مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس - أبريل | 2020

فهد الربيق..
لكل لوحة حديثها الشكلي الخاص


فريق القافلة

أقام أول معرض فردي عندما كان في السادسة عشرة من عمره. وشارك في أول معرض دولي في السويد وهو في السابعة عشرة. إنه الفنان التشكيلي المخضرم فهد الربيق، الذي تزوره القافلة اليوم في مرسمه الواقع في حي الشميسي في الرياض. هذا المرسم القديم الذي اعتاد الفنان منذ أكثر من 35 سنة أن يتوجَّه إليه بعد عصر كل يوم، ليعمل إما على إكمال لوحة، أو البدء برسم لوحة جديدة. وما بين القديم والجديد تتجلى بوضوح شخصية الربيق الفنية..شخصية متفلتة من قيود الأسلوب الواحد، وكما أن لكل حادث حديثـاً، فلكــل لوحة عنده حديثها الشكلــي والأسلوبي الخاص.

نشأ فهد الربيق في الدرعية، هذا أول ما يجب أن يعرفه من يتطلع إلى أعماله لكي يدرك كنهها. فالدرعية وأطراف وادي حنيفة، بأطلال قصورها الطينية ونخيلها الباسق وبساتينها وطيورها، هي التي أمدت الفنان بمفرداته التشكيليــة الأولى، وكثيـر من هذه المفــردات لا يزال حاضراً في أعماله حتى الحديثة منها. وربما أكثر من ذلك، فقد تكون رتابة الألوان الطينية في أطلال الدرعية ودلالاتها على ماضٍ مثير للحزن، هي التي دفعت الفنان إلى عشق الألوان الزاهية حيناً، والصاخبة أحياناً دلالةً على الحياة. فرسم وهو فتى بالقلم أولاً، ثم بالحبر، ما كان يراه في محيطه بالدرعية قبل أن ينتقل إلى عالم الألوان ولغاتها ودلالاتها المختلفة.

لا أسلوب محدداً يؤطر فنه
عادة، عندما يعمل فنان على مدى أربعين سنة، يكون من الطبيعي أن تتبدل أساليبه وأن تتطوَّر قبل أن يرسو على أسلوب معيّن يدلّ على شخصيته الفنية. أما فهد الربيق فيبدو متفلتاً من كل قيود الأسلوب الواحد. وأول ما يلفت الناظر لأعماله لا يقتصر على تنوُّع الموضوعات التي يتناولها بل أيضاً التنوُّع في الأساليب والتقنيات التي يرسم بها هذه الموضوعات. فكل لوحة عنده تتشكل وفق لحظة إبداعية مختلفة عن الأخرى باختلاف الخطاب الكامن في نفسه الذي يريد البوح به. فتراه تعبيرياً في لوحة، وواقعياً في أخرى، وقريباً من السريالية في ثالثة، أو منعطفاً صوب التجريد.. مع استعمال كثير من الرموز حتى في اللوحات التي تمثل مشاهد مستمدة من الواقع اليومي. ولا شيء يوضح طبيعة هذا التنوُّع الأسلوبي مثل التنوُّع في موضوعات لوحاته.

عرض أعماله في عديد من العواصم العربية والأوروبية، منها تونس والجزائر والسويد والقاهرة والبحرين والكويت وبيروت وغيرها.

في الحياة الوطنية
رسم الربيق صورة متخيلة للملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، ونراه فيها حاملاً راية التوحيد يلوّح بها نصراً وفخراً بفتح الرياض، وعلى جانبيه قصر سلوى في الدرعية وقصر الحكم في الرياض. وجمع القصرين يهمس، بخطاب يقول إن العاصمة الجديدة تستعيد أمجاد العاصمة القديمة. ووضوح الهمس هنا، يبقي هذه اللوحة في إطار الرمزية على مسافة بعيدة من السريالية التي يقترب منها الفنان أكثر في لوحته “القدس”.
ففي العام 2009م، عندما اختيرت القدس عاصمة للثقافة العربية، شارك الربيق في معرض بعنوان “القدس في عيون الفن” في الرياض. وعرض فيه ست لوحات تدور حول القدس ومكانتها الثقافية والإنسانية، ومن بينها لوحة صوّر فيها القدس على هيئة سيّدة تعتمر تاجاً مكوناً من قبة الصخرة. فكل ما في هذه اللوحة مصوّر بواقعية، ولكن في تركيب عام غير واقعي على الإطلاق. أليس هذا هو تحديد القاموس للسريالية؟ سنعود إلى ذلك بعد قليل.
ومن لوحاته الوطنية التي شارك فيها في المعرض المشار إليه، واحدة بعنوان “الجذور”، وتمثل شجرة زيتون وجذورها، ويقول عنها الفنان إنها ترمز إلى كفاح الشعب الفلسطيني، لأنك إن قطعتها، فإن جذورها ستنبت من جديد. وأمام مثل هذه اللوحة لا يمكننا أن نتحدث عن غير الرمزية الخالصة.

وفي الحياة اليومية الواقعية
ورسم الربيق كثيراً من معالم تراث الحياة اليومية العربية (الحي بشكل خاص في الدرعية): الأثاث والأدوات، العمران والملابس..وأيضاً من مشاهد الحياة المتأرجحة ما بين الحقيقة والصورة الذهنية عن الحقيقة.
ففي لوحته “زوجة الفلاح” المستوحاة من عالم القرية نرى امراة تمشي متلحفة عباءتها، وتحمل قربة من جلد الماعز (عكة) تُستخدم عادة لحفظ السمن، وبجانبها طفلاها، وخلفها رجل يبدو كفيفــاً يتوكأ على عصاه، وكأنه يذكّر الأرض بوجوده. وخلف الرجل تبدو القرية شديدة الوضوح والدقة ببيوتها وبالمسجد الذي يتوسطها. وثمة عاطفة غامضة المصدر في هذه اللوحة. أهي في الأرض الجرداء التي تترك النظر يتركز على هذه الشخصيات الطيبة والقيم التي تُعبر عنها؟ أم هو في طابع السكينة التي تشي به.. لكلٍّ أن يقرأ ما يشاء.
ففي خضم تنوع الموضوعات، نجد المرأة حاضرة في أعمال كثيرة، بوجوهها الجميلة المعبّرة، تارة عن هويتها وانتمائها، وتارة عن كونها فكرة إنسانية قد ترقى إلى حد الأسطورة. فواحدة من أشهر لوحات الفنان كانت بعنوان “موناليزا السعودية” التي من دون أي تنطع للمقارنة مع اللوحة الإيطالية الشهيرة، عبّرت عن مفهوم محلي للجمال الإنساني من خلال صورة فتاة سعودية ذات عينين واسعتين، تعتمر غطاء رأس أبيض بكل ما لبياضه من دلالات أخلاقية. ونذكر أيضاً لوحة “زرقاء اليمامة” حيث المرأة الجميلة بعينيها الواسعتين الساحرتين هي بعدٌ ثقافي يحمل في ثناياه كثيراً من المعاني، ومثل هذه اللوحة لا توصل المتلقي إلى قراءة حاسمة، بل يبقى باب تأويلها مفتوحاً كلما نظر إليها.

أول ما يلفت الناظر لأعماله لا يقتصر على تنوُّع الموضوعات التي يتناولها بل أيضاً التنوُّع في الأساليب والتقنيات التي يرسم بها هذه الموضوعات. فكل لوحة عنده تتشكل وفق لحظة إبداعية مختلفة عن الأخرى باختلاف الخطاب الكامن في نفسه والذي يريد البوح به.

