ربَّما نكون في كبوة، وليس في حالة موت للأشكال الموسيقية العربية. والأسباب كثيرة ومعقدة، من بينها تعارض طول أغنية القرن العشرين الذي يخالف إيقاع الأجيال الجديدة، ومحتواها الذي فقد مصداقيته مع الأجيال نفسها، التي تغيرت نظرتها. وهناك أسباب تتعلق بالوسائل والقنوات المستحدثة التي فرضت طبيعتها على الأغنية الجديدة “الرقمية”، فهي لا تتجاوز ثلاث دقائق بأي حال، حتى تصبح صالحة للعرض بكافة المنصات، ويمنحها قصرها ميزة أن تعرض في فواصل البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ومرونة استخدامها كنغمة للهاتف، وكذلك تحميلها كإهداءات في مناسبات اجتماعية متنوعة. إنها إرادة التكنولوجيا وسوق العولمة وتوجهات رأس المال.
حال الأوبريت والمسرح الغنائي
انحسر أيضًا الأوبريت وبات يُقدّم على استحياء في مسارح الدولة أحيانًا، ويُنتج بميزانيات محدودة جدًا لا تسمح بالاستعانة بنجوم في جميع العناصر من تمثيل وديكور وسينوغرافيا وإضاءة بما يضمن الإبهار الذي يجتذب المتفرج. حتى عندما توفرت الفرصة والميزانية المفتوحة لإنتاج مسرح موسيقي مؤخرًا في مصر، كانت من نصيب موضوعات لا تخصنا على غرار عرض “شانيل” و”شارلي”. نذكر هنا منطلقات المسرح الشعري في بدايته، عندما قدّم أحمد شوقي للمسرح “مجنون ليلي” و”كليوباترا”، وما قدّمه بديع خيري من أزجال لمسرحية “العشرة الطيبة” وهي من تأليف محمد تيمور وألحان سيد درويش، وغير ذلك من أعمال لعل آخرها ما قدّمه المخرج سمير العصفوري في نهاية ثمانينيات القرن العشرين من أشعار بيرم التونسي وألحان علي سعد، وكان عرضًا ناجحًا. وفي فترة انتشار وباء كورونا، قرّرت هيئة المسرح المصرية إنتاج عروض قصيرة من فصل واحد من دون جمهور، وكان أغلبها موسيقي وموضوعها يتعلق بنجومنا القدامى أمثال سيد درويش وبليغ حمدي ومحمد عبدالمطلب وغيرهم، جرى تصويرها وبثها عبر قناة خصصت لذلك. لكنها لم تجد الرواج المناسب الذي يسمح باستمرارها. هل يمكن لهذا الواقع أن يستمر، واقع سيطرة أشكال موسيقية جديدة على الساحة العربية
تعلّمنا أن كل صرعة جديدة لها زهوتها؛ تنتشر سريعًا وتخفت بالسرعة نفسها، ننام في صخبها ونصحو على زوالها. ودائمًا هناك غناء يطاردك وغناء تبحث عنه وتسعى إليه. في الفن كل شيء وارد، تمامًا كما في عالم الموضة، صرعات تختفي حتى ننساها، ثم ما تلبث أن تعود وتطفو من جديد. ولا يقف الجديد مهما ذاع صيته على جثة القديم؛ لأن الحاضر والماضي متشابكان، قد تسود نغمة ويزدهر حضورها، غير أن بقاءها رهن بحركة المجتمع فكريًا ومعرفيًا واقتصاديًا.
طوال التاريخ الإنساني، تظهر منعطفات ومحطات حيث تعلو أصوات ويخفت غيرها. فالإنسان يحتاج دائمًا إلى التغيير وكسر الرتابة والاعتياد. حتى الطبيعة تفعل ذلك، تثور وتخمد، فيتبدّل ثابت، ويهتز يقين. وكما أن الاختراع هو ابن الحاجة، فكل ظاهرة موسيقية أنتجتها حاجة ملحة وضاغطة. الأكابيلا مثلًا، وهي الغناء من دون آلات موسيقية، ظاهرة ولدت في السجون، إذ لم يجد السجناء آلة فوظّفوا أصواتهم بديلًا عنها، واستطاعوا أن يخلقوا جملة موسيقية كاملة من مجموعة أصوات تتداخل بتراتبية دقيقة وتغزل بتبايناتها الهارموني والكونتر بيونت والإيقاع. كما نشأ الراب تحت وطأة القهر والتمييز العنصري والرغبة في التعبير بحرية عن مشاكل العمال والطلبة والأبناء، حيث كانت هناك رغبة عارمة لكسر جميع أشكال السلطة. وكانت هناك على الجانب الآخر، موجة موازية لأغاني المهرجانات، يسمّيها البعض “الراب الشعبي”. ولتفسير هذه الظواهر يجب ربطها بالمناخ العام وانعكاسات تردي التعليم والتسطيح الإعلامي على الذائقة، من دون أن ننكر الرسائل الخاصة في الغناء الشعبي، من الانتصار للمهزومين والمقهورين والشكوى من سوء البخت ومن أصدقاء السوء وغدر الأصحاب، ولا مانع من ذكر الشهامة وأولاد الأصول.
“الدنيا تغيرت وعلى الغناء أن يواكبها”
يذكر الباحث ياسر ثابت في كتابه” مقامات الروح.. دليل إلى الأغنية العربية” أن في مصر وقبل 1919م، كانت هناك ردة فنية شبيهة إلى حد بعيد بما نحن فيه الآن، حالة من العدمية واللامبالاة والاستسلام للمتاح. ويحكى عبدالوهاب أن أمير الشعراء أحمد شوقي، قال له: “المجتمع تغير يا محمد، بالأمس كنت تغني في الأفراح والحفلات بمجالس الرجال، بينما الراقصة تحيي السهرة للسيدات. الدنيا تطورت، والآن تغني في حفلات مختلطة للرجال والنساء في مجلس واحد، فلا بدَّ أن يتخلص الغناء من التلميحات الجنسية، ولا بدَّ أن يكون الغناء ألطف وأرق، وأن يتخلص من التكرار والترديد الذي يدعو المستمعين للصخب. في المجتمع الجديد سيكون مجلس الغناء أكثر احترامًا، وأولى بالغناء أن يمس الوجدان والذوق برقة ولطف. أهم شيء أمامك الآن هو الارتفاع بمستوى الكلمات وترقية أساليب الأداء”.
المسألة تتوقف على الإتاحة
وحكى الملحن أحمد الحجار عن لقاء جمعه بفؤاد حداد، وحدث أن أحمد أسمعه بعض ألحانه التي أعجب بها حداد، لكنه قال له: “الخوف على الأغنية من الموهوبين أمثالك، لديكم القدرة على عمل شربات من الفسيخ”. غير أن هناك تيارًا مغايرًا يزحف ببطء، يتمثل في الفرق المستقلة ويدعمه بعض رموز جيل الوسط. هذا الجيل هو الذي أحدث نقلة نوعية في الأغنية المصرية، مثل مدحت صالح الذي تشهد حفلاته حضورًا متنوعًا يغلب عليه الشباب.
وهناك علي الحجار أيضا ومشروعه “100 سنة غنا”، الذي أطلقه مطلع عام 2022م، بهدف إعادة تراث الغناء إلى الواجهة. وقد حضرنا حفلته الأولى التي خصصها لمحمد عبدالوهاب، وكان الشباب حاضرًا.وهناك أيضًا الفنان المغربي أمين بودشار وفرقته، الذي يركز على الموسيقى الطربية ويجعل جمهوره يشاركه الغناء.
وعند عرض مسلسل “أم كلثوم” بدأ كثير من المراهقين في البحث عن أغانٍ دسمة مثل “رق الحبيب” و”غلبت أصالح”. كما عرف البعض عن رامي ومأمون الشناوي وبيرم التونسي ومرسي جميل عزيز والقصبجي والسنباطي وبليغ والشيخ زكريا أحمد، وبدؤوا في قراءة سيرهم الذاتية، ومن ثَمَّ الاستماع إلى أعمالهم. المسألة تتوقف على الإتاحة، وألا تُغلق القنوات أمام الشباب للاختيار، والحس في النهاية يختار الأجمل.
المشهد الغنائي اللبناني يتميز بثرائه وتنوعه، إذ هناك دائمًا تجاور بين كثير من الأشكال الغنائية الناجحة. فتجد من ناحية، فيروز وجوليا بطرس وزياد رحباني، وتجد من ناحية أخرى نانسي وإليسا وعلي الديك ومجموعة مستقلة من المطربين والفرق التي تقدّم الراب والتراب والجاز والكلاسيك، في مناخ يتشابه إلى حد بعيد وسبعينيات القاهرة، حيث كان عبدالحليم وعبدالوهاب وأم كلثوم بجوار عدوية وصلاح الصغير وكتكوت الأمير، من دون أن يُصادَر فنٌّ أو يُهمَّش نوع من المشهد، وهذا مناخ صحي جدًا ودليل على الثراء.
إن الفن الجيد لا يندثر، هو مثل الحضارات القديمة يمرض ولا يموت. تراجيديات شكسبير لا تزال تُقدّم بمعالجات جديدة عبر وسائط متعددة وبجميع اللغات. وبحسب مراجعة جمعية المؤلفين والملحنين المصرية، فإن أكثر الأغنيات تحصيلًا حتى الآن هي لأم كلثوم وعبدالحليم وعبدالوهاب؛ إذ ما زال هناك جمهور عريض للموسيقى الكلاسيكية والجاز والبلوز والريغي. موسيقانا بخير وأغنياتنا حاضرة، وتشهد تطورًا عظيمًا في جميع عناصرها باستثناء الكلمات، وهي الأكثر تعبيرًا عن المناخ الراهن.
اترك تعليقاً