في قصة تأسيس المملكة، تشمخ الدرعيّة بصفتها عاصمة الدولة السعودية الأولى. فهذه الواحة التي تحتل موقعًا إستراتيجيًا على مجرى وادي حنيفة القديم في نجد، باتت معروفة عالميًا بأنها جوهرة التاج في تاريخ الجزيرة العربية ومهد المملكة العربية السعودية الحديثة، لا سيما بعد أن أصبحت المدينة الطينية مسجّلة على قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي.
ولمناسبة يوم التأسيس الذي تحتفي به المملكة في الثاني والعشرين من شهر فبراير، وهو تاريخ تولّي الإمام محمد بن سعود حكم الدولة السعودية الأولى في عام 1139هـ، الموافق 1727م، تعود القافلة إلى الدرعيّة لتستطلع بعض صفحات تاريخها، وصمودها في وجه عوامل الزمن، وصولًا إلى ما تشهده اليوم في مجال تحوّلها إلى قبلة عالمية للسياحة الثقافية.
لم تنمُ الدرعيّة على شكل مدينة واحدة، بل تطورت من خلال عدة مجتمعات محصّنة كانت تنتشر على مدى ثمانية كيلومترات على ضفتي وادي حنيفة. وهذا الوادي الذي يبلغ طوله 120 كيلومترًا، ويجري باتجاه الجنوب والجنوب الشرقي، مارًا بالدرعيّة والرياض قبل أن يغور تحت الرمال عند تخوم الربع الخالي، هو أكبر مجرى نهري في وسط الجزيرة العربية، يصبّ فيه نحو أربعين رافدًا. وتنحدر هذه الروافد من الهضبة الجيرية البالغ ارتفاعها 600 متر، والتي تشكل الامتداد الشرقي لسلسلة جبال طويق.
الوادي الذي احتضن الدرعيّة
وفّر وادي حنيفة مستلزمات التطور والازدهار لعاصمة الواحة: الماء والتربة والرمال والحصى والحجارة وغير ذلك من لوازم الزراعة والبناء والتحصينات. وثمة دلائل أثرية على أن البشر استوطنوا هذا المكان قبل عشرة آلاف سنة، وهي الفترة المعروفة باسم “ثورة العصر الحجري الحديث”.
بالانتقال إلى أحوال هذه الواحة في تاريخ أقرب إلينا من ذلك، قاد الإمام محمد بن سعود، تطور الدرعية السريع بصفتها العاصمة السياسية والإدارية والتجارية والقاعدة العسكرية للدولة السعودية الأولى. واستمر حكمه للدولة نحو أربعة عقود من الزمن (38 سنة)، حتى وفاته في عام 1179هـ (1765م). وتعاقب ثلاثة من سلالته على حكم الدولة لنحو خمسين سنة أخرى. وعندما كانت هذه الدولة في ذروتها، استطاعت فرض سيطرتها على معظم أرجاء شبه الجزيرة العربية، حاملةً معها الأمن والاستقرار والرخاء إلى مناطق لطالما كانت تعاني الاضطرابات سابقًا.
البناء بمواد محلية ومستدامة.. طرازٌ خاص تفرَّدت به
نمت الدرعية بشكل مدهش، وأصبحت مركزًا لفن عمارة صحراوي متميّز في حي الطُريف الذي شكّل القلعة الدفاعية الرئيسة عن العاصمة بإطلالته على وادي حنيفة من أعلى التلة المنحدرة بشكل حاد صوب مجراه.
أعطت الجيولوجيا للمكان شكله وطبيعته، وأتاحت التطور الكبير في الدرعيّة التي عُمِّرت باستخدام المواد المستدامة المحلية، وبالاعتماد على مهارات عريقة. فالصخور التي تحيط بالمدينة تعود إلى عصر الديناصورات قبل 160 مليون سنة؛ أي العصر المعروف باسم “الجوراسي الأعلى”. وقبل ذلك، كانت المنطقة المغمورة قد شهدت ترسبات بحرية أرست لاحقًا طبقة من الصخور الجيرية. وإن كان المطر في المنطقة موسميًا، فإن توفر المياه في خزانات جوفية ضحلة، ساعد واحات مزدهرة مثل الدرعية على أن تتطور في وادي حنيفة. فإضافة إلى الحاجة إليه للزراعة والحياة اليومية، يُعتبر الماء مكوّنًا أساسيًا في صناعة الطوب الذي كان بدوره من المكوّنات الطبيعية الرئيسة اللازمة لبناء البلدات المحصّنة بأسوار دفاعية منيعة.
الأمر نفسه ينطبق على وفرة التراب والحجر الجيري اللذين وفّرا للدرعية مواد بناء أساسية. وكما كان الحال في معظم البلدات النجدية، فإن المكوّن الأول في البناء كان الطوب المجفف بالشمس. فالماء، مضافًا إلى الطين والغرين الموجود على امتداد الوادي، كانا عاملين رئيسين للتطوير الحضري في الدرعية، كما كانا سابقًا عند بداية الزراعة في الواحة.
لقد توفّر الحجر الجيري في الطبقة المكشوفة من المنحدرات صوب الوادي، واستُعمل في البناء على نطاق واسع؛ إذ كان من السهل استخراجه والتعامل معه، ما جعله مادة بناء ممتازة. فاستُخدم هذا الحجر في إرساء الأساسات للأبنية، وبناء الأقسام السُفلى من الجدران، وبناء الأسوار بشكل كامل، إضافة إلى تدعيم الأعمدة في الأبنية الكبيرة مثل المساجد والقصور.
وباستخدام خلطة من الموارد الطبيعية المحلية ومزجها بالماء، ثم تجفيفها بالشمس، كان السكان يصنّعون الطوب ليستخدمه البناؤون في تشييد أبنية أصغر حجمًا. كما أن الخشب كان أيضًا من المكوّنات المهمة. فقد استخدم النجّارون شجر الأثل المتوفر محليًا، كما استخدموا جذوع النخيل في بناء الأسقف والعوارض الحاملة. فكلتا الشجرتين تنمو حتى ارتفاع يكفي لسد الحاجة في بناء أسقف الأبنية المتوسطة والمساكن الصغيرة، حيث لا حاجة إلى أعمدة حجرية لحمل الأسقف كما هو الحال في الأبنية الأكبر مثل المساجد والقصور. وإلى جانب ذلك، استخدم النجَّارون الخشب لصناعة الأبواب والنوافذ وإطاراتها، إضافة إلى مسارب علوية لتصريف مياه الأمطار والحؤول دون جريانه على الجدران الطينية.
ويتوفر الجبس بشكل طبيعي بجوار الصخور الجيرية. فكان يُجمع ويُشوى ويُنقع بالماء، لصناعة الجص الأبيض المستخدم في إضفاء لمسة جمالية على أبنية الدرعية، بتزيين الجدران والعوارض الحاملة الصغيرة وإطارات النوافذ. كما أُضيف الجص إلى الملاط المُستخدم بين الأقراص الحجرية عند وضعها بعضها فوق بعض لتشكيل الأعمدة الحاملة.
عندما كانت الدولة السعودية الأولى في ذروتها، لم تكن الدرعيّة تشبه أية مدينة نجدية أخرى، رغم أن تقنيات البناء والأشكال المعمارية كانت هي نفسها عبر المنطقة بأسرها. فبموازاة الالتزام بالطراز النجدي، أدت الضخامة وتعقيدات الأشكال المعمارية في الأبنية الرئيسة، إلى تميّز ما في الدرعية عمَّا في غيرها من المراكز الحضرية الأخرى. وفي الأمر دلالة مرئية على تعاظم قوة الدولة السعودية وثرائها ونفوذها عبر أرجاء الجزيرة العربية؛ إذ إن كثرة القصور العظيمة والمساكن الكبيرة، إضافة إلى المساجد والأبنية العامة، وطبعًا الأسوار الدفاعية الضخمة وأبراجها المهيبة، جعلت الدرعية فريدة من نوعها. وكانت هذه الأبنية التي لا تزال تشهد على مهارات بنّائيها، تتطلب عناية دائمة وإصلاحات وصيانة، واستمرت في توفير الحماية والعيش الرغيد لساكنيها إلى أن ظهر تهديد خارجي. ففي عام 1818م، حاصرت الدرعيّة قوةٌ عثمانية غازية، ثم اجتاحتها. وهذا ما أدى إلى إنهاء الدولة السعودية الأولى بشكل مأساوي، وكذلك المكانة العظمى التي كانت تحتلها عاصمتها الدرعيّة، واستشهاد الإمام عبدالله بن سعود في إسطنبول في وقت لاحق من تلك السنة.
حوّل الغزو معظم ما في الدرعيّة إلى خرائب، وبقايا القصور الكبيرة والمساجد والمساكن التي نجت من الحصار، غارت في الظل بانتقال عاصمة الدولة السعودية الثانية الوليدة إلى الرياض.
نهضتها الحديثة ومكانتها العالمية الجديدة
في سبعينيات القرن الماضي، ظهر اهتمام جدي بتجديد حي الطُريف في الدرعية، قاده، ولا يزال يقوده، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وكان آنذاك أمير منطقة الرياض. وفي عام 1998م، صدرت الموافقة السامية على برنامج تطوير الدرعيّة التاريخية، الذي ركّز بشكل أساس على ترميم حي الطُريف، بما في ذلك تثبيت الأطلال الباقية كمرحلة من برنامج رئيس يهدف إلى تحويل العاصمة السابقة إلى متحف للتراث الحي.
وأثمر هذا الجهد. ففي عام 2010م، أدرجت منظمة اليونسكو حي الطُريف على قائمة مواقع التراث العالمي، وهو ثاني المواقع في المملكة التي أُدرجت على هذه القائمة بعد مدائن صالح. ومثّل ذلك اعترافًا بالبُعد العالمي للعاصمة القديمة بوصفها مركزًا بارزًا لطراز العمارة النجدية بالطين، والأهمية العالمية لتراث الدرعيّة وتاريخها، ومهارة الجهود التي بُذلت للحفاظ على العاصمة القديمة باستخدام المواد التقليدية، وتطويرها برفق يثبّت نسيجها الأصلي ويحافظ عليه.
في عام 2017م، تلقى الاهتمام بالدرعيّة دفعًا كبيرًا إلى الأمام، وذلك عندما أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، مرسومًا بإنشاء هيئة تطوير بوابة الدرعيّة بإشراف صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وفي إطار تحقيق أهداف رؤية السعودية 2030، جرى تكليف هذه الهيئة بتطوير الدرعيّة، هذه الأيقونة التأسيسية والوطنية، إلى موقع ثقافي جذّاب للسعوديين وللملايين من الزوّار والسيّاح الأجانب.
الطُريف اليوم
فوق خط الأفق المشجر في الطُريف، يعلو قصر سلوى. فبارتفاعه البالغ 22 مترًا، يكون هذا المجمع المبني بالطوب أعلى مبنى في الطُريف وصل إلينا، كما أنه أعلى من غيره من الأبراج الطينية الموجودة في المنطقة.
بدأ إنشاء قصر سلوى على عهد الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، الحاكم الثاني للدولة السعودية الأولى. ولهذا القصر مخطط بسيط وفق طراز العمارة النجدية في القرن الثامن عشر الميلادي. وهو يحتل موقعًا إستراتيجيًا بإشرافه من الأعلى على وادي حنيفة، وفي جدرانه بعض الفتحات الصغيرة للمراقبة والدفاع. وخلال العقدين التاليين على بنائه، تولّى الإمامان سعود بن عبدالعزيز وعبدالله بن سعود توسعته؛ حتى بات يضم سبع وحدات منفصلة بعضها عن بعض.
تعرّض قصر سلوى الذي تبلغ مساحة أبنيته مجتمعة نحو ألف متر مربع، لأضرار بالغة خلال الحصار العثماني في عام 1818م. والحفاظ عليه وتثبيته باستخدام مواد البناء التقليدية، شكّل تحديًا كبيرًا. وبعد ترميمه خلال السنوات القليلة الماضية، بات يضم أربعة معارض تروي تاريخ الدرعيّة وحكّامها، واستمرارية الدولة السعودية بعد انتقال عاصمتها إلى الرياض. والتزامًا بإرشادات اليونسكو المتعلقة بالحفاظ على مواقع التراث العالمي، جرى تصميم المعارض الحديثة وتركيبها بشكل يجعلها تطفو ضمن النسيج الأصلي للقصر الذي اكتمل تثبيته والحفاظ عليه. ويمكن للزائر أن يشاهد من خلال الأرضيات الزجاجية والواجهات، أعمدة القصر الأصلية وجدرانه، وحتى أساساته.
وبالاعتماد على تصميم معماري غير بارز ومقلّ ويستخدم في الوقت نفسه أحدث تقنيات البناء، أُنشئ ممشى قصر سلوى الذي يتعرج بين أبنية القصر السبعة، ويبلغ طوله نحو نصف كيلومتر. وهذا الممشى يأخذ الزائر في جولة عُلوية عبر الزمن، ويتيح له إطلالات عديدة على الأطلال والأبنية الضخمة التي جرى الحفاظ عليها بعناية شديدة، والأساسات التي تكشفت عنها الحفريات الأثرية.
وفي إحدى الإطلالات التي يتيحها الممشى، يظهر موقع مسجد الطريف المجاور لقصر سلوى، الذي كان أكبر الجوامع في الدرعيّة؛ إذ أظهرت الحفريات الأثرية أعمدة عديدة لقاعة صلاة يُقدّر أنها كانت تسع ثلاثة آلاف مصلٍ عندما كانت العاصمة في ذروتها.
وعلى الجهة الأخرى من قصر سلوى، يوجد مبنى بارز آخر، ألا وهو بيت المال، مقر خزينة الدولة السعودية الأولى، حيث كان يُكتنز داخل جدرانه الضخمة عائدات الزكاة والتجارة وغير ذلك من الموارد. ومنه يُصار إلى إدارتها وصرفها. ويقع بيت المال هذا في شمال شرق الطُريف بجوار قصر الإمام الحاكم عند حافة الوادي حيث كانت تُقام السوق؛ مما يسهّل تواصله مع قوافل التجار.
يخلو بيت المال اليوم مما كان يكتنزه قديمًا، ولكن ثروة جديدة حلت محل الثروة القديمة ضمن جدرانه المحفوظة جيدًا: معرض التجارة والمال. فهنا يمكن للزائر أن يطلع على كيفية إدارة الشؤون المالية والأعمال في الدولة السعودية الأولى، وأن يشاهد العملات القديمة وأدوات التجارة والحُلي وخرائط طرق القوافل التجارية.
ومن نقاط الجذب التفاعلية والتربوية الأخرى في الطُريف، هناك المعرض الحربي، ومعرض الخيل العربي، وقاعات لما كانت عليه الحياة اليومية والحياة الاجتماعية والعمارة التقليدية. ومن المعالم التي تستحق المشاهدة والتأمل، لا بدّ من ذكر السور، وبرج فيصل، والبرج الغربي، وقصر الإمام عبدالله بن سعود، والمنطقة التربوية، وقصر الضيافة، وحمّام الطُريف المجاور له.
أمَّا مركز استقبال الزوّار، فقد بُني بالحجر الجيري، وصُمّم بشكل مقوّس ذي نوافذ زجاجية ترتفع من الأرض حتى السقف وتطل على قصر سلوى وبيت المال. وإضافة إلى الإطلالات على ما في الخارج، يحتوي المركز على جدار لعرض الوسائط الإعلامية، ونموذج مصغر من البرونز بالغ الدقة لحي الطُريف، يتيح للزائر معرفة كل ما فيه من قصور وأبنية عامة ومساكن وطرق وأبراج معارض، والسور الدفاعي الذي يلف كل ذلك.
عمل على مشروع الطُريف أكثر من ألف شخص ما بين اختصاصي في الترميم ومصمم وعامل ماهر، ما جعله أكبر مشروع ترميم لمدينة طينية في العالم. فقد جرى تصنيع ثلاثة ملايين طوبة وفق الطريقة التقليدية، واستخدم 35 ألف طن من خشب الأثل لترميم الأسقف والشبابيك ومنافذ المياه. كما تولّى المهندسون تأهيل ستة كيلومترات من الطرق، وخمسة كيلومترات من الممرات، إضافة إلى مدّ 100 كيلومتر من الأنابيب والكابلات اللازمة للمرافق المختلفة.
مستقبل يستعيد أُبَّهة الماضي
خارج الأسوار التي تلف حي الطُريف، ثمة دلائل على حصول تطوير جديد بالكامل، وبمقاييس عملاقة فعلًا، يستلهم أبهة الطُريف التاريخية. فعند انتهاء تطوير بوابة الدرعية، سيكون هناك تجمّع حضري متعدد الأغراض، ويتضمن متاحف وفنادق ومساكن ومتاجر ومرافق ترفيهية عديدة، تخدمها أربعة من خطوط قطار الرياض، إضافة إلى حافلات النقل العام. وإعرابًا عن التقدير لحكمة مؤسسي الدرعيّة، سيحاكي هذا التطوير الجديد الأشكال الحضرية التقليدية التي أوجدها هؤلاء والمحفوظة في الطُريف، والتي يُحتفى بها في يوم التأسيس.
وفي عام 2022م، أسس صندوق الاستثمارات العامة شركة الدرعية لتطوير هذا الموقع التاريخي، وتحويله إلى وجهة عالمية تحتفي بالتراث السعودي، وتتيح للزوار استكشاف تاريخ المملكة في إطاره النجدي الأصيل. وبوجود حي الطُريف المحفوظ على قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي في قلب المشروع، تصبو الشركة إلى تحويل الدرعيّة إلى واحد من أهم المواقع التراثية والوجهات الثقافية في العالم.
اترك تعليقاً