مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو - يونيو 2023

علم الأمراض القديمة..

آفاق‭ ‬تكشف‭ ‬ألغاز‭ ‬التاريخ

د. حذيفة الخراط

علم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة “‬الباليوباثولوجيا” ‬علمٌ‭ ‬حديث‭ ‬النشأة‭ ‬نوعًا‭ ‬ما،‭ ‬ولم‭ ‬ينل‭ ‬بعد‭ ‬حظه‭ ‬الوافر‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬والتنقيب،‭ ‬فما‭ ‬زال‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬الارتقاء‭ ‬بشأن‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬الوليد،‭ ‬بغية‭ ‬قطف‭ ‬الثمار‭ ‬المرجوّة‭ ‬منه‭ ‬لمعرفة‭ ‬أدق‭ ‬بتاريخ‭ ‬العالم. ‬ويُتيح‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬لنا‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬جانب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬صحيح،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬عنصر‭ ‬التخمين‭ ‬والتوقعات‭ ‬التي‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬جانبت‭ ‬الصواب. ‬وقد‭ ‬قدّم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬معلومات‭ ‬ثرّة‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬إيضاح‭ ‬الحقائق‭ ‬التاريخية،‭ ‬وتمييز‭ ‬الحقيقي‭ ‬منها‭ ‬عن‭ ‬المزيف،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬غيّر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬الطبية‭ ‬الخاطئة،‭ ‬والمعتقدات‭ ‬والمعلومات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالأمراض‭ ‬القديمة‭.‬

خَبَر‭ ‬البشر‭ ‬الإصابة‭ ‬بالعلل‭ ‬والأسقام‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬الخليقة،‭ ‬ونشأ‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬مع‭ ‬علوم‭ ‬الطب‭ ‬والتمريض‭ ‬والصيدلة‭ ‬علاقة‭ ‬وثيقة‭ ‬وقديمة‭ ‬قِدَم‭ ‬التاريخ،‭ ‬فهي‭ ‬امتداد‭ ‬لحياته‭ ‬ووجوده‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬الأرض‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭ ‬المختلفة. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬اهتمامات‭ ‬الإنسان‭ ‬القديم‭) ‬والحديث‭ ‬أيضًا)‭ ‬أن‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬حفظ‭ ‬بدنه‭ ‬والارتقاء‭ ‬بصحته،‭ ‬وأن‭ ‬ينشد‭ ‬حياة‭ ‬بلا‭ ‬داء‭ ‬أو‭ ‬ألم،‭ ‬ما‭ ‬استطاع‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬سبيلًا‭.‬

وقد‭ ‬كانت‭ ‬سنة‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬الإنسان‭ ‬منذ‭ ‬بدايات‭ ‬الحياة‭ ‬أن‭ ‬تتعرّض‭ ‬أجسامنا‭ ‬إلى‭ ‬صنوف‭ ‬شتى‭ ‬من‭ ‬الأدواء‭ ‬والأمراض،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬البديهي‭ ‬أن‭ ‬تُشمّر‭ ‬البشرية‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬عن‭ ‬سواعدها‭ ‬للتنقيب‭ ‬عمّا‭ ‬في‭ ‬بواطن‭ ‬الأرض‭ ‬وزوايا‭ ‬البيئة،‭ ‬مستخدمين‭ ‬ما‭ ‬أتيح‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬معطيات‭ ‬وإمكانات،‭ ‬لعلهم‭ ‬يجدون‭ ‬فيها‭ ‬ضالتهم‭ ‬المنشودة،‭ ‬وهي‭ ‬الترياق‭ ‬الذي‭ ‬يعينهم‭ ‬على‭ ‬التداوي‭ ‬وعلى‭ ‬تخطي‭ ‬معاناتهم‭ ‬وآلامهم،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬نتاج‭ ‬ما‭ ‬اعترى‭ ‬أجسامهم‭ ‬من‭ ‬علل‭ ‬وأسقام‭.‬

وتطوّرت‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬ثقافة‭ ‬الإنسان‭ ‬الطبية،‭ ‬وذاع‭ ‬شأن‭ ‬الطِبابة‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الدواء‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا،‭ ‬وغدا‭ ‬الأمر‭ ‬حاجة‭ ‬إنسانية‭ ‬ملحّة،‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬صنعة‭ ‬أصيلة‭ ‬عند‭ ‬جميع‭ ‬الأمم‭ ‬وإن‭ ‬تباينت‭ ‬أساليبها‭ ‬وتنوعت‭ ‬طرائقها‭ ‬ومناهجها‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭.‬

بين‭ ‬النشأة‭ ‬والتأسيس‭ ‬والتطور

مصطلح “باليوباثولوجي” ‬مشتق‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬اللاتينية،‭ ‬وهو‭ ‬مؤلف‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬كلمات،‭ ‬أولاها “‬باليو‭”(‬Palio‭) ‬ وتعني‭ ‬القديم،‭ ‬وثانيها “‬باثو‭”(‬Patho‭) ‬ وتعني‭ ‬الأمراض،‭ ‬وآخرها “‬لوجي‭”(‬Logy‭) ‬ وتعني‭ ‬العلم‭.‬

ويُعنى‭ ‬علم‭ ‬الباليوباثولوجيا‭ ‬بدراسة‭ ‬تاريخ‭ ‬أمراض‭ ‬الحضارات‭ ‬البشرية‭ ‬السابقة،‭ ‬وأنواع‭ ‬الأمراض‭ ‬التي‭ ‬اعترت‭ ‬التجمعات‭ ‬السكانية‭ ‬عبر‭ ‬حِقَب‭ ‬التاريخ‭ ‬والحضارات‭ ‬الموغلة‭ ‬في‭ ‬القدم. ‬وهو‭ ‬يرسم‭ ‬صورة‭ ‬عن‭ ‬ظروف‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأزمنة،‭ ‬وبنية‭ ‬المجتمع،‭ ‬والمخاطر‭ ‬التي‭ ‬أحدقت‭ ‬بالسكان،‭ ‬ونمط‭ ‬حياتهم‭ ‬والأحوال‭ ‬المعيشية‭ ‬التي‭ ‬أحاطت‭ ‬بهم،‭ ‬وسلوكهم‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬الأمراض‭ ‬وطرائق‭ ‬الوقاية‭ ‬منها،‭ ‬والعادات‭ ‬اليومية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالصحة،‭ ‬كأسلوب‭ ‬الغذاء‭ ‬والنشاط‭ ‬اليومي‭ ‬والمسكن‭ ‬والملبس،‭ ‬وامتلاك‭ ‬الحيوانات‭ ‬الأليفة‭ ‬التي‭ ‬تشاركهم‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬بيئتهم،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الموروث‭ ‬الثقافي‭ ‬والفولكلور‭ ‬والتعلّق‭ ‬بالأساطير‭ ‬والمعتقدات‭ ‬الخاطئة،‭ ‬وما‭ ‬خلّفه‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬المجتمعات‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬وتبعات‭ ‬صحية‭ ‬وغير‭ ‬صحية‭.‬

وتُسهم‭ ‬بعض‭ ‬العلوم‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬علم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭ ‬والارتقاء‭ ‬بجهوده‭ ‬ومساعدته‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافه‭. ‬ومما‭ ‬يُذكر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التخصصات: ‬علوم‭ ‬التشريح‭ ‬المرضي،‭ ‬والطب‭ ‬الشرعي،‭ ‬والاجتماع،‭ ‬والتاريخ،‭ ‬والآثار،‭ ‬والاقتصاد،‭ ‬وعلم‭ ‬الإنسان ‬(الأنثروبولوجيا). ‬ولا‭ ‬غنى‭ ‬لعلم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬العلوم،‭ ‬إذ‭ ‬يكمل‭ ‬بعضها‭ ‬بعضًا،‭ ‬ويُسهم‭ ‬تآزرها‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬تطويره‭ ‬ومدّه بمعلومات‭ ‬مهمة،‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الصورة‭ ‬النهائية‭ ‬للمعلومات‭ ‬المراد‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭.‬

بدأت‭ ‬باكورة‭ ‬علم‭ ‬الباليوباثولوجيا‭ ‬على‭ ‬استحياء‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬حين‭ ‬خاض‭ ‬العالم‭ ‬مارك‭ ‬أرماند‭ ‬روفير‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬بعض‭ ‬الحضارات‭ ‬البائدة،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬استخدم‭ ‬مصطلح “‬علم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة”. ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬علماء‭ ‬آخرون‭ ‬وباحثون‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬علمية‭ ‬شتى‭ ‬وأدلوا‭ ‬بدلائهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬وأخذوا‭ ‬يطوّرون‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭ ‬أساليب‭ ‬وتقنيات‭ ‬أدّت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬تدريجيًا‭ ‬إلى‭ ‬النهوض‭ ‬بهذا‭ ‬الفرع‭ ‬العلمي‭ ‬الوليد‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬المشكلة‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬كانت‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬دراسة‭ ‬ظاهرة‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭ ‬وفق‭ ‬أسس‭ ‬غير‭ ‬علمية. ‬وكانت‭ ‬جلّ‭ ‬الدراسات‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬جهود‭ ‬علماء‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬والآثار،‭ ‬دفعهم‭ ‬الفضول‭ ‬إلى‭ ‬سبر‭ ‬أغوار‭ ‬الماضي‭ ‬بدراسة‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬تحت‭ ‬أيديهم‭ ‬من‭ ‬جثث‭ ‬وبقايا‭ ‬بشرية. ‬وكان‭ ‬نتاج‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬اختلط‭ ‬الحابل‭ ‬بالنابل،‭ ‬فتخرّبت‭ ‬الجثث‭ ‬وطالها‭ ‬الأذى‭ ‬الكبير،‭ ‬وأمدّنا‭ ‬هؤلاء‭ ‬العلماء‭ ‬بمعلومات‭ ‬كثيرة‭ ‬غلب‭ ‬خطؤها‭ ‬صوابَها،‭ ‬ووُضع‭ ‬وفقًا‭ ‬لذلك‭ ‬تشخيص‭ ‬خاطئ‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭.‬

لكن‭ ‬لفيفًا‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الدراية‭ ‬والخبرة‭ ‬دخلوا‭ ‬إلى‭ ‬حلبة‭ ‬السباق‭ ‬العلمي‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا،‭ ‬فنهضوا‭ ‬بهذا‭ ‬الحقل‭ ‬وفق‭ ‬أسس‭ ‬علمية،‭ ‬وأضافوا‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬المفيدة‭ ‬التي‭ ‬أثْرت‭ ‬جهود‭ ‬من‭ ‬سبقهم. ‬وممن‭ ‬يَرِد‭ ‬اسمهم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الزمرة: ‬وود‭ ‬جونز‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وقد‭ ‬اهتمّ‭ ‬حينها‭ ‬بالدراسات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالهياكل‭ ‬النوبية‭.‬

وفي‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬نشر‭ ‬العالم‭ ‬التشيكي‭ ‬أليس‭ ‬هاردليكا‭ ‬عام ‬1914م‭ ‬بعض‭ ‬الملاحظات‭ ‬حول‭ ‬أمراض‭ ‬الجماجم‭ ‬القديمة. ‬كما‭ ‬نشر‭ ‬العالم‭ ‬هربرت‭ ‬ويليامز‭ ‬بعده‭ ‬ملاحظاته‭ ‬الخاصة‭ ‬عن‭ ‬علم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬عام ‭‬1929م،‭ ‬وقد‭ ‬دارت‭ ‬حول‭ ‬عظام‭ ‬المومياء‭ ‬وأسنانها‭ ‬وأنسجتها‭ ‬غير‭ ‬المتحللة‭.‬

وفي‭ ‬عام ‭‬1930م،‭ ‬نشر‭ ‬باليس‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬ناقش‭ ‬فيه‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة،‭ ‬وقد‭ ‬اختصت‭ ‬معظم‭ ‬قضايا‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬بدراسة‭ ‬عيّنات‭ ‬بشرية‭ ‬أوروبية‭ ‬قديمة‭. ‬وفي‭ ‬العام‭ ‬نفسه،‭ ‬نشر‭ ‬الأمريكي‭ ‬هوتون‭ ‬دراسته‭ ‬حول‭ ‬مواد‭ ‬الهيكل‭ ‬العظمي‭ ‬الهندية‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭.‬

وفي‭ ‬عام ‭‬1953م،‭ ‬أعدّ‭ ‬مولر‭ ‬كريستنسن‭ ‬تقريرًا‭ ‬ناقش‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بـ “مقبرة‭ ‬الجذام” ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬بحثه‭ ‬فريدًا‭ ‬من‭ ‬نوعه،‭ ‬وقدّم‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬تحليلًا‭ ‬وصفيًا‭ ‬لهذا‭ ‬الداء‭ ‬وما‭ ‬خلّفه‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬مرضية‭ ‬في‭ ‬الهياكل‭ ‬البشرية. ‬ونظّم‭ ‬ساؤول‭ ‬جارشو‭ ‬سنة ‭‬1966م‭ ‬ندوة‭ ‬حول‭ ‬علم‭ ‬الأمراض‭ ‬البشرية‭ ‬القديمة،‭ ‬فأضافت‭ ‬الكثير‭ ‬إلى‭ ‬أدبيات‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭.‬