الرمزية القابلة لتعدد القراءات
تتعزَّز قابلية كثير من لوحات الربيق للقراءات المختلفة بفعل كثرة الرموز فيها. ولعل أبرز هذه الرموز هي “العيـون” (بالمعنى الحرفي). فنراها كبيرة في الوجوه، وبارزة في الخيول، وأحياناً منفصلة تحدّق في ما حولها في تركيــب شبـه سوريالي، وكأنهـا شاهد على هذا المشهد تارة، أو كأنها تتمناه تارة أخرى. وفي هذا الصدد يقول الرسام: “كان هاجسي دائماً أن أوجد صراعاً ما بين المتلقي ولوحاتي”.
يرى الربيق أن السريالية أو ما فوق الواقعية كانت بالنسبة إليه في بداياته فضاء واسعاً للخيال، يتيح للفنان أن يعبر عن الحالات المتأججة بداخله، مثل الخوف والرعب والأحلام المضطربة والمشحونة بالمشاعر الجياشة. ولكنها باتت عند فهد مساحة شاسعة لقصيدة شعرية يجتمع فيها الواقع بالخيال عن التعبير. فما هي العلاقة بين الشعر والرسم بالنسبة إليه؟

الرسام والشعر
صادق الربيق الشعراء والأدباء والنقاد. وكان قريباً من إبداعاتهم وعطاءاتهم، فكتب الشعر، ودوّن الملاحظة، ونثر الرأي بأسلوب حميم يقترب من البوح الوجداني. ولكنه رغم ذلك ينفي أن يُعدُّ نفسه شاعراً، كما يقول. ولكن كثيرين من معارفه يرون هذا النفي على أنه تواضع الفنان القادر.
يروي الرسام أن والده الشيخ ناصر الربيق، رحمة الله عليه، رغم أنه لم يكن يقرأ أو يكتب علم بأن ابنه يكتب الشعر والقصة القصيرة. وبحكمة من حوى الثقافة كلها، قال له: “انظر يا بني، الشعراء ألفين، واللي يرسمون ينعدّون على اليدين، فخلك مع اللي يرسمون واترك الشعر لأهله”.
غير أن من يعرفه حقاً يؤكد ما قاله هو عن نفسه، وهو أنه أراد من كتابة الشعر والأدب أن يكون متذوقاً له لا أن يكون شاعراً معتداً به. والجميل، كما قال، أنه أحياناً لم يكن يعرف ماذا يرسم، فكانت قراءاته في الشعر والقصة والرواية تولد لديه الأفكار للرسم، وتدفعه إلى التعبير بفرشاته على سطح اللوحة.

القصيدة تبث ألواناً
واللوحة تعزف ألحاناً

في معرضه الشخصي الذي أقامه قبل ست سنوات في الكويت، وكان بعنوان “القصيدة واللون”، والذي كان نتاج تجربة عمرها 40 سنة، تجلت العلاقة التي يتحدث عنها الربيق بين الشعر واللوحة التشكيلية كما يراها. وقد قال بشأنها آنذاك: إن الفنان يبحث دائماً عن الجديد على الساحة الثقافية التي هي ميدان الفن والشعر والأدب. وكل هذه الفنون تمثل واقعاً إبداعياً متكاملاً مع بعضه البعض” وتعززت للناظرين رؤية الفنان هذه في معرضه الأخير في الكويت أيضاً، الذي كان في يناير 2018م، ضمن فعاليات “مهرجان القرين الثقافي” الرابع والعشرين، وضم 85 لوحة عكست ثقافتـه الشعرية وولعه بالحروفية والقصيدة، فضلاً عن استخدامه للألوان التي تُظهر عشقه للبادية والصحراء، والتراث الذي شب في كنفه في الدرعية.


مقالات ذات صلة

يستطيع المتأمل في تجربة محمد الفرج بسهولة ملاحظة ملمح يتكرَّر في أعماله، وهو أن الفنان لا يتورَّع عن كشف الذهنية التي أوصلته إلى تنفيذ عمله الفني.

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]


رد واحد على “فهد الربيق..”

  • انت فخر لجميع الفنانين التشكيلين و مرجع يثرينا بشتى انواع المدارس التشكيلية
    انت المعلم و المشجع و الناصح و القدوة الصالحة لكل فنان نشأ بهذا الوطن الغالي بتراثة و حاضره و ماضيه
    فشكراً بحجم السماء نقدمها لك لعلها توفيك حقك


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *