراب من المجتمع العماني بتحولاته من الأسطوري إلى ديانات طوطمية ثم سماوية، فتأثيرات عقلانية مادية حداثية. وهكذا برع في تقديم شخصيات الرواية وخاصة المرأة المقهورة والفلاح العنيد، إضافة إلى حفنة من البشر الغرباء عشاق السفر والترحال والمغتربين والمهمشين عن مجتمعاتهم في قرى تبتلع أهلها وتطويهم في دوامات النسيان.
لا يولد العظماء من رحم أمهات، بل من رحم أسطورة. هكذا وُلد سالم بن عبدالله بن جميل “القافر” من رحم أمه الغريقة ليصنع أسطورته الخاصة. فهو الرجل الذي يتحدى اليتم والفقر، والصخور والجبال، والجفاف وعوالم الخرافة. ولأنه من الأساطير، فقد وُلد ببقر بطن أمه الغريقة وليس بولادة عادية، وبالمخالفة لفتوى رجل دين أفتى بدفنها هي ومن تحمل به: “بو فبطنها أولى به الدفن”، لولا عمتها كاذية بنت غانم التي اندفعت فأخرجت “الحي” الذي هو أبقى من “الميت”.. أخرجت القافر، الفلاح العماني العنيد، أسطورةً فريدة ليست كالأساطير العادية التي تخلدها كتب التاريخ الرسمية.
ماتت أمه غريقة في بئر، ومات أبوه مختفيًا تحت ركام أحد الأفلاج. أما هو فدائم السفر والترحال، يطرب لسماع صوت الماء داخل الصخر، فهو أصل الحياة وقماشة السردية بأكملها، تراه بمطرقته ومسماره يشق الأفلاج تباعًا فيمنح أسباب الحياة لمجتمع في حالة اختناق حد الموات.
القافر بطل الرواية في حالة عطش دائم للماء الواقعي والرمزي والأسطوري المتخيل، وهكذا ظل حتى وصلت رحلته إلى نهايتها حين “تداعت الصخرة أمامه، وانفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوة وجرف معه كل شيء”!
”القنّاص” والطبيعة العارية
المكان تيمة رئيسة في جميع أعمال القاسمي الروائية والشعرية، المكان الحافل بالأسماء والحكايات، وهذا هو الملمح الأبرز في روايته “القناص”.
بوعي تام بالمكان، ترصد هذه الرواية علاقة جدلية بين القنّاص صالح بن شيحان، ووعل يظهر له وسط الجبال، فكلاهما يرقب الآخر في علاقة نهايتها محتومة بموت أحدهما. وقد تمكن القناص من الوعل، وما إن قنصه حتى سأل نفسه السؤال الموجع: أهذه النهاية؟ هل انتهى كل شيء؟ حين حقق حلمه اكتشف وهم المطاردة، لحظة ملاقاة الطريدة، لحظة انكشاف الأشياء، اللحظة التي تلمس فيها حلمك. ماذا يحدث حينذاك؟ هنا يقفز إلى رأسي سؤال: أكلما حصدنا حلمًا انتهينا؟
عن هذه التيمة يقول القاسمي: “أنا مرتبط ارتباطًا كبيرًا بالبيئة. عشت معظم حياتي في القرية وما زلت أعيش فيها. فأنا من قرية مس بوادي الطائيين بسلطنة عمان. ومنذ طفولتي وأنا مرتبط بالوديان والبساتين والنخيل. ولدي نهم واهتمام غير عادي بالحكايات وأحوال الناس اليومية التي نسمعها، وأتمنى دائمًا التعبير عنها، وأن يكون هناك الكثير من المشاريع الكتابية ذات الخصوصية العالية وذات العلاقة بالمكان. وسوف أواصل رحلتي في الكتابة عنها. وقد حاولت أن تكون مثل هذه السمات موجودة في الشعر، وبشكل من الأشكال في الروايات الأربع التي كتبتها والتي تدور أحداثها في القرى”.
جوع العسل!
تتجاوز تجربة زهران القاسمي الروائية تيمة المكان، إلى تيمات الأساطير والخرافات وحكايات الجدات. وتظل البيئة العمانية بعلاقاتها المتشعبة والمعقدة، مع صنوف شتى من ألوان المعاناة في كسب العيش والفلاحة وتدبير المياه، حاضرة كلوحة خلفية توجّه معظم أحداث رواياته، كما تحرك شخصيات تلك الأعمال.
ففي روايته “جبل الشوع”، التي تحولت إلى مسلسل إذاعي، نحن أمام أربعة شبّان من جبل الشوع تضيق بهم الحياة في القرية نتيجة الظروف القاسية، فيتركون القرية وينطلقون في رحلة شاقة إلى مسقط، بحثًا عن فرص أوسع للعيش.
هكذا كانت حياة زهران القاسمي نفسه، حياة بسيطة لفلاح ينتمي لقرية مِس بوادي الطائيين (125 كيلومترًا جنوب غربي العاصمة العمانية مسقط)، تلك القرية المحاطة بالجبال المشحونة بالحكايات والأسرار. هذا العماني مغرم بتسلق الجبال والمشي والبحث عن العسل وتربية النحل ولعب الشطرنج والقراءة والكتابة والعزف على العود، وهو آخر عنقود ينحدر من أسرة كبيرة عددًا، فلديه 8 أخوة و3 أخوات. اعتاد في طفولته العيش ببيت الأسرة وسط الحارة طوال الشتاء، وما إن يحين بعد شهر أبريل حتى ينتقل وأخوته إلى بيت المزرعة لبقية العام، حيث يقضي طيلة النهار تحت الأشجار.. وفي الليل يهبط إلى الوادي مشيًا على الرمل والحصى وينام فيه.
عن هذه النشأة في قلب الطبيعة العمانية التي هي محور إبداعه يقول: “في حال الأمطار القوية، ننام جميعًا داخل البيت في غرفته الطينية، وأحيانًا ننام تحت الشجر.. لو المطر أغرق الوادي ننام فوق سطح الجبل. هكذا أمضيت طفولتي حتى عمر 14 سنة. وبعد وفاة الوالد توقفنا عن زيارة المزرعة، وخرج كل أخ واستقل بحياته. وهكذا ذهبت إلى مسقط لاستكمال تعليمي، وتخصصت في الرقابة الصحية في الصحة العامة، وحصلت فيها على الدبلوم. ولما تخرجت مباشرة اشتغلت في وزارة الصحة.. بعد ذلك بخمس سنوات حصلت على دبلوم في الإدارة الصحية.. وما زلت في وظيفتي أتابع حالات الأمراض المعدية وأعمل في التقصي الوبائي”.
يُسخّر زهران لغته ببراعة، فهو الباحث عن العسل دومًا، عسله في سردياته التي جسدها في روايته “جوع العسل”، وفيها مساحة إبداعية مختلفة، إذ يطوّع اللغة لتسرد برشاقة معاناة أصحابها، وهم هنا ثلاثة أصدقاء خرجوا بحثًا عن العسل: عزّان بن سعيد، وعبدالله بن حمد، وناصر بن سالم الحطّاطي. فلكل منهم طبيعته وشخصيته المختلفة تمامًا عن الآخر، لا يجمعهم سوى القدر والعسل، وحتى مصائرهم جاءت ثرية متنوعة لا يمكن أن يتوقعها القارئ، وتلك هي واقعية القاسمي السحرية في رواياته التي هي قطعة من البيئة والطبيعة، بل لا نبالغ إن قلنا إنها قطعة من روحه!
حجر المندوس
لا يعتقد القاسمي أن هناك أزمة قراءة ولا أزمة نقد في العالم العربي، ولا أزمة تتعلق بالأدب العماني. ولكن الحاصل هو خجل كبير يخص الحالة العمانية، “فنحن لا نسوّق لأنفسنا، وليس لدينا خطط تسويقية كما يجب في الكثير من الأماكن التي تسوق لأدبائها وشعرائها وإنتاجها الأدبي، وتحاول أن تضع هذا النتاج في الصورة ليقرأه الآخرون، خاصة في ظل الوفرة الكبيرة جدًا من الكتابات الأدبية في الفترة الأخيرة في الوطن العربي، الموجودة ورقيًا وفي المواقع الإلكترونية”.
ولا شك في أن حصول القاسمي على جائزة البوكر للرواية العربية، ومن قبله حصول الروائية العمانية الدكتورة جوخة الحارثي على جائزة المان بوكر العالمية عن رواياتها “سيدات القمر”، ولاحقًا الروائية العمانية بشرى خلفان على جائزة “كتارا” عن روايتها “دلشاد.. سيرة الجوع والشبع”، ومن بعدهم نالت بدرية البدري لقب “شاعرة الرسول”، وعائشة السيفي لقب “أميرة الشعراء”، كل ذلك يشكل تحولات كبرى في المشهد الأدبي والإبداعي العُماني الآخذ في الصعود على مهل وبهدوء ومن دون صخب، في جدارية حضارية وبشرية صامتة، لا تبوح بأسرارها التي تحفظها منذ قرون في “المندوس”!
اترك تعليقاً