وتراكمت‭ ‬جهود‭ ‬العلماء‭ ‬بعدها‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬عام ‭‬1988م،‭ ‬الذي‭ ‬نظّم‭ ‬فيه‭ ‬باحثون‭ ‬بقيادة‭ ‬دونالد‭ ‬أورتنار‭ ‬ندوة‭ ‬عُقدت‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬زغرب‭ ‬الكرواتية‭ ‬بعنوان: “المؤتمر‭ ‬الدولي‭ ‬لعلوم‭ ‬الإنسان‭ ‬الأنثروبولوجية”‬،‭ ‬وتناولت‭ ‬بعض‭ ‬المشاكل‭ ‬النظرية‭ ‬والمنهجية‭ ‬الخاصة‭ ‬بعلم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭.‬

وازدادت‭ ‬مسألة‭ ‬العناية‭ ‬بعلم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭ ‬تدريجيًا،‭ ‬فغدت‭ ‬محطّ‭ ‬اهتمام‭ ‬العلماء،‭ ‬ومحورًا‭ ‬رئيسًا‭ ‬في‭ ‬حلقات‭ ‬البحث‭ ‬والندوات. ‬وتطور‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أُنشئت‭ ‬مجلة‭ ‬علمية‭ ‬دورية‭ ‬باسم “‬المجلة‭ ‬العالمية‭ ‬لطب‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة”‬،‭ ‬إذ‭ ‬صدر‭ ‬عددها‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬مارس ‭‬2011م. ‬وتصدر‭ ‬المجلة‭ ‬بشكل‭ ‬دوري،‭ ‬ولها‭ ‬موقع‭ ‬على‭ ‬شبكة‭ ‬الإنترنت،‭ ‬ويشارك‭ ‬في‭ ‬تحريرها‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭.‬

ومن‭ ‬أشهر‭ ‬علماء‭ ‬الباليوباثولوجيا‭ ‬المعاصرين: ‬عالم‭ ‬المصريات‭ ‬الأمريكي‭ ‬بوب‭ ‬بريير‭ ‬المعروف‭ ‬باسم ‭)‬السيد‭ ‬مومياء)‬،‭ ‬ومنهم‭ ‬أيضًا‭ ‬الدكتورة‭ ‬المصرية‭ ‬سحر‭ ‬سليم،‭ ‬أستاذة‭ ‬علم‭ ‬الأشعة‭ ‬وصاحبة‭ ‬الإسهامات‭ ‬العلمية‭ ‬العديدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭.‬

كان ظهور المجهر أحد التطورات الرئيسة التي رفدت علم الأمراض وأسهمت في تطوّره

جدول‭ ‬يرفِده‭ ‬نهر‭ ‬العلم

ثمة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الينابيع‭ ‬التي‭ ‬يستقي‭ ‬منها‭ ‬علم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭ ‬مبتغاه‭ ‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬والمعلومات. ‬ولمواد‭ ‬الدراسة‭ ‬التي‭ ‬يبني‭ ‬عليها‭ ‬العلماء‭ ‬منظومتهم‭ ‬المعرفية‭ ‬مصادر‭ ‬شتى،‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬تحليل‭ ‬الرفات‭ ‬البشري،‭ ‬والرجوع‭ ‬إلى‭ ‬الجثث‭ ‬وما‭ ‬يُعرف‭ ‬بالمومياءات،‭ ‬وما‭ ‬بقي‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬أجزاء‭ ‬لم‭ ‬تنل‭ ‬منها‭ ‬أصابع‭ ‬الزمن،‭ ‬كالأسنان‭ ‬والعظام‭ ‬وغيرها‭.‬

ويأتي‭ ‬الفحص‭ ‬البصري‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬وسائل‭ ‬دراسة‭ ‬الجثث‭ ‬والمومياء،‭ ‬ويُعدّ‭ ‬الخطوة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الجثة‭ ‬وإنشاء‭ ‬فكرة‭ ‬مبدئية‭ ‬عن‭ ‬وضعها،‭ ‬وهو‭ ‬وسيلة‭ ‬سهلة‭ ‬التطبيق‭ ‬لا‭ ‬تستدعي‭ ‬استخدام‭ ‬أدوات‭ ‬خاصة،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬عين‭ ‬فاحصة‭ ‬خبيرة‭ ‬تسبر‭ ‬غور‭ ‬الهدف،‭ ‬وتكشف‭ ‬ما‭ ‬انتابه‭ ‬من‭ ‬تغيرات‭ ‬مرضية‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬اكتشاف‭ ‬الألماني‭ ‬رونتغن‭ ‬لأشعة‭ ‬إكس‭ ‬عام ‭‬1895م‭ ‬حدثًا‭ ‬تاريخيًا‭ ‬أفاد‭ ‬منه‭ ‬علم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة. ‬أثرى‭ ‬هذا‭ ‬الاكتشاف‭ ‬دراسة‭ ‬المومياء،‭ ‬إذ‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬كشف‭ ‬أسرارها‭ ‬وما‭ ‬أصابها‭ ‬من‭ ‬أمراض‭ ‬وكسور‭ ‬في‭ ‬العظام،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬فض‭ ‬اللفافة‭ ‬التي‭ ‬تغلّفها‭.‬

وفي‭ ‬فرانكفورت،‭ ‬فُحصت‭ ‬المومياء‭ ‬باستخدام‭ ‬أشعة‭ ‬إكس‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬عام ‭‬1869م‭.‬ ثم‭ ‬فحص‭ ‬عالم‭ ‬المصريات‭ ‬البريطاني‭ ‬ويليام‭ ‬بتري‭ ‬مومياء‭ ‬مصرية‭ ‬بالطريقة‭ ‬نفسها‭ ‬عام ‭‬1898م. ‬وفي‭ ‬عام ‭‬1913م،‭ ‬استُخدمت‭ ‬الأشعة‭ ‬في‭ ‬فحص‭ ‬أول‭ ‬مومياء‭ ‬لفرعون‭ ‬مصري،‭ ‬وكان‭ ‬حينها‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬جهاز‭ ‬أشعة‭ ‬إكس‭ ‬وحيد‭ ‬في‭ ‬عيادة‭ ‬الدكتور‭ ‬خياط‭.‬

ثم‭ ‬تطورت‭ ‬لاحقًا‭ ‬تقنية‭ ‬الأشعة‭ ‬المقطعية،‭ ‬ذات‭ ‬القدرة‭ ‬العالية‭ ‬على‭ ‬تصوير‭ ‬الجسم‭ ‬بدقة‭ ‬متناهية. ‬وقد‭ ‬أفاد‭ ‬علم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬المتطورة‭ ‬التي‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬سبب‭ ‬وفاة‭ ‬بعض‭ ‬المرضى،‭ ‬وتشخيص‭ ‬ما‭ ‬أصابهم‭ ‬من‭ ‬أمراض‭ ‬مختلفة،‭ ‬وخاصة‭ ‬أمراض‭ ‬العظام‭ ‬والمفاصل،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬المساعدة‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬عمر‭ ‬صاحب‭ ‬المومياء،‭ ‬وقياس‭ ‬أبعاد‭ ‬جمجمته‭ ‬وعظامه،‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬حال‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬أحشائه‭ ‬الداخلية‭.‬

وقد‭ ‬أدى‭ ‬تطور‭ ‬تقنيات‭ ‬الأشعة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬تشخيص‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬اندفاع‭ ‬العلماء‭ ‬الخاطئ‭ ‬وتصرفاتهم‭ ‬العشوائية‭ ‬في‭ ‬فك‭ ‬لفافة‭ ‬المومياء،‭ ‬وتقطيع‭ ‬أوصالها‭ ‬إرضاءً‭ ‬للشغف‭ ‬العلمي‭ ‬فحسب،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُؤبَه‭ ‬بالجثة‭ ‬وما‭ ‬يعتريها‭ ‬من‭ ‬الأذى‭ ‬اللاحق‭ ‬للفحص‭ ‬غير‭ ‬الحكيم‭.‬

وثمة‭ ‬وسائل‭ ‬تشخيص‭ ‬أخرى‭ ‬تعين‭ ‬الباحثين‭ ‬على‭ ‬زيادة‭ ‬ذخيرتهم‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬علم‭ ‬الطب‭ ‬القديم. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال: ‬إجراء‭ ‬اختبارات‭ ‬جزيئية‭ ‬حيوية،‭ ‬كاختبار‭ ‬الحمض‭ ‬النووي‭ ‬الخاص‭ ‬بالجثة‭ ‬أو‭ ‬المومياء،‭ ‬ودراسة‭ ‬الجينات‭ ‬المستخرجة‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬الخلايا‭ ‬والأنسجة،‭ ‬وهذه‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬وسائل‭ ‬الدراسة‭ ‬وأدقها‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬نوع‭ ‬الأمراض‭ ‬والآثار‭ ‬التي‭ ‬خلّفتها‭ ‬في‭ ‬الجسم. ‬ومن‭ ‬طرائق‭ ‬التشخيص‭ ‬أيضًا‭ ‬استخدام‭ ‬التحليل‭ ‬الكيميائي‭ ‬للكشف‭ ‬عن‭ ‬السموم،‭ ‬ويفيد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الاستقصاء‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬الوفاة،‭ ‬وما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬نتيجة‭ ‬تناول‭ ‬مادة‭ ‬سامة‭.‬

ولِـما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬حُليّ‭ ‬الجثة‭ ‬ومجوهراتها‭ ‬فائدة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬إثراء‭ ‬التقرير‭ ‬النهائي‭ ‬للحالة‭ ‬المدروسة،‭ ‬إذ‭ ‬يمكن‭ ‬تحليل‭ ‬هذه‭ ‬البقايا‭ ‬وفحصها‭ ‬مجهريًا‭ ‬بغية‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عَلِق‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬بكتيريا‭ ‬أو‭ ‬ميكروبات‭ ‬قد‭ ‬تقودنا‭ ‬إلى‭ ‬تخمين‭ ‬سبب‭ ‬المرض‭ ‬والوفاة‭.‬

وترفد‭ ‬دراسة‭ ‬النقوش‭ ‬والكتابات‭ ‬الصخرية‭ ‬علمَ‭ ‬الباليوباثولوجيا‭ ‬بمعلومات‭ ‬مهمة،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬القديم‭ ‬حاول‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬وبيئته،‭ ‬فسرد‭ ‬لنا‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬حياته‭ ‬وما‭ ‬أصابه‭ ‬من‭ ‬مشكلات‭ ‬وأمراض،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬النحت‭ ‬والرسومات‭ ‬الصخرية‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الغابرة‭.‬

ومن‭ ‬مصادر‭ ‬المعلومات‭ ‬الأخرى‭ ‬البرديات‭ ‬والنصوص‭ ‬القديمة. ‬ومن‭ ‬أمثلة‭ ‬ما‭ ‬ذُكر‭ ‬في‭ ‬ثناياها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال: “‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬تضخم‭ ‬الطحال‭ ‬وظهور‭ ‬الحمّـى”‬،‭ ‬إذ‭ ‬ورد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬بردية “‬إيبرس” ‬التي‭ ‬يعود‭ ‬تاريخها‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1570‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد. ‬وقد‭ ‬حفظ‭ ‬لنا‭ ‬التاريخ‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬العلمية‭ ‬القديمة،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬نصوص‭ ‬أبقراط،‭ ‬كالنص‭ ‬الذي‭ ‬يُظهر‭ ‬مثلًا‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الحمى‭ ‬والعيش‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬المستنقعات،‭ ‬والنص‭ ‬الذي‭ ‬يربط‭ ‬زيادة‭ ‬الكثافة‭ ‬السكانية‭ ‬بظهور‭ ‬المرض،‭ ‬وغيرها‭.‬

وثمة‭ ‬نقوش‭ ‬أثرية‭ ‬حملت‭ ‬بين‭ ‬طياتها‭ ‬معلومات‭ ‬مهمة‭ ‬حول‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬نص‭ ‬تاريخي‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬الحيوانات‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بظهور‭ ‬المرض،‭ ‬والتوصية‭ ‬بالتخلي‭ ‬عنها،‭ ‬وبأن‭ ‬يسكن‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬مرتفعة‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الهوام‭ ‬والحشرات. ‬وجاء‭ ‬في‭ ‬نقوش‭ ‬أخرى‭ ‬خبر‭ ‬ازدياد‭ ‬انتشار‭ ‬حالات‭ ‬داء‭ ‬الملاريا‭ ‬سوءًا‭ ‬في‭ ‬روما‭ ‬بسبب‭ ‬الإهمال‭ ‬والفيضانات،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬كثير‭.‬

وآخر‭ ‬ما‭ ‬يُذكر‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬التشخيص‭ ‬فحص‭ ‬الفضلات‭ ‬ودراسة‭ ‬بقايا‭ ‬الروث،‭ ‬وهي‭ ‬طريقة‭ ‬علمية‭ ‬نافعة‭ ‬جدًا‭ ‬في‭ ‬تشخيص‭ ‬أمراض‭ ‬الأمعاء‭ ‬والجهاز‭ ‬الهضمي،‭ ‬إذ‭ ‬يمكن‭ ‬بها‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬الطفيليات‭ ‬التي‭ ‬غزت‭ ‬جسم‭ ‬المريض،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬وفاته‭.‬

لقد‭ ‬قدّمت‭ ‬وسائل‭ ‬الكشف‭ ‬والتشخيص‭ ‬المذكورة‭ ‬لعلم‭ ‬الباليوباثولوجيا‭ ‬خدمات‭ ‬جليلة،‭ ‬زادت‭ ‬من‭ ‬رصيد‭ ‬المعرفة‭ ‬ومن‭ ‬الحقائق‭ ‬والمعلومات‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬تتضح‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬إلى‭ ‬صورته‭ ‬الحالية. ‬ونضرب‭ ‬مثلًا‭ ‬عن‭ ‬ذلك: ‬الفائدة‭ ‬التي‭ ‬حققها‭ ‬استخدام‭ ‬الأشعة‭ ‬المقطعية‭ ‬وأشعة‭ ‬إكس‭ ‬في‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬المؤامرة‭ ‬التي‭ ‬حيكت‭ ‬ضد‭ ‬الفرعون‭ ‬المصري‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثالث‭ ‬الذي‭ ‬حيّر‭ ‬موته‭ ‬المؤرخين‭ ‬قرونًا‭ ‬طويلة. ‬فقد‭ ‬كشفت‭ ‬الأشعة‭ ‬عن‭ ‬حقائق‭ ‬تفيد‭ ‬بقتل‭ ‬الفرعون‭ ‬مذبوحًا‭ ‬في‭ ‬مؤامرة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مُلك‭ ‬مصر‭ ‬دُبرت‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬إحدى‭ ‬زوجاته‭ ‬وأحد‭ ‬أبنائه. ‬ومما‭ ‬يؤيد‭ ‬تلك‭ ‬النظرية‭ ‬ما‭ ‬وجده‭ ‬الباحثون‭ ‬عبر‭ ‬تصوير‭ ‬الجثة‭ ‬بالأشعة‭ ‬المقطعية،‭ ‬إذ‭ ‬أظهر‭ ‬ذلك‭ ‬بروز‭ ‬جرح‭ ‬عميق‭ ‬وكبير‭ ‬تحت‭ ‬الضمادة‭ ‬التي‭ ‬تغطي‭ ‬رقبة‭ ‬الملك‭ ‬المحنّط‭.‬

وفي‭ ‬مثال‭ ‬آخر،‭ ‬أعلن‭ ‬فريق‭ ‬بحثي‭ ‬دولي‭ ‬اكتشاف‭ ‬أول‭ ‬ضمادة‭ ‬مصرية‭ ‬قديمة‭ ‬لعلاج‭ ‬الجروح،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مومياء‭ ‬طفلة،‭ ‬إذ‭ ‬أسهمت‭ ‬الأشعة‭ ‬المقطعية‭ ‬في‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬ذلك. ‬وقد‭ ‬ورد‭ ‬ذكر‭ ‬بعض‭ ‬الضمادات‭ ‬الجراحية‭ ‬في‭ ‬بردية‭ ‬إدوين‭ ‬سميث،‭ ‬وهي‭ ‬نص‭ ‬طبي‭ ‬عُثر‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭.‬

أمراض‭ ‬غزت‭ ‬الشعوب‭ ‬الغابرة

ثمة‭ ‬قائمة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬ثبت‭ ‬ظهورها‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الزمنية‭ ‬السابقة. ‬وقد‭ ‬ساعدت‭ ‬وسائل‭ ‬الكشف‭ ‬والتشخيص‭ ‬المذكورة‭ ‬آنفًا‭ ‬في‭ ‬تأكيد‭ ‬إصابة‭ ‬الشعوب‭ ‬بتلك‭ ‬الأمراض. ‬وسنعرض‭ ‬هنا‭ ‬جانبًا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر‭.‬

فقد‭ ‬أفادت‭ ‬دراسة‭ ‬عينات‭ ‬العظام‭ ‬المكتشفة‭ ‬في‭ ‬تشخيص‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأمراض. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬ظهور‭ ‬تغيّرات‭ ‬مرئية‭ ‬في‭ ‬العظم‭ ‬تدلّ‭ ‬على‭ ‬إصابة‭ ‬صاحبه‭ ‬بأمراض‭ ‬الكساح‭ ‬وهشاشة‭ ‬العظام‭ ‬والتهابها‭ ‬والسل‭ ‬والكسور‭ ‬والخلوع‭ ‬والسرطان‭.‬

وقد‭ ‬شاع‭ ‬عند‭ ‬الشعوب‭ ‬القديمة‭ ‬الإصابة‭ ‬بأمراض‭ ‬كثيرة،‭ ‬كالجدري‭ ‬وداء‭ ‬التراخوما‭ ‬والسل‭ ‬والالتهاب‭ ‬الرئوي‭ ‬والزهري‭ ‬وغيرها،‭ ‬إذ‭ ‬ثبت‭ ‬لدى‭ ‬أهل‭ ‬الاختصاص‭ ‬أنها‭ ‬أسقام‭ ‬وُجدت‭ ‬بالفعل‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬بآلاف‭ ‬السنين. ‬كما‭ ‬انتشر‭ ‬الجذام‭ ‬والجرب‭ ‬والقمل‭ ‬والجمرة‭ ‬الخبيثة‭ ‬وسوء‭ ‬التغذية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دلّ‭ ‬على‭ ‬الحالة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬السيئة‭ ‬والظروف‭ ‬القاهرة‭ ‬التي‭ ‬كابدتها‭ ‬بعض‭ ‬الشعوب‭ ‬السابقة‭.‬

ونرى‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬أنّ‭ ‬شعوبًا‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬أحوال‭ ‬اقتصادية‭ ‬أفضل،‭ ‬فذاع‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬سكانها‭ ‬زيادة‭ ‬نسبة‭ ‬تسوس‭ ‬الأسنان‭ ‬الدال‭ ‬على‭ ‬الإفراط‭ ‬في‭ ‬تناول‭ ‬دقيق‭ ‬القمح‭ ‬المطحون‭ ‬والحلويات‭.‬

وفي‭ ‬مثال‭ ‬آخر‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬حضارات‭ ‬حوض‭ ‬النيل‭ ‬القديمة (‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬مملكة “كوش‭ ‬الأولى” ‬و مملكة “مروي” ‬قبل‭ ‬الميلاد) ‬إصابة‭ ‬الكثيرين‭ ‬بالسل‭ ‬وفقر‭ ‬الدم،‭ ‬وأمراض‭ ‬الأسنان‭ ‬كالتسوس‭ ‬والتهاب‭ ‬اللثة،‭ ‬والتشوهات‭ ‬الولادية‭.‬

وبعد،‭ ‬فهذا‭ ‬غيضٌ‭ ‬من‭ ‬فيض‭ ‬علمٍ‭ ‬ناشئ،‭ ‬قد‭ ‬يروي‭ ‬ظمأ‭ ‬العلماء‭ ‬لمعرفة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬عالَم‭ ‬كان‭ ‬خفيًا‭ ‬عنهم،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬الحلم‭ ‬يصبح‭ ‬حقيقة،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬علم‭ ‬الأمراض‭ ‬القديمة‭ ‬يُثبّت‭ ‬أركانه‭ ‬وسط‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬الأخرى‭.‬

‭ ‬


مقالات ذات صلة

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.

وعينا ومشاعرنا تشكلت من خلال التفاعل الحقيقي مع الطبيعة، وأن الابتكارات التكنولوجية وُلدت من تجارب حية مع العالم الطبيعي..

موسكو مدينة تترك بصمة لا تُنسى على زوَّارها. مدينة نابضة بالحياة، نظيفة، آمنة، ودودة، وتستقبل العائلات والسيَّاح بحرارة.


0 تعليقات على “علم الأمراض القديمة.. آفاق‭ ‬تكشف‭ ‬ألغاز‭ ‬التاريخ”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *