يعكس التطبيق المتكامل لأنظمة التنقل ذاتي القيادة مدى التقدم الذي وصل إليه أيُّ بلدٍ من البلدان من جوانبه كافة. إذ تتطلب هذه الأنظمة، قبل الشروع في تطبيقها، بنية علمية وتكنولوجية وثقافية وفنية راسخة. كما تتطلب العديد من الخبرات المحلية القادرة على ابتكار تطبيقات تستجيب لخصوصية المكان، والمشاركة الفعلية في الجهد البحثي والابتكاري الجاري على الصعيد العالمي في الوقت نفسه. فلم يعد ممكنًا في هذا العصر استيراد التكنولوجيا الحديثة والاستفادة منها من دون رؤية شاملة للمجتمع والمستقبل، شبيهة برؤية 2030 التي أطلقتها المملكة العربية السعودية عام 2016م، والتي تهدف إلى وضع المملكة في مقدمة دول العالم. وعلى هذا الأساس، نشر المنتدى الاقتصادي العالمي مقالةً على موقعه في 16 أكتوبر 2023م، عنوانها: “التنقل ذاتي القيادة: ثلاثة دروسٍ في النجاح من المملكة العربية السعودية”.
تُعتبر أنظمة التنقل ذاتي القيادة عنصرًا رئيسًا من عناصر المدن الذكية والمرافق العامة الذكية والمواقع السياحية الذكية، وعنصرًا ضروريًا في الثورة الصناعية الرابعة. وهي تشمل المركبات الخاصة ومركبات النقل العامة، ومركبات نقل البضائع في المرافق العامة والخاصة كالمطارات والمرافئ والمصانع، ومركبات الكبسولة في المواقع السياحية، والملاحة البحرية والجوية، ومن ضمنها التاكسي الجوي. وتعتمد هذه الأنظمة على عشرات التقنيات الدقيقة والمعقدة والمتطورة والمتفاعلة فيما بينها وبين عشرات المراكز الأرضية والأقمار الصناعية، ونظام التموضع العالمي وغيرها.
مستويات القيادة الذاتية
أصدرت “جمعية مهندسي السيارات العالمية” وثيقة حديثة تصنّف مستويات القيادة الذاتية للمركبات إلى ستة مستويات، وذلك على النحو التالي:
ويمكن استخدام تعريف المستويات هذه، إلى جانب المصطلحات والتعريفات الداعمة الإضافية، في وصف النطاق الكامل لميزات أتمتة القيادة المجهزة بالمركبات بطريقة متسقة ومتماسكة وظيفيًا.
الانتشار حول العالم
سمحت خمس ولايات أمريكية، ومنها “واشنطن” العاصمة، باختبار المركبات المستقلة ذاتية القيادة على الطرقات العامة. وحاليًا، تعمل هذه المركبات الأكثر تقدمًا عند المستوى 2 (التحكم في السرعة والحفاظ على المسار). ورغم أن رواد هذه الصناعة حققوا تقنيات المستوى 4 (قيادة ذاتية كاملة داخل مناطق الخدمة المحدودة)، فإن السلطات المعنية سمحت بالتنقل فقط عبر مسارات وظروف محددة مسبقًا، مثل: الطرق السريعة والنهار الساطع والطقس الجيد.
وفي الاتحاد الأوروبي، بدأت التجارب على هذا النوع من المركبات في المملكة المتحدة وفرنسا، كما سمحت ألمانيا وهولندا وإسبانيا باختبار سيارات آلية في الشوارع العامة. ويُسمح حاليًا بنشر المركبات ذاتية القيادة من المستوى 2. ويعمل الاتحاد الأوروبي حاليًا على السماح ببيع سيارات المستوى 3. ويسعى في أن يكون أول سوق في العالم تسمح قانونًا ببيع المركبات المستقلة من المستوى 4.
وستُنتج الصين مركبات المستوى 3 على نطاق واسع، وستُطلق مركبات المستوى 4 في السوق بحلول عام 2025م، وقد حصلت شركة “إيهانج” على الضوء الأخضر لاستخدام التاكسي الجوي. ووافقت اليابان على “القيادة الذاتية” من المستوى 3 في يوليو 2021م. وفي كوريا الجنوبية، أصبحت المركبات ذاتية القيادة من المستوى 3 على الطرقات منذ العام الفائت 2023م.
في المملكة العربية السعودية
بناء على رؤية 2030، أنشأت المملكة “الإستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي”، التي ترتكز على ستة أبعاد رئيسة.
وتهدف الإستراتيجية إلى تحقيق التحول الرقمي الوطني، وترسيخ دور البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، وتعزيز مساهمة قطاع تقنية المعلومات والاتصالات في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة.
وتُظهر تجربة المملكة أن نجاح التبني الآمن والمسؤول للتنقل ذاتي القيادة، يعتمد على مزيج من ثلاثة عوامل:
1– تمكين الابتكار بأمان وشفافية
يتولى “مركز الثورة الصناعية الرابعة” في المملكة بالتعاون بين “المنتدى الاقتصادي العالمي” ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية (كاكست)، تطوير بروتوكولات عملية وقابلة للتكيف وتنفيذها لحوكمة التقنيات الناشئة. وتوفر البيئة التجريبية التنظيمية استثناءات من اللوائح الحالية لضمان سلامة المركبات ذاتية القيادة، وتقليل العقبات التي تحول دون اعتماد النقل المستقل.
2– تعزيز التعاون بين الوكالات
يُعد التعاون بين المنظمات الحكومية والخاصة والمحلية والدولية، وكذلك المؤسسات البحثية، أمرًا حيويًا لتقدم التنقل ذاتي القيادة وتطويره. مثلًا، تقود “الهيئة العامة للنقل” في المملكة ولجنة “مستقبل التنقل” على المستوى الوطني، برئاسة نائب وزير “النقل والخدمات اللوجستية”، مجهودات تهدف إلى مواءمة الإستراتيجيات ومبادرات ومشاريع أصحاب المصلحة، ووضع خطة رئيسة وطنية وحوافز لمستقبل التنقل المستقل. ويتعاون “مركز الثورة الصناعية الرابعة” في المملكة مع العديد من المنظمات، ومنها: الهيئة العامة للنقل السعودية، ووزارة النقل والخدمات اللوجستية، وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية “كاوست”، والهيئة الملكية للعلا؛ لضمان اتباع نهج موحد للتنقل ذاتي القيادة، وتنظيم هذا التنقل واختبار صحته وسلامته والتحقق منه. وتعزّز دعم هذا الجهد التعاوني بمذكرة تفاهم موقعة بين الأطراف المذكورة في 9 أكتوبر 2023م. وستشارك هذه المنظمات في ورشة عمل مقبلة بقيادة “مركز الثورة الصناعية الرابعة”، بهدف إنشاء سياسات مسؤولة للأنظمة ذاتية القيادة في البلاد، التي تغطي التنقل الأرضي والجوي.
تُظهر تجربة المملكة أن نجاح التبني الآمن والمسؤول للتنقل ذاتي القيادة، يعتمد على مزيج من ثلاثة عوامل:
تمكين الابتكار بأمان وشفافية، وتعزيز التعاون
بين الوكالات، والتعلّّم متعدد الوسائط.
3– التعلّم متعدد الوسائط
تتكوّن محفظة التنقل ذاتي القيادة في “مركز الثورة الصناعية الرابعة” السعودي من مسارين رئيسين:
• المركبات المستقلة.
• الطائرات المستقلة ذات الرفع الثقيل.
وفي حين أن هذه الأساليب لها خصائص ومتطلبات فريدة من نوعها، إلا أن هناك حاجة لإطار متماسك. إضافة إلى ذلك، فإن “الهيئة العامة للنقل”، في سعيها لتحقيق التبني الآمن والمسؤول للتقانات المستقلة، تشمل أيضًا التنقل البحري المستقل. ويتناول “المجلس العالمي لمستقبل التنقل المستقل” مختلف الأساليب، وأفضل الممارسات وأوجه التآزر فيما بينها.
ومن أمثلة مشاريع النقل المستقل في المملكة، التي تشير إلى التزام قوي بالتنقل المستقل في المملكة، لتحقيق أهداف 2030، الآتي:
مشاريع نيوم
تسعى خطة نيوم المعروفة بـ “مستقبل التنقل” إلى تغيير طريقة تواصلنا وتنقلنا، وإحداث ثورة في النقل من خلال تحويله إلى تجربة مستدامة ومشتركة وسلسة في الجو والبر والبحر. وذلك عبر “بناء منظومة آمنة للتنقل تتصل أجزاؤها وتُستدام عناصرها، وتربط نيوم بالشبكات المحلية والعالمية”. كما تهدف إلى إعادة تعريف العلاقة بين التقنية والإنسان والطبيعة؛ لتصبح منظومة التنقل متكاملة مع جميع تفاصيل الحياة.
ومن أمثلة التعاون بين الشبكات المختلفة، أعلنت نيوم وشركة “فولوكوبتر” الرائدة في مجال التنقل الجوي الحضري، عن الانتهاء بنجاح من سلسلة “التاكسي الجوي” التجريبي في يونيو 2023م. وقال الرئيس التنفيذي لنيوم، المهندس نظمي النصر، تعليقًا على هذا الحدث المهم: “إن الرحلة التجريبية الناجحة لمركبة فولوكوبتر للتنقل العمودي الكهربائي، تعكس الإنجاز الإبداعي والابتكاري لنيوم لخلق قطاع تنقل مستدام ومتعدد الوسائط، كما أنها مثال حي ونموذجي على دورنا كمسرّع عالمي وحاضنة للحلول المبتكرة للتحديات الأكثر إلحاحًا في العالم”.
هذه المشاريع هي من أبرز استخدامات التنقل ذاتي القيادة. وستخدم أنظمة النقل الجديدة الركاب والبضائع، وقريبًا ستشمل الاستخدامات الطائرات ذاتية القيادة، و “روبوتاكسي”.
حديقة الملك سلمان
ويوجد في حديقة الملك سلمان العامة في الرياض، نظام نقل مستدام يحتوي على خمس
محطات مترو جديدة و10 محطات نقل سريع بالحافلات. ويلحظ مخطط “الحلقة الحضرية” الداخلية للمتنزه ممشى دائريًا، سيلبي احتياجات وسائل النقل العام ذاتي القيادة. ومن المعروف أن هذه الحديقة، التي دُشنت في عام 2019م، وتُقام على مساحة 16.6 كيلومتر مربع، لتكون أكبر حدائق المدن في العالم.
في العُلا
كجزء من التزامها بتطوير خيارات نقل عام حديثة ومريحة ومستدامة، سيوفر مخطط “مركبات الكبسولة ذاتية القيادة” الذكية التابع للهيئة الملكية لمحافظة العُلا للركاب، وصولًا سريعًا وسهلًا إلى مدينة العُلا القديمة. ومع إطلاق خدمة هذه المركبات الصغيرة، يستطيع المرء استكشاف مستقبل التنقل المستدام الخالي من الانبعاثات؛ إذ إنها تعمل بالطاقة الكهربائية فقط. كما يستطيع التمتع برابط سريع وسهل ومجاني إلى مدينة العُلا القديمة من موقف السيارات جنوبي المدينة القديمة.
تتوفر خدمة المركبات ذاتية القيادة هذه مجانًا للمقيمين والزوار على حد سواء. وتعمل من الساعة الرابعة مساءً حتى منتصف الليل يوميًا. ويمكن أن تحمل ما يصل إلى 22 شخصًا (8 مقاعد و14 وقوفًا) على طول طريق دائري، حيث يستغرق الأمر ثلاث دقائق فقط لقطع مسافة كيلومتر واحد؛ يستطيع المرء التمتع بالمناظر الجميلة ومشاهدة فيديو إعلامي عن الكبسولة.
وباستخدام أحدث تقنيات بطاريات السيارات الكهربائية، يمكن شحن الكبسولة بالكامل خلال 15 دقيقة فقط، مما يوفر طاقة كافية للسفر لمسافة 50 كيلومترًا.
بينما سيجري إدخال طرق جديدة إلى مناطق أخرى في العُلا، منها: دادان والحِجر والجديدة في وقت لاحق. توفر الكبسولة ذاتية القيادة المريحة للمقيمين والزوار، لمحة عن كيفية تركيز العُلا على التطوير طويل المدى للتنقل ذاتي القيادة المريح والمستدام. ومن المتوقع أن تشكل خدمة المركبة ذاتية القيادة، حجر الأساس لتغيير نمط الحياة اليومية في العُلا، كما قالت الهيئة الملكية.
جامعة كاوست
أدخلت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية “كاوست” في ديسمبر 2019م، الحافلات ذاتية القيادة إلى حرمها الجامعي؛ لتصبح رائدة في اعتماد المركبات ذاتية القيادة في المملكة العربية السعودية. وتنفيذ المشروع في حرم الجامعة يمكّن الطلاب والباحثين من العمل مع الشركات المتخصصة على تطوير التكنولوجيا الجديدة وإدخالها في بيئة خاضعة للرقابة وجمع بيانات الأداء، بما في ذلك أداء المركبات ومعدلات الاستخدام وتجربة المستخدمين.
وفي أوائل عام 2023م، عقدت “كاوست” اتفاقية تعاونية مع شركة “سير”، وهي أول علامة تجارية للسيارات الكهربائية في المملكة، لتطوير مجال التنقل الذكي، بما في ذلك تقنيات التنقل ذاتي القيادة. وستُمكن هذه الاتفاقية باحثي “كاوست” والخبراء الفنيين في شركة “سير” من العمل معًا والمشاركة في تطوير قطاع صناعة السيارات في المملكة؛ لتعزيز جهود التنويع الاقتصادي، وخلق فرص عمل جديدة، ودعم الشركات التقنية الوطنية الصغيرة والمتوسطة.
الفرص المتاحة
تتيح هذه الأنظمة فرصًا جديدة، من أهمها:
• تسهيل الوصول: لا سيما بالنسبة إلى كبار السن وذوي الإعاقة.
• السلامة: خفض حوادث التصادم والازدحام.
• التكلفة: تقليل تكلفة العمالة والوقود والتأمين. مثلًا، أضاع الأمريكيون 6.9 مليار ساعة بسبب ازدحام المرور، في حين ستتيح “القيادة الذاتية” والاتصالات بين المركبات كسب الوقت وخفض تكاليف الوقود.
• الوظائف: خلق وظائف ماهرة جديدة.
• الأمان: رغم أن الأتمتة الكاملة (المستوى الخامس) غائبة اليوم، فإنها ستكون ذات مزايا حسنة وكثيرة في المستقبل.
• الاقتصاد والاجتماع: أظهرت دراسة أن حوادث المركبات التقليدية كلّفت أمريكا 340 مليار دولار في عام 2019م. والذكاء الاصطناعي يقلل من هذه التكلفة بشكل كبير.
اقرأ القافلة: تقرير حول “المركبات المستقلة” من عدد يناير-فبراير 2020م.
اترك تعليقاً