المواد الخارقة فرعٌ حديثٌ من علوم المواد، أخذ يستحوذ على اهتمام الباحثين والمهندسين، خاصة أولئك المهتمين بالأجهزة البصرية وتـكنولوجيا النانو لأهميته القصوى. ذلك أن كثيرًا من المعلومات التي ترد إلينا من الموجات الكهرومغناطيسية كالضوء، والموجات الميكانيكية كالصوت، لا تلتقطها عدسات معظم الأجهزة المتوفرة وهوائياتها. والمواد الخارقة تستطيع التلاعب بهذه الموجات والتحكم فيها؛ لتتناسب مع خصائص التطور التقني الحالي والمستقبلي وحاجاته. على هذا الأساس، من المتوقع أن تحدث ثورة في تحسين أداء كثير من الأجهزة الحالية، وتحفز ابتكار تقنيات جديدة على صُعُد عدة.
المواد الخارقة هي مواد اصطناعية لها خصائص وقدرات غير موجودة في المواد التقليدية، وتكتسب خصائصها من تصميمها المتقن وليس من تركيبها الكيميائي. فشكلها وترتيب هيكلها وحجمها يجري تصميمه وإتقانه هندسيًا على المستوى النانوي أو الميكروي، بحيث يكتسب خصائص فريدة تختلف عن الخصائص المتأصلة في المواد التقليدية بشكل كبير، مما يسمح بتحكم غير مسبوق في الموجات الكهرومغناطيسية والموجات الميكانيكية بطرق لم تكن ممكنة من قبل.
كيف تطورت هذه المواد؟
وفقًا لورقة بحثية أجراها أولف ليونهارت، في أبريل 2007م، ونشرت في موقع “إيثوس” التابع لجامعة كارنيجي ميلون في عام 2023م، يمكن تفسير أحد الاختراعات الرومانية القديمة، التي سمّيت “زجاج ياقوت الذهب”، على أنه شكلٌ تاريخي مبكر للمواد الخارقة. إذ صبغ الرومان الزجاج بقطرات من الذهب، ما جعله يعكس الضوء بشكل مختلف بحسب مصدره؛ أي أن الكوب المصنوع من هذا الزجاج يظهر باللون الأخضر عندما يُسلط الضوء عليه، لكنه يتحول إلى اللون الأحمر عندما يوضع مصدر الضوء في داخله.
ومع ذلك، فإن استخدام مادة ما لتصميم أداةٍ لا يدل على الفهم النظري لخصائص تلك المادة. لكن تراكم هذه التجارب عبر التاريخ بدأت تُؤتي ثمارها النظرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع فهم الخصائص الفيزيائية والكيميائية لاختلاف كل مادة عن الأخرى. ولم يظهر علم المواد إلا مع الحرب الباردة لتسهيل تطوير مواد جديدة لحالات استخدام محددة.
تميّزت هذه الحرب بسباق التسلح النووي بين الولايات المتحدة الأمريكية وما كان يُعرف بالاتحاد السوفييتي. ومن المعروف أن أنظمة إيصال الصواريخ إلى أهدافها لا تقل أهمية عن رؤوسها الحربية. لكن المهندسين أيقنوا، في ذلك الوقت، أنه يوجد نقص كبير في المعلومات وفي الأدبيات العلمية والتطبيقية المتوفرة اللازمة لبناء نماذج الصواريخ الأولية، واعتبروا أن ذلك هو عنق الزجـاجة الرئيس في تطوير الأسلحة. فأُنشِئ علم المواد كرد فعل على هذا الدافع، كما جاء في المصدر نفسه المذكور آنفًا.
خلال ذلك الوقت المضطرب من التاريخ المعاصر، وُضِعت نظرية للمواد الخارقة للمرة الأولى، على يد العالم السوفييتي فيكتور فيسيلاغو، الذي نشر ورقة بحثية في عام 1968م، تقترح إمكانية وجود مادة ذات “مؤشر انكسار سلبي” (حين مرور الضوء عبرها ينثني في اتجاه معاكس للمواد التقليدية) وأنه إذا عُثر على مثل هذه المادة، فسيتعين إعادة النظر في المجال العلمي للكهرومغناطيسية بالكامل تقريبًا.
وفي عام 1999م، حدد العالم البريطاني جون بندري، أول طريقة عملية لتصنيع مادة خارقة. وفي الوقت نفسه، أنشأ فريق من الباحثين الأمريكيين بقيادة الدكتور ديفيد سميث، أول مادة خارقة على الإطلاق في المختبر. وتمثّل ابتكارهم في بناء حلقات وأسلاك مجهرية مصنوعة من النحاس يمكنها أن تؤدي إلى ثني الضوء في الاتجاه المعاكس للمواد الانكسارية التقليدية، مثل: الزجاج أو الألماس. أطلقوا على اختراعهم الجديد اسم “المادة الخارقة” (metamaterial)، التي كانت في ذلك الوقت كلمة جديدة تصف المواد التي يصنعها الإنسان.
الموجات الميكانيكية والكهرومغناطيسية
الموجات الميكانيكية هي موجات تنتشر عبر وسط مادي، مثل: الهواء أو الماء أو الأجسام الصلبة، وتشمل الصوت والمد والجزر والموجات الزلزالية وغيرها. وهذه الموجات لا تصل إلينا من الفضاء الخارجي؛ لأنها لا تنتقل في الفراغ. والدليل على ذلك أننا لا نسمع صوت التفاعلات في الشمس؛ إذ يقول العلماء إنها كانت ستكون رهيبة لا نستطيع تحملها.
والإشعاعات الكهرومغناطيسية هي تدفق للطاقة بسرعة الضوء عبر الفضاء الحر (أو الفراغ الكوني)، أو عبر وسط مادي على شكل حقول كهربائية ومغناطيسية تشكّل طيف الموجات الكهرومغناطيسية، مثل: موجات الراديو والضوء المرئي وأشعة جاما وغيرها الكثير. وتختلف هذه الموجات بطولها أو ترددها؛ إذ تبدأ من الموجات الطويلة كموجات الراديو وموجات الضوء وموجات الميكروويف، التي لا تحمل طاقة كبيرة فلا تؤذي الإنسان، وتنتهي بأشعة جاما القصيرة جدًا، ومحمولها من الطاقة عالٍ جدًا. ومعلوم أن معظم هذه الأشعة لا يصل إلى الأرض؛ لأن الغلاف الجوي يصدها ويحمي الحياة من ضررها، باستثناء بعضها ذات الموجات الطويلة. لكن الخبراء يستطيعون إنتاجها في المختبرات لتطويعها والاستفادة منها في المجالات المختلفة. وعين الإنسان المجردة لا تلتقط سوى طيف الضوء المرئي، بينما تستطيع بعض الطيور والمخلوقات الأخرى أن ترى أكثر من ذلك.
أما المادة، في نظرية الحقل الكمومي الفيزيائية، فهي إثارة في الحقل الكهرومغناطيسي. عندما نستمع إلى الراديو، أو نشاهد التلفاز، أو نرسل رسالة نصية في الإيميل، أو نتواصل عبر المواقع الإلكترونية، أو نصنع الفشار في فرن الميكروويف؛ فإننا نستخدم الطاقة عبر الموجات الكهرومغناطيسية. فنحن نعتمد على هذه الموجات في كل ساعة من كل يوم. ومن دونها، ما كان للعالم الذي نعرفه أن يكون كما هو عليه. من هنا تتجلى الأهمية القصوى للمواد الخارقة.
إن قدرة المواد الخارقة على التعامل مع هذه الموجات بطريقة فريدة، لا تُستمد من تركيبها الكيميائي، بل من الأنماط المجهرية النانوية التي يُنشئها المهندسون بشكل مصطنع داخلها أو على أسطحها. ويجب أن يكون حجم هذه الأنماط مساويًا أو أصغر من طول الموجة المراد معالجتها. إذ يمكن للمهندسين إنشاء أي نمط بالمقياس الذي يحتاجون إليه لتحقيق الخصائص المطلوبة.
ولهذا السبب، فإن للمواد الخارقة طريقة للتأثير على الموجات تختلف عن المواد الطبيعية والمواد الاصطناعية الأخرى. وهناك مؤشران يقيسان كيفية تفاعل المادة مع المجالات الكهربائية والمغناطيسية: السماحية الكهربائية (Permittivity) والنفاذية المغناطيسية (Permeability).. فكل المواد الأخرى، تكون قيمتا السماحية والنفاذية إيجابيتين. بينما في المواد الخارقة، فإن هاتين الخاصتين لهما قيمة سلبية.
يمكن توضيح ذلك بشكل أفضل في ظاهرة الانكسار السلبي للموجة. فالانكسار هو تغير اتجاه الضوء عندما يضرب وسطًا آخر وينعكس عنه، أو يمر عبره بزاوية منحنية، كما هو الحال عندما ينتقل من الهواء إلى الزجاج أو الماء. وفي المواد ذات “مؤشر الانكسار الإيجابي” ينحني الضوء في اتجاه واحد. ولكن في المواد الخارقة بسبب مؤشر انكسارها السلبي، فإنه ينحني في الاتجاه المعاكس.
هذه العلاقة الفريدة بين المواد الخارقة والموجات الكهرومغناطيسية والميكانيكية، هي ما يميزها عن المواد التقليدية ويجعلها مفيدة بشكل فريد في مجموعة واسعة من التطبيقات العملية.
كما يمكن تحسين العديد من المجالات التكنولوجية باستخدام المواد الخارقة التي لها آثار على الحياة اليومية للإنسان، بما في ذلك جمع الطاقة ونقلها، والإدارة الحرارية، والصوتيات، والاستشعار، والبصريات، وفيزياء الحالة الصلبة، والهوائيات، وأشباه الموصلات وغيرها.
وتستند هندسة المواد الخارقة إلى عدد من العلوم والمجالات البحثية المختلفة، التي تعمل معًا لدراسة تلك المواد وتصميمها وتحقيق خصائصها الفريدة، كالهندسة الكهرومغناطيسية وفيزياء الجوامد التي تدرس خصائص المواد وتفاعلها مع الطاقة والموجات، وهندسة الموجات الصغرى (الميكروويف) لتحسين أداء الهوائيات وتحسين حساسية الاستشعار وتحقيق تطبيقات متعددة في مجال الاتصالات والرادارات، والكهروضوئيات، والضوئيات التقليدية، وعلوم النانو، وعلوم البصريات وغيرها الكثير.
الآفاق المستقبلية للمواد الخارقة
• تتوقع الدراسات المستقبلية أن تؤدي المواد الخارقة دورًا مهمًا في تطور الأجهزة الإلكترونية في المستقبل، ومنها: الشاشات المرنة، إذ يمكن استخدام المواد الخارقة في تطوير شاشات إلكترونية مرنة وقابلة للطي، مما يتيح استخدامها في أجهزة محمولة، مثل: الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية.
• الاتصالات البصرية ومعالجة البيانات: يمكن استخدام المواد الخارقة لتطوير أجهزة بصرية مدمجة وفعالة، مثل: العدسات والأدلة الموجية والمرشحات، مما يتيح مزيدًا من التقدم في مجال الاتصالات البصرية ومعالجة البيانات.
• يمكن لكاميرا الهاتف الجوَّال المصنوعة من المواد الخارقة أن تنتج صورًا ذات جودة أفضل بكثير من أهم الكاميرات المتوفرة حاليًا.
• يمكن للمواد الخارقة الحرارية أن توفر تبريدًا للمباني كما يفعل تكييف الهواء، إلا أنها أفضل بكثير؛ لأنها نظام سلبي لا يحتاج إلى طاقة.
• التخفي والحجب: يمكن أن تستفيد تقنية التخفي من المواد الخارقة بالتلاعب في الموجات الكهرومغناطيسية، لجعل الأجسام غير مرئية، أو أقل قابلية للاكتشاف بواسطة الرادار.
• عزل الصوت: يمكن استخدام المواد الخارقة لتقليل الضوضاء وعزل الصوت في المباني وأنظمة النقل، من خلال التحكم في تدفق الموجات الصوتية.
• المركبات ذاتية القيادة: تستطيع المواد الخارقة أن تعزز أداء أنظمة الرادار المستخدمة في المركبات ذاتية القيادة، مما يتيح اكتشافًا أفضل للأشياء والملاحة بأمان.
• الجدران الذكية: يمكن استخدام المواد الخارقة في تطوير جدران ذكية قادرة على تغيير لونها وتكوينها، بناءً على الظروف المحيطة. يمكن أن تكون هذه الجدران مفيدة في توفير عزل حراري فعال، وتوفير تحكم أكبر في الإضاءة والتهوية.
• النقل الصوتي والحراري والكهربائي: يمكن استخدام المواد الخارقة لدراسة الفيزياء الأساسية للنقل الصوتي والحراري والكهربائي في الأنظمة البيولوجية، بما في ذلك المحاكاة الحيوية والتنظيم الحراري في الحشرات والإشارات الكهربائية في النباتات والحيوانات.
• الإلكترونيات القابلة للارتداء القائمة على النسيج: يمكن للمواد الخارقة أن تتيح تطوير الإلكترونيات القابلة للارتداء القائمة على النسيج، مما يسمح بالتكامل غير المحسوس للإلكترونيات مع جسم الإنسان.
• يمكن للهوائي المعتمد على مادة خارقة، والمطبوع على النافذة، أن يعيد توجيه موجات الجيل الخامس (5G) والموجات المليمترية (mm) مثل أجهزة إعادة توجيه الشعاع، ولكنه أفضل بكثير؛ لأنه يمكن أن يحسِّن استقبال موجات الجيل الخامس مع كونه شفافًا للتكامل مع النوافذ والمباني.
• الدروع الإشعاعية: يمكن استخدام المواد الخارقة في الملابس الطبية الخاصة بتطبيقات الأشعة، مما يؤدي إلى حماية العاملين في المجال الطبي من التعرض للإشعاع.
• يمكن لاختبار الجلوكوز غير الجراحي القائم على المواد الخارقة، أن يجعل الجلد “شفافًا” لموجات الراديو (40 غيغا هرتز) من أجل قياس نسبة الجلوكوز في الدم للأشخاص المصابين بداء السكري.
اترك تعليقاً