مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2024

في رثاء بدر لا يغيب


د. سلطان العميمي

وإلى جانب كونه شاعرًا نبطيًا، كان البدر فنانًا تشكيليًا، ونُشرت بعض لوحاته في دواوينه، كما سبق أن أقام عددًا من المعارض الفنية. وقد لا يصعب على من يتأمل قصائده أن يرى انعكاس فرشاة الرسام على الصور الشعرية في عدد منها، ولا يصعب عليه أيضًا الوقوف على بعض أبياته الشعرية التي تحمل نفسًا سرياليًا.

أليس هو القائل:
“ذبلت أنوار الشوارع.. وانطفى ضَيّ الحروف”؟

وهو القائل:
“أعلق الدنيا على مسمار.. مدقوق فيه جدار”.  

لقد خرج البدر عن الأسلوب النمطي الذي كان سائدًا قبله في بنية القصيدة وصورها، فابتعد عن النمط الشائع والمعروف، وكتب بأسلوب جديد، بل وغُنّي له؛ إذ غنى محمد عبده في وقت مبكر قصيدة: “أرفض المسافة”، المحمّلة بنفسه الشعري الجديد، ويقول فيها:  

“أرفض المسافة، والسور، والباب والحارس 
آه، أنا الجالس ورا ظهر النهار، 
 ينفض غبار ذكرى 
أرفض يكون الانتظار بكرا 
أبا اسقي عطش قلبي اليابس على شفاهي 
بقول احبك 
أرفض اني أموت في قلبك، 
وما درى بموتي أحد.. حتى أنا”. 

ونجحت الأغنية نجاحًا مدويًا. وكان ذلك من بدايات الانقلاب الشعري في القصيدة العامية في الخليج، المرتبطة بالأغنية الخليجية خصوصًا، وكان طرفًا في هذا الانقلاب قصائد أخرى غُنيت في فترة قريبة من تلك الأغنية، مثل: “قصت ضفايرها ودريت”، التي غناها الفنان طلال مداح، ومن أبياتها: 

قصّت ضفايرها ودريت، 
البارحه جاني خبر 
أدري البست خاتم عقيق، 
وتقرا لها كتابٍ عتيق 
كتاب وآظنه شِعر 
أحفظ أنا حجار الطريق 
اللي يودّي لبيتها 
واعرفها زينٍ وانا.. لا شفتها ولا جيتها”. 

أخلص البدر للشعر منذ أن بدأ يكتبه وينشره، فدعم كثيرًا من المجلات والبرامج التلفزيونية الشعرية حتى آخر أيام حياته. ونشر قبل سنتين أعماله الشعرية الكاملة. أمَّا مسيرته الشعرية التي امتدت إلى أكثر من نصف قرن، فليس من باب المبالغة القول إنها لم تجد نصيبها الذي تستحقه من النقد والدراسة. وإنه ليس من باب المبالغة أيضًا القول إن البدر يعدُّ من الشعراء القلائل الذين لم يخفت وهج قصيدتهم طوال فترة عطائهم الطويلة. فقد استمر “أبو خالد” في نظم قصائده بذات النفس الشعري الذي عُرف به إلى أواخر أيام حياته، ولم نشعر بأن أبياتها مسها شيء من شيخوخة لغة الشعر، وظلت شعلة موهبته مشتعلة بقوة إلى أواخر أيام حياته. 

لقد امتلك البدر، منذ وقت مبكر، جرأة على كسر الشكل التقليدي للصورة الشعرية. وكثيرًا ما تساءلت بيني وبين نفسي: لو أن شاعرًا آخر كان صاحب تجربة الأمير بدر، هل كانت قصائده ستحظى بالقبول أو بالانتشار نفسه الذي حظيت به؟ 

إن التجريب والتجديد في الشعر النبطي، خلال الزمن الذي بزغ فيه نجم البدر، لم يكن مُرحبًا به، سواء مجتمعيًا أو بين شعراء النبط آنذاك أو في وسائل الإعلام؛ لأنهما – أي التجريب والتجديد – يسبحان ضمن ما أُسمِي بتيار الحداثة الشعرية، الذي يُرى فيه مساس بأصالة الشعر النبطي الذي يشكّل جزءًا مهمًا من هوية إنسان المنطقة، ومن ثمَّ فهو خطر عليه. لكن الوعي الشعري المبكر الذي امتلكه البدر، جعله يمشي بخطى ثابتة على أرضية صلبة من الإدراك لمفهوم الأصالة والحداثة في الوقت نفسه. 

“حافظ البدر في قصائده على هويته البدوية، واعتز ببداوته وبإبله”.

لقد حافظ البدر في قصائده على هويته البدوية، واعتز ببداوته وبإبله، وشق لها دروبًا في قصائده، واحتفى بالأمطار، وطبع خطواته في رمال الصحاري في حر القيظ وسهر الليل وعد النجوم، وامتطى صهوة الخيل، وسبح في الغدران. وفي الوقت نفسه، شق للقطار سكة حديد في قصائده، وغنى المواويل، وانتقل بين بيوت الطين، ورتب الأزهار في المزهريات، واستحضر غرناطة وطارق بن زياد، وقال في محبوبته يومًا: 

“ألا يا الله كان اللي مضى لي يشبه المجهول 
تيسّر لي عدوٍّ ما عليه اشباه مضنوني 
غدا يشبهني في الساعة عبث هالعقرب المجهول  
أعد اللي رحل بي وان وقفت بيرحل بدوني”

وهو القائل: 
“قصّت جناح الثواني غيبتك.. وصارت الساعة أماني”. 

أدركَ البدر مبكرًا، بوعي وذكاء، أنه يمتلك موهبة شعرية في حاجة إلى اهتمام خاص منه. (تصوير: راشد السبيعي)

وهو الشاعر نفسه الذي قال: 

“أترامى، هذي عاداتي  
في كل العمر مره أترامى، 
وصدقيني في حياتي، 
ما هقيت اني عقاب ولا يمامه، 
إنما لعيونك انتي، طرت لأجمل ابتسامة 
لين قلتي وين جنحانك؟ 
وين جنحاني؟!
وطحت 
طحت من أعلى غمامه”.   

لقد أثبت البدر في مقابلاته والأمسيات الشعرية التي تحدث فيها بعيدًا عن إلقائه الشعر، أن الشاعر مسؤول عن الكلمة التي يتفوه بها في أحاديثه، وأن هذه المسؤولية في حاجة إلى تغذيتها بالعلم والوعي والتواضع في الوقت نفسه. كلامه هذا ذكّرني بقوله في إحدى قصائده “النثرية”:  

“خيالي أكثر.. 
في الشعر صدق، والشعر أكثر. 
من علم الفراش اللون، علّمني أكتب 
ضَيّ النجوم الكون، علمني أكتب  
لا تسألي.. إن كنت صادق أو كنت أكذب..”. 

غير أن أحاديثه في مقابلاته تلك، تكشف أيضًا عن صفات إنسانية رفيعة كان يحملها في ذاته ولم يكن قادرًا على إخفائها. فعلى سبيل المثال، تحدث في إحدى أمسياته بإعجاب عن أخلاق الفنان الراحل طلال مداح وإنسانيته، ولا يكشف ذلك الإعجاب في الحقيقة إلا عن نفس تدرك أبعاد “الإنسانية” في حياتنا. 

وبقدر التواضع الذي كان يُزهر مع كل رأي يبديه، أو تصرف يبدر منه، إلا أن قصائد البدر بصورها ومعانيها خلت من التواضع الذي يمكن أن توصف به تلك القصائد العابرة لغيره، التي تفتقر إلى عناصر الدهشة والجزالة وسمو العبارة وتفرد الخيال. نقول ذلك على الرغم من حديثه في مقابلاته عن أن بداياته الشعرية يراها متواضعة، ولعل من أشهرها تلك المقابلة التي يتحدث فيها عن أول قصيدة له غناها الفنان طلال مداح، وعنوانها: “عطني المحبة”. كما تحدث مرة عن التغييرات التي أحدثها الفنان محمد عبده في أغنية “صوتك يناديني”، بتقديم بعض المقاطع في قصيدته وتأخير بعضها، مشيدًا بأن تلك التغييرات كانت في صالح القصيدة والأغنية. 

إن الحالة التي تحدث عنها البدر في قصيدة “صوتك يناديني”، تكشف عن جانب مهم في علاقته بالقصيدة، وهو التغيير الذي يمكن أن يحدث في قصائده، خاصة من جانبه هو. ونجد في حضوره الشعري في أمسياته دليلًا مهمًا على ذلك، حيث نلمس ذلك القلق المستمر الذي يعيشه مع نصوصه الشعرية، مطاردًا دائمًا للكمال فيها، وأقصد هنا كمال المفردة، والعبارة. وحدث أن أجرى بعض التغييرات في قصائده التي نشرها، ثم ألقاها في أمسيات لاحقة، فغيّر بعض المفردات، أو أضاف أبياتًا لم يسبق له نشرها في القصيدة نفسها.

“قصائده تظل حية في داخله حتى بعد نشرها، فيرددها باستمرار، ويعمل على تنقيحها بشكل دائم”.

وهذه الظاهرة تشير، في رأيي، إلى أن قصائده تظل حية في داخله حتى بعد نشرها، فيرددها باستمرار، ويعمل على تنقيحها بشكل دائم. ونجد في إحدى قصائده يترجم تلك العلاقة بينه وبين الشعر، فيقول: 

أتعب على المعنى ويسهرني القاف  
                ويلذ لي تجريح عذب القوافي 
وليا مزج حبر القلم دم الأطراف   
                 يصير لي معنى على الناس خافي 
عندي معاني الشعر تلمس وتنشاف  
              إن ما جرحك الشعر ما هو بكافي 

الحديث عن البدر، لا نهاية له، والحزن الكبير الذي حل برحيله يجعل من الكتابة عنه محاولة للتكفير عن الشعور بالتقصير تجاه إنصاف تجربة شعرية وإنسانية عظيمة، يندر أن يجود الزمان بمثلها. 


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “في رثاء بدر لا يغيب”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *