بين انفصال أبدي وتفاؤل بعودة ضرورية
يعرف المهتمون بالعلاقة بين الفلسفة والعلم أن هذين المجالين الفكريين احتاجا للانتظار والتجاور، إن لم نقل التطابق، أكثر من ألفي عام قبل أن يفصل أحدهما عن الآخر. فعلى مدى ما يزيد على ألفيتين، اعتادت العلوم بشتى أنواعها أن تكون صنوًا لفكر فلسفي يحكمها، وغالبًا كان ذلك من خلال كون العالم فيلسوفًا، وطبيبًا وكيميائيًا وفلكيًا، بل حتى خيميائيًا في الوقت نفسه.
إبراهيم العريس
ويمكن للائحة العلماء الفلاسفة أن تطول، وبوسع من يتوخى معرفة المزيد حول ذلك مراجعة كتب تصنيف العلوم، التي تتناول الأمر منذ أرسطو وما قبله. وكان هذا الأمر يضمن للعلم، بالمعنى المطلق للكلمة، قيمةً أخلاقيةً ما وأبعادًا إنسانية معينة، لكنه كان يحمّله في مرات عديدة تبعات مشاكسات الفلاسفة، فلا يعود واضحًا ما إذا كانت السلطات المتحجرة، الحذرة حينًا تجاه العلم إن خالف قواعدها، أو إزاء الفلسفة إن قدمت للعلم مأوًى ما، تحاكم هذه لأنها تريد أن تحاكم ذاك أم العكس بالعكس.
بداية الفصل ما بينهما
ظلّ الحال على هذا النحو حتى قرون قريبة مضت، حين راح كلُّ فرع من فرعي المعرفة هذين ينفصل عن الآخر بعد أن ازدادت الأفكار المجردة تركيبًا، وتعصرنت العلوم في تعبيراتها التقنية ثم السيبرانية، وراحت تختلف مصادر ووظائف ومآلات كل منهما، ولا سيما بدءًا من تلك المرحلة الحداثية، التي وصلت ذروتها مع عصر التنوير وولادة الفلسفة المسماة بالحديثة مع العقلانيين الإنجليز من أمثال لوك وهيوم، وكبار فلاسفة التنوير الألمان من هيغل وكانط وشيلنغ وفيخته.
وبالتدريج راح كل من الفرعين يختص بشؤون معينة، قد يجد الفرع الآخر نفسه معنيًّا بها إنما ضمن حدود. ولعل في إمكاننا أن نمثّل على هذا بالبعد الأخلاقي الذي يبقى على أي حال جزءًا أساسيًّا من الفلسفة، لكنه مع ذلك يخدم العلم في تشكيل الرادع الذي يحول بينه وبين الانحراف بإمكاناته ودروبه ليكف عن التفريق بين ما هو خيّر ومفيد للإنسانية فيه، وما هو وبال عليها.
من هنا يمكننا أن نتصور ذلك الصراع المبني على فلسفة أخلاقية والذي خاضه دون شك الفيزيائي الأمريكي أوبنهايمر، صانع القنبلة الذرية، حين وجد نفسه كعالم “مسؤولًا” عن مقتل مئات الألوف والدمار الكبير الذي تسببت به قنبلتا هيروشيما وناغازاكي، يوم ألقاهما الطيران الأمريكي فوق اليابان؛ وذلك برغم التبرير القائل إن هذه الكلفة وإن كانت مرتفعة جدًا، فإنها وضعت حدًا للحرب العالمية الثانية، وهي “بالتأكيد أضأل كثيرًا من الكلفة التي كان يمكن أن تنتج عن استمرار تلك الحرب”!
طبعًا لا يهمنا هنا من هذا السجال سوى الجانب المتعلق بالمزاوجة المنفصمة الآن بين العلم والفلسفة، لا سيما أن هذا السجال يمكنه أن يعكس ذروة ذلك الانفصام، بالنظر إلى أنه وكما تجلى في المسرحية التي كتبها بيتر فايس عن أوبنهايمر، بدا وكأنه ينتمي إلى زمن آخر تمامًا.
ولعل ما يمكننا رصده اليوم هو أن الأزمنة الحديثة، التي تلت مباشرة زمن ظهور المسرحية، محت إلى حد كبير كل ما له علاقة بجوهر النقاش نفسه، بحيث أننا بالكاد يمكننا أن نلتفت إلى الدور الفلسفي للعلم الذي بات يبدو اليوم وكأنه حقق انتصاره الحاسم على الفلسفة، التي تبدو بدورها غائبة كليًا ومتخلية إلى حد كبير عن الدور الذي لعبته خلال القرون الماضية بين أدوارها الكثيرة، ألا وهو دور الرادع للعلم عن سلوك دروب الشطط.
فهل يمكننا من هنا أن ننتقل إلى القول بأن القرن العشرين، أقصر قرون التاريخ بحسب نظرة المؤرخ الإنجليزي إريك هوبسباوم في كتابه “عصر التطرفات”، الذي ختم به رباعيته حول التاريخ الحديث، قد شهد الحضور الأخير للقيم الإنسانية، واضعًا الإنسان، رغم المذابح والحروب والانحرافات التي سادته، في منأى عن أي علم كان يهدد بالخروج عن المنطق؟
ربما يكون هذا صحيحًا اليوم. ومع ذلك ثمة مرحلتان، أولاهما عند نهايات القرن العشرين والثانية عند بدايات القرن الذي يليه، توهّم الناس فيهما أن ثمة عودة للفلسفة الأخلاقية، التي سنستعمل هنا كلمة “قيم” للتعبير عنها، بعد الانحرافات الإيديولوجية التي مثلتها النازية من ناحية والستالينية من ناحية أخرى. وقد كانت الفيلسوفة الأمريكية من أصل ألماني حنة آرندت من أعمق من عبّر عن هذه الانحرافات تحت اسم الحكم الشمولي في كتابها العمدة “جذور التوتاليتارية”.
من نهاية التاريخ إلى صراع الحضارات
ففي المرحلة الأولى، التي تلت مباشرة سقوط المنظومة الاشتراكية، وقد تمثل ذلك بهدم جدار برلين، بدا الأمر وكأن عالمًا جديدًا متحررًا من ربقة الإيديولوجية قد وُلد. ولقد توج موظف في وزارة الخارجية الأمريكية هو فرنسيس فوكوياما ذلك التفاؤل في مقال له حوّله كتابًا في مرحلة لاحقة وبدا لكثيرين أن كتابًا جوهريًّا مهمًّا قد تمثّل بين أيديهم، انطلاقًا من عنوانه “نهاية التاريخ والإنسان الأول”، حيث أعلن فيه انتصارًا “نهائيًّا” للفكر الليبرالي ونهاية للشموليات وللإيديولوجيات في ركابها.
نشر فوكوياما كتابه عