في ملف العدد (مايو – يونيو 2023م)، من مجلة “القافلة”، كتبت مهى قمر الدين عن ثيمة شغلت الفلاسفة والمفكرين والأدباء والفنانين في كل بقاع الأرض، وعبر مختلف العصور، وهي “الطريق”. والسطور أدناه ليست تعقيبًا على ما كُتب، بل مجرد إضافات إلى موضوع سيسيل مزيدًا من المداد، ويلهب المخيلات مجددًا؛ إذ إن الطريق أو السبيل ليست مجرد ممر يسلكه الإنسان وسائر وسائل المواصلات التي تنقل الناس والبضائع والأفكار، بل سنستعير المفهوم الفلسفي، ونقتفي خطواتنا على طريق أو طرق البحث عن صيغة مثلى للعيش، طريقة للحياة وتحقيق السلام الداخلي أو التصالح مع الذات ومع العالم، ما دامت رحلة الحياة محض سعي حثيث بحثًا عن شيء ما ينقصنا؛ ملأ فراغات نقصان يجبرنا على أن نغادر المكان الأول، والبحث عن انتصار معنوي في “هذه الهزيمة المحتومة التي نسميها الحياة”، كما يَعدُها ميلان كونديرا.
يحضر الطريق في فلسفة مارتن هيدغر، الذي اختار أن يسمّي أعماله الكاملة “طرق لا مؤلفات”، كما أشار المترجم إسماعيل المصدق. وهذا يعني بالنسبة إلى القارئ أنه “لا ينبغي التعامل مع أي من نصوص هيدغر بوصفها مجموعة من المعارف والمعلومات حول قضية معينة؛ لأن كل نص من نصوصه هو طريق يسلكه التساؤل المفكر. ولكن هذا الطريق لا يكون قائمًا ومفتوحًا أمام التساؤل المفكر منذ البداية، بحيث لا يبقى عليه إلا أن يقطعه، بل إن الطريق يُشق ويُفتح باستمرار، وهو يتغير مع كل خطوة من خطوات التساؤل. وهذا الطريق لا ينتهي بتقديم إجابة عن السؤال. لأن السؤال يتغير خلال الطريق، ويظهر دومًا في ضوء جديد، وبموازاة ذلك تتغير أيضًا المفاهيم التي انطلق منها التساؤل”.
في “طرق لا تؤدي إلى أين” كتب مارتن هايدغر: “توجد في الغابة طرق، تكون في الغالب مملوءة بالعليق، وفجأة تنسد انغلاقًا. كل يتبع طريقه الخاص، لكن في الغابة نفسها. وتبدو في الغالب كأنها تتشابه. غير أن ذلك ليس سوى مظهر. يعرفها الحطابون وحرَّاس الغابة جيدًا. إنهم يعرفون ماذا يعني أن يكون المرء في طرق متشابكة، في طرق لا تؤدي إلى أين”.
في 1982م، صدرت للروائي الأردني الراحل جمال ناجي، روايته البكر “الطريق إلى بلحارث”، وأبطالها مدرسون مغتربون عن أوطانهم، وهي بمنزلة رحلة اغتراب من الهامش إلى الهامش، في سبيل ذلك البحث الإنساني الأزلي المحموم عن حياة حرة كريمة، رحلة “البحث عن خلاص آخر، ولكن عبر نفي آخر”. وقد احتفت الرواية، بتعبير د. رامي أبو شهاب، بثيمة الإجهاض أو عدم الاكتمال كما هي المسارات كافة، “وكأن معنى الخلاص بات في حالة إرجاء كما هي الطريق التي لا تنتهي!”.
لندع هذا التيه العوليسي، ودروب البحث المضني عن الحقيقة والكمال والسعادة والإنسانية، ونتجاوز العجز عن فهم هذا الوجود والإحساس بالنقص والتيه والغربة، التي انشغل بها الإنسان منذ طفولة الوعي، لكي نتفادى الدخول في متاهات الميثولوجيا والميتافيزيقا واليقينيات والخروج من الجنة وأدب الرحلات وسينما الطريق… إلخ؛ لنقفز فوق تاريخ هائل يحتاج إلى مجلدات تطوي خطواته، ونقرأ قصيدة “ملاحظة من مسافر” لسركون بولص:
“عندما رأيتُ
الموت يتوضأ في النافورة
والناس من حولي يعبرون نيامًا في الطرقات
بدا أن أحلامي أهرامٌ من الرمل
تنهارُ أمام عيني
ولمحتُ نَهاري يهرب في الاتجاه المعاكس
بعيدًا عن تلك المدينة الملعونة..
البدء نختاره
لكن النهاية تختارنا
وما من طريقٍ سوى الطريق”.
سنتأمل السطر الأخير، ونتذكر الطريق إلى إيثاكا، حيث الطريق إليها هو المهم عند قسطنطين كفافيس، حتى لو استمر أعوامًا طويلة، وشاخ المرتحل في الطريق، وهو ما عبّر عنه محمود درويش في قصيدته “الطريق إلى أين” المهداة إلى سركون بولص:
“نمشي كأنَّا سوانا. كأنَّ هناك/ هنا
بين بين. كأن الطريق هو الهدف
اللانهائيُّ، لكنْ إلى أين نمضي، ومن
أين نحن إذن؟ نحن سُكَّان هذا
الطريق الطويل إلى هدف يحمل اسمًا
وحيدًا: إلى أين؟”.
عن هذه الرحلة الوجودية كتب أنطونيو ماتشادو في قصيدته “أيها السائر”:
“أيها السائر
خطواتك هي الطريق
ولا شيء آخر..
أيها السائر
لا وجود للطريق
فالطريق تصنعه بمسيرك”.
ونختم هذه المقالة بأن نفكر بصوت عالٍ مع أبي الطيب المتنبي، كما يجدر بأي عابر سبيل ستختفي آثار خطواته على درب الحياة بعد حين، وكلنا هذا العابر، حتى من اختار (أو سيختار) الطريق إلى اللامكان:
“نَحْنُ أدْرَى وَقد سألْنَا بِنَجْدٍ
أطَوِيلٌ طَرِيقُنَا أمْ يَطُولُ”.
اترك تعليقاً