عن الكاتب: نائب الرئيس لقضايا الطاقة والاقتصاد في أرامكو السعودية
أصبح التغيُّر المناخي، كالذكاء الاصطناعي، مالئ الدنيا وشاغل الناس في كل مكان، فهو أحد أكبر التحديات التي نواجهها في عصرنا الراهن. فهل بالإمكان البحث عن حلول جماعية أكثر استدامة تتفق عليها الدول والمؤسسات خلال الثلاثين سنة القادمة دون المساس بمتطلّبات الحياة الحديثة التي ينشدها إنسان اليوم؟
هذا هو جوهر الاختلاف بين دول شمال العالم وجنوبه حول ما يُسمى خطة “تحول الطاقة”، حيث ترتفع الأصوات التي تركز على ضرورة مواجهة هذا التحدي، والكل يتفق على أهمية ذلك. ولكن خارطة الطريق تختلف لدى الأطراف ذات المصلحة، فأولويات دول الشمال، التي حققت قدرًا من النمو الاقتصادي والرفاهية لشعوبها، تختلف عن أولويات دول الجنوب، التي تسعى للخروج من دائرة الفقر أو النمو البطيء. فما زال هناك نحو 733 مليون شخص حول العالم يفتقرون إلى الكهرباء، في حين يفتقر حوالي 2.4 مليار شخص إلى إمكانية الطهي النظيف.
وفي الربع الأخير من عام 2023م، أصبحت منطقة الخليج العربي محط أنظار العالم بشكل متزايد، فهي تشهد زخمًا متصاعدًا في نقاشات التغير المناخي. فمن جهة، استضافت الرياض في الفترة من 8-12 أكتوبر 2023م مؤتمر أسبوع المناخ لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الذي نُظّم بالشراكة مع الأمم المتحدة، وكان تجربة تاريخية فاقت التوقعات بحضور 9000 مشارك من 137 دولة. وقد تضمّن 240 جلسة استمرت على مدى 5 أيام، فكان فرصة مواتية لاستعراض التقدُّم المُحرَز إقليميًا نحو تحقيق أهداف اتفاق باريس للمناخ، كما مثَّل خطوة مهمة تجاه الاستعدادات الجارية لانعقاد مؤتمر الأطراف ضمن اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ “كوب 28” (COP28)، الذي تستضيفه مدينة إكسبو دبي في الإمارات العربية المتحدة بين 30 نوفمبر و12 ديسمبر 2023م.
ويمثِّل مؤتمر “كوب 28” المرتقب أوج النقاش والتقييم العالمي لسُبل معالجة آثار تغيُّر المناخ على المستوى الدولي العالمي؛ لا سيما أن الفترة القريبة الماضية شهدت أيضًا عددًا من الأحداث العالمية والإقليمية التي تمهّد له أو ترتبط به في أهدافها، ومن بينها مثلًا مؤتمر البترول العالمي الرابع والعشرون (WPC 2023)، الذي انعقد في شهر سبتمبر 2023م في مدينة كالغاري الكندية. وكذلك العديد من المؤتمرات العالمية والإقليمية الأخرى حول العالم.
التحوُّل مع مراعاة ضرورات التنمية الاقتصادية وأمن الطاقة
وعلى الأرجح أن الانتقال نحو عالم أكثر استدامة يتطلّب تحوُّل نظام الطاقة العالمي ليشتمل على المزيد من الأنظمة منخفضة الانبعاثات الكربونية. وفي ضوء الضخامة الهائلة لنظام الطاقة العالمي، هناك حاجة ماسة إلى العديد من المشاريع واسعة النطاق التي تُسهم في دعم هذا التحوُّل في قطاعات اقتصادية وصناعية متعددة؛ وهذا بحد ذاته يفرض تحديات غير مسبوقة على كافة أصعدة التصميم والهندسة والتنفيذ. وقد أظهرت تقديرات معهد “ماكنزي” العالمي أن تكلفة وصول العالم إلى الحياد الصفري ستكون حوالي 275 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2050م.
وفي حين أن هناك وضوحًا وتوافقًا عالميًا على ضرورة خفض الانبعاثات بشكل كبير للحد من آثار التغير المناخي، إلا أن النهج الذي ينبغي على العالم أن يتبعه للوصول إلى هذا الطموح لا يزال يشكل تحديًا حقيقيًا وسط معلومات متضاربة وتصورات مختلفة من الأطراف المعنية. وهنا، نجد أن ما يوحد جميع الاقتصادات والمجتمعات ويمس جميع أفرادها لا ينحصر بالرغبة في تقليل تأثيرات تغيُّر المناخ فقط على المدى الطويل، بل يشمل أيضًا الحاجة إلى الحصول على طاقة موثوقة وبأسعار معقولة على المديين القصير والمتوسط.
وبطبيعة الحال، لن يكون شكل تحوّل الطاقة ومنهجه واحدًا في جميع الأقاليم، فما يكون ممكنًا اليوم في الاقتصادات المتقدمة قد لا يكون كذلك في الاقتصادات النامية، حيث تواجه الأسواق الناشئة، وبشكل خاص في الدول النامية، تحديات إضافية تؤثر في قدرتها على تحقيق التنمية المستدامة مع تلبية احتياجاتها من الطاقة الموثوقة ومعقولة التكلفة. وعليه، فإن التحوّل الناجح يجب أن يراعي التوازن بين أهداف الاستدامة وبين أمن الإمدادات وإتاحة الطاقة بأسعار معقولة سعيًا لتحفيز النمو وتحقيق الازدهار الاقتصادي.
هناك أصوات تنادي بالتوقف الفوري عن استخدام النفط والغاز، وتطالب بوضع العراقيل على مشاريع الاستثمار في هذا المجال. هذه الأصوات تفتقد الواقعية ولا تتسم بالانتظام والتنوع، إذا أخذنا في عين الاعتبار الحجم الهائل لنظام الطاقة العالمي، الذي يتطلب سنوات طويلة واستثمارات ضخمة لتحويله. إن النهج المنظّم والعملي يدور حول رعاية مسارات متعددة للتحوّل، والحرص على ألا تؤدي وتيرة التغيير إلى صدمات اقتصادية عالمية، أو التأثير على الفئات الأكثر ضعفًا والأقل قدرة على التكيف. ومع تزايد النمو السكاني عالميًا، من المتوقع أن يزيد الطلب على الطاقة بنسبة %47 بحلول عام 2050م. وللمساهمة في تحقيق طموحاتنا الإنسانية المشتركة، يتعين على العالم إيجاد حلول منخفضة التكلفة وعالية التأثير، والاستفادة من البُنى التحتية القائمة قدر الإمكان، والتقليل من الانبعاثات بدلًا من حصر وتضييق نطاق وسائل الحصول على الطاقة.
طموحٌ ترفده التقنية والابتكار
وإدراكًا لأهمية موضوع تغير المناخ وحجمه، خطت المملكة خطوات مهمة في السعي نحو إيجاد حلول ممكنة لهذه المشكلة، وذلك من خلال الإعلان عن خططها للوصول إلى صافي الانبعاثات الصفري بحلول عام 2060م؛ إذ يجري تنفيذ مبادرات طموحة في جميع أنحاء البلاد بهدف خلق مستقبل أكثر استدامة للجميع. ويشمل ذلك تنفيذ برامج شاملة لكفاءة استخدام الطاقة، والقيام باستثمارات كبيرة في مصادر الهيدروجين والطاقة المتجددة، والعمل على تطوير تكنولوجيا متطورة لاستخلاص الكربون وتخزينه لتخفيض مستوى الانبعاثات الكربونية الدفيئة.
وباعتبارها إحدى أكبر شركات الطاقة والكيميائيات المتكاملة في العالم، تؤدي أرامكو السعودية دورًا فعّالًا في تحقيق تحول عالمي منتظم في مجال الطاقة، وذلك انطلاقًا من اعتقادها الراسخ بأهمية النفط والغاز، وبالاستفادة من الابتكارات التقنية. وتُعد أرامكو من بين الجهات التي تعمل على تمكين البنية التحتية للصناعة والتقنية والاستدامة، وتعزيزها في المملكة من خلال تنفيذ استثمارات متنوعة وواسعة النطاق، والدخول في شراكات رئيسة محلية وإقليمية ودولية. وبصفتها شركة تتخذ من المملكة مركزًا لأعمالها، تُدرك أرامكو أهمية إدارة الموارد الطبيعية الثمينة، فهي تسعى منذ فترة طويلة إلى الحفاظ على المياه، وتعزيز كفاءة الطاقة، وإدارة الانبعاثات والنفايات، والحفاظ على البيئة الطبيعية.
وعلى سبيل المثال، تمثل أعمال حرق الغازات الفائضة والمتسربة أحد أهم العوامل التي تسهم في زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة في قطاع النفط والغاز. ومنذ السبعينيات، كانت الشركة سباقة إلى خفض كميات الغاز المُهدَر بالحرق، وتم التعاون والتنسيق مع حكومة المملكة لاستخلاص القيمة الاقتصادية للغاز عبر مشاريع التحلية والكهرباء والكيميائيات وعدد من الصناعات الأخرى، بالإضافة إلى محاولة تقليل التأثير البيئي الناجم عن حرقه؛ مما مكّن من تحقيق مستويات رائدة في الصناعة من حيث الكثافة المنخفضة لانبعاثات الميثان.
علاوة على ذلك، فإن عقودًا من تبني الابتكارات المميَّزة والممارسات التشغيلية جعلت الشركة من بين أقل شركات النفط والغاز الكبرى من حيث كثافة الانبعاثات الكربونية على مستوى قطاع التنقيب والإنتاج. ويعود الفضل في ذلك إلى قرابة نصف قرن من إدارة المكامن بعناية، والاستثمار في الكفاءة، وتقليل حرق الغاز. ويؤهل هذا الموقع البارز الشركة لأداء دور فعّال في عملية تأمين مستقبل الطاقة العالمي، وخاصة في ظل القيود المتعلقة بآثار تغير المناخ.
وقد أعلنت أرامكو السعودية عن طموحها بالوصول إلى الحياد الصفري لانبعاثات الغازات الدفيئة في النطاقين 1 و2 للموجودات التي تملكها وتديرها بالكامل بحلول عام 2050م، كما تستهدف تقليل انبعاثات هذه الغازات من النطاقين المُستهدفين بمقدار 52 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2035م، وذلك على أساس توقعات الأعمال المعتادة. ولتحقيق هذا الطموح، ترتكز الشركة على خمسة محاور رئيسة: تعزيز كفاءة الطاقة عبر أصول ومرافق وعمليات قطاع التنقيب والإنتاج وقطاع التكرير والكيميائيات والتسويق، وتحقيق خفض إضافي في انبعاثات غاز الميثان ونِسب الإحراق، والتوسع في استخدام مصادر الطاقة المتجددة، والريادة في استخلاص الكربون وتخزينه، وتطوير الأرصدة الكربونية أو شرائها لموازنة الانبعاثات صعبة الحل.
وفيما يلي محطات مرحلية في طريق أرامكو نحو التحول في الطاقة:
- العمل على بناء أحد أكبر مراكز استخلاص الكربون وتخزينه في العالم، إذ تُقدّر الطاقة الاستيعابية المتوقعة للمركز بـ 11 مليون طن في السنة بحلول عام 2035م.
- تدشين صندوق استثماري بقيمة 1.5 مليار دولار للاستثمار في الابتكارات والتقنيات التي تهدف لمعالجة تحديات المناخ.
- تحقيق نسبة 59% من إجمالي إنفاق الشركة على الإبتكار والبحث والتطوير وتركيزها في مجالات الاستدامة في عام 2022م، بزيادة قدرها7% عن مستوى الإنفاق في عام 2021م.
- خفض الكثافة الكربونية لقطاع التنقيب والإنتاج بنسبة 15% بحلول عام 2035م.
- خفض كثافة انبعاثات غاز الميثان لقطاع التنقيب والإنتاج إلى نحو 0.05% بحلول عام 2025م، وهو مستوى أقل بفارق ملحوظ عن الهدف الذي حددته مبادرة شركات النفط والغاز بشأن المناخ (OGCI) عند 0.20%.
- وضع خطة ونُظم لموازنة الانبعاثات التي يصعب التخلص منها. وفقًا لهذه الخطة، زرعت الشركة 11 مليون شجرة قرم (مانغروف)، ضمن سعيها لزراعة 31 مليونًا من هذه الأشجار بحلول عام 2025م على طول الشريطين الساحليين المطلّين على الخليج العربي والبحر الأحمر.
- مساندة تطوير سوق الكربون الطوعية الإقليمية في المملكة (RVCM)، إذ شاركت في أكبر مزادين للوحدات الكربونية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عبر هذه السوق، حين أُقيما في المملكة وكينيا. وخلال المزاد الأول لأرصدة الكربون، اشترت أرامكو 650 ألف وحدة من أصل 1.4 مليون وحدة جرى بيعها.
وبالإضافة إلى ذلك، تستثمر أرامكو في التكنولوجيا التي يمكن أن تدعم تحوُّلًا مستقرًا يستفيد من جميع مصادر الطاقة؛ لتلبية الطلب المتزايد عليها عالميًا مع تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة.
ولم تقتصر جهود أرامكو على أعمالها، بل امتدت لمشاركة المجتمع وبخاصة أجيال المستقبل في تعزيز الوعي بالتحدي المناخي وتقديم الحلول الممكنة. ففي 12 سبتمبر 2023م، تعاونت أرامكو مع أكاديمية طويق، فحققت رقمًا عالميًا ضمن موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية عبر إقامة برنامج تعليمي للتوعية بتحدي المناخ. شمل البرنامج ورش عمل وابتكارات ومحاضرات، ومعرضًا كبيرًا للأفكار والمبادرات والتقنيات التي تسعى لتشكيل المستقبل. وقد أُقيم الحدث في مركز معارض الظهران، حيث شارك فيه 11,148 زائرًا منهم 2,758 طالبًا وطالبة، قدَّموا 1,388 مبتكرًا.
من جهة أخرى، دشّن مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء)، ذراع أرامكو المجتمعية والإبداعية، يوم 13 سبتمبر 2023م معرض الفن المعاصر “صافي الصفر”، الذي يستعرض أعمالًا فنية لـ16 فنانًا عالميًا، واثنين من الفنانين السعوديين المعاصرين، مسلطًا الضوء على وجهة نظرهم إزاء التحديات البيئية؛ بهدف إثراء الحوار الثقافي وتحفيز السلوك البيئي الفعال.
ولا شك أن تحقيق التحوُّل في نظام الطاقة العالمي الحالي الهائل، وتوفير مستقبل آمن وأكثر استدامة للجميع، هو مهمة عظيمة تحتاج إلى جهود فردية ومشتركة من جميع الشركات وعلى طول سلاسل القيمة، وهذا يستدعي تضافر جهود جميع الحكومات والجهات التنظيمية والمستهلكين؛ إذ لا يمكن لجهة واحدة أو دولة منفردة أن تقوم بها.
ما نقوم به كمجتمع عالمي سيحدد الإرث الذي سنتركه للأجيال القادمة. وطموحنا في أرامكو السعودية هو أن نكون جزءًا من الحل، وأن نستكمل دورنا في توفير الطاقة الموثوقة التي يحتاجها العالم للمساهمة في تحقيق تحوُّل منتظم يستند على منهج عملي وواقعي متعدد المسارات، يوازن احتياجات التنمية واحتياجات الاستدامة للناس حول العالم سعيًا لتحقيق حياة أفضل.
اترك تعليقاً