مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

في إيثار المقهى على الورشة


أحمد شافعي
شاعر ومترجم

واضح أن “لسان العرب” لم يكن يحتوي كلمة تعني “الورشة” تصلح مقابلًا لكلمة “workshop” الإنجليزية. ولذلك اضطر آباء لنا إلى هذا التعريب الجميل بأخذهم الواو والراء من “work” والشين من “shop” مع إضافة ساحرة لـ”تاء التأنيث”. ويا لها من لمسة تكشف كم كان أولئك القوم مطمئنين وهم يُدخلون في لغتهم كلمة غريبة! ببساطة من يضيف في بيته الخاص ستارة أو نافذة.


الورشة جديدة.. أمَّا التدريب فلا

قد يبدو مفهوم “الورشة” غريبًا عن اللغة العربية والثقافة العربية. لكنني لا أعتزم أن أستند إلى هذا لأقول إن مفهوم التدريب العملي على حرفة الأدب دخيل علينا. ففي ذاكرة الأدب العربي واقعتان تقولان عكس ذلك.

في إحدى الواقعتين يأتي صبي إلى خلف الأحمر ويستأذنه في قول الشعر، فيشترط عليه أن يحفظ ألف بيت من شعر العرب. وحين يرجع الصبي وقد حفظها، يشترط عليه أن ينساها. فيذهب الصبي إلى دير يمكث فيه حتى ينسى. ثم يُؤذن له أخيرًا بقول الشعر، فيصبح أبا نواس.

وفي الثانية يأتي شاعر إلى أبي تمام ليأخذ عنه الشعر، بعد أن كان ينظمه معتمدًا على طبع سليم، فيوجِّه إليه أبو تمام نصائح من قبيل أن يكتب في السَّحر بعد قسط من الراحة، وأن يكتب وهو خالٍ من الهموم والغموم. إلى آخر ذلك مما لا نعلم، هل أخذ به الشاب أم أهمله، لكننا نعلم أنه أصبح البُحتري.

التلميذ هو من يختار أستاذه

في الغرب، وقبل استحداث “الورشة الأدبية” وتدريس الكتابة الإبداعية، لدينا نموذج ورشة تلقائية غير رسمية، لا سلطة فيها للأستاذ على التلميذ إلا التي يحددها التلميذ بنفسه، ولا شهادة تخرج، ولا وعد بالنشر، ولا تكلفة زهيدة أو باهظة تخرج الأمر كله من فعل الأدب إلى ممارسة التجارة. بطلا هذه الحكاية هما الشاعران الأمريكيان إزرا باوند ودبليو إس ميروين، وتجري في عنبر بمستشفى المجانين. ويا له من مكان مثالي لتعليم كتابة الشعر!

يحكي ميروين أنه حج إلى إزرا باوند في أواخر عمره، وقد استقر في مستشفى للأمراض العقلية بدلًا من السجن أو ما هو أسوأ، بعد إدانته بتهمة موالاة الفاشية في الحرب العالمية. نصح الشاعر الكبيـر تلميـذه قائلًا إن عليه ليبرع في الشعر أن يكتبه كل يوم. ولأنه في عمره الصغير هذا، ولم يكن ميروين قد تجاوز العشرين، لن يجد ما يكتبه كل يوم، فعليه أن يترجم الشعر؛ أي شعر، ليحافظ على لياقة مفاصل أصابعه بتعبير راسل إدسن.

في الوقائع الثلاث نجح التدريب في تخريج ثلاث دفعات ممتازة. وفيها جميعًا يجدر بنا أن ننتبه إلى أن التلميذ هو الذي اختار الأستاذ، بل هو الذي اختار المنهج أيضًا في حالتين. فما الذي فرضه خلف الأحمر فعلًا على تلميذه؟ إنما أراده فقط أن يتصعلك في شعر العرب. فلم يفرض عليه، مثلًا، امرأ القيس إذا ركب، أو زهيرًا إذا رغب، أو النابغة إذا رهب، أو الأعشى إذا شرب. وما الذي “فرضه” باوند على ميروين الشاب؟ إلا أن يترجم؛ أي أن يقترب من الشعر اقتراب مبدعيه الأصليين منه، ولم يلزمه حتى بالمؤسسين الأوائل في اليونانية أو اللاتينية، أو بالكلاسيكيين في الإنجليزية، لم يزد باوند على فتح باب للشاعر الصغير على المتاهة العظيمة التي سيؤسس فيها لاحقًا ركنه الصغير.

أمَّا أبو تمام، فلا أفسر نصيحته إلا بأحد أمرين: إمِّا أن التلميذ أتاه مكتمل الأدوات، بغير حاجة إلى أكثر من المساعدة في تنظيم وقته، وإمَّا أنه أراد أن يصرفه عنه بنصيحة عامة. وفي كلتا الحالتين أنتج أبو تمام منافسه وشريكه في الذكر حتى يومنا هذا، ونقيضه بمعنى من المعاني.

لم يُنتج أي من الأساتذة الثلاثة في الوِرش الثلاث نسخة منه، لأن أحدًا منهم لم يعلم تلميذه كيف يحكم التشبيه أو يخلق المجاز أو يستهل القصيدة. كلهم ألقوا تلاميذهم في البحر، وهم واثقون أن النجاة لن تُكتب إلا لمن يستحقها، وكذلك الغرق.

كثيرًا ما يحلو لي الظن أن بدعة مأسسة وِرش الكتابة ما ظهرت إلا لتحل مشكلة أمريكية، وهي مشكلة جغرافية وديمغرافية، ثم لتشبع جشعًا اقتصاديًا أيضًا.

إن المسافات الشاسعة بين البلدات والمدن الأمريكية تولّد صعوبات حقيقية تحول دون التواصل بين أهل هذه التجمعات السكنية، بما يمنع فعلًا تكوين وسط ثقافي حقيقي يسهل فيه التقاء الكتاب الناشئين خضر العيدان بالراسخين المحنكين، ويسهل فيه انتقال الخبرات وتبادل المخطوطات، وتكثر اللقاءات البسيطة حول طاولات المقاهي، حيث تنتفي السلطة، ويختار التلميذ أساتذته.

لماذا نشأت الوِرش وتسرطنت؟

في ظل تلك المصاعب، كان لا بدَّ من اصطناع وسط يجمع المتمرسين بالكتابة مع المبتدئين فيها؛ فكانت الورش، وأقسام تدريس الكتابة الإبداعية، ومشاريع التخرج (يا له من تعبير أوله التجارة وآخره الامتحان!). ثم يتحول ذلك، آجلًا أم عاجلًا، إلى تجارة واضحة، وبدلًا من بضع حلقات حول بضعة أدباء موهوبين ومتحققين، تتسرطن الورشة إلى مئات الورش، ويتولَّى أمرها المتوسطون أو الدخلاء؛ فيقررون وصفات محددة للرواية، وأخرى للقصيدة وللقصة، ويجعلون من عمل جوهره التدريب على المروق ونقض القديم خطًا للإنتاج؛ فيتوالى صدور آلاف الكتب المتماثلة تماثل علب التونة على أرفف المتاجر.

التسامح مع الإبداع أو السماح بتقليده

كثيرًا ما أتصور أن رواية مثل “مائة عام من العزلة”، بمفارقتها الواضحة لوصفات الروايات السابقة عليها، ما كانت لتظفر بموافقة كاتب “مديوكر” يدير ورشة. وكثيرًا ما أتصور أستاذ كتابة ينصح ماركيز بإعادة بناء “سرد وقائع موت معلن” لتصبح رواية إثارة حقيقية، أو رواية بوليسية يلهث القارئ فيها إلى أن ينكشف القاتل بدلًا من كشف نبأ القتل من السطر الأول. كثيرًا ما أتصور كونديرا، وهو ينظر في مسودة رواية له، وقد لوث المشرف عشرات الصفحات منها بإشارات حمراء مطالبًا بحذف المقالات والتأملات والاستطرادات الفلسفية التي تميز كونديرا. كثيرًا ما أتخيل كل ما جاء على غير مثال قبله: روايات من قبيل “عوليس” و”البحث عن الزمن المفقود”، وقصائد مثل الأرض الخراب، وشعراء مثل فرناندو بيسوا. أتخيل كل ذلك ممزقًا في سلال قمامة وِرش الأدب بسبب حرس البوابات الذين لا يتسامحون مع الإبداع، ولا يسمحون إلا بتقليد الإبداع.

يحكي فريدريك توتن حكاية عن بول بولز ومشاركته في الإشراف على ورشة لتعليم الكتابة. وكلنا نعلم بول بولز على النحو الذي يليق به، فهو المارق، والخارج على أعراف الكتابة والمجتمع، واللائذ بطنجة بحثًا عن الحرية.

حينما أراد سدنة صناعة تدريس الكتابة استغلال بول بولز، وهالة انتمائه إلى جيل البيت الأمريكي وفتنته الخاصة، عقدوا له ورشة كتابة في طنجة، وبعثوا إليه بروائي شاب ناجح هو فريدريك توتن لـ “يشاركه” التدريس، أو لينوب عنه فيه بالأحرى، بينما يجلس بولز مدخنًا في آخر الفصل، وراء آخر الطلبة.

يحكي فريدريك توتن أن الطلبة كانوا يلتحقون بالورشة، طامعين في كلمة استحسان واحدة من بولز، لكنه كان يدخر تعليقاته ليشير إلى موضع يلزم فيه تعديل فاصلة منقوطة أو فقرة أو زمن، أو ليقول: “في الصفحة الرابعة تقول (فكَّر أن يشتري لها زهورًا)، لكن المؤكد أنك تقصد (كان قد فكَّر أن يشتري لها زهورًا)، أو أني أتصور أنك قد قصدت ذلك”.

ولا يزيد. فذلك أقصى ما يمكن تعليمه في الكتابة: علامات الترقيم والنحو والصرف. وحينما حاول توتن أن يستدرج بولز إلى المزيد احتال عليه، قائلًا: “أرجو ألا تضيق بمشاركتي لك في الفصل يا أستاذ بولز”.

فقال بولز: “مطلقًا. فأنا لا أعرف ما ينبغي عمله. لم أُدرِّس الكتابة من قبل، ولا أظن أصلًا أنها قابلة للتدريس”. ثم أضاف رجاء أخيرًا، ليضمن أن يظل الكاتب وحسب: “ومن فضلك، نادني بول”


مقالات ذات صلة

تطرح “القافلة” قضية ظاهرة الورش الإبداعية وجدواها على الأرضية السليمة للنقاش.

أفضل من يقدِّم الورشة هو الذي يجمع بين الصفات الثلاث: عُدَّة نقدية أكاديمية، وحِسٌّ إبداعيٌّ صقلته الممارسة، وتمرّسٌ على التعليم والتدريب.

مُقاربة المسألة من زاوية التجربة الشخصية في موقعين: موقع المتدرّب، وموقع المدرّب في ورشة.


0 تعليقات على “في إيثار المقهى على الورشة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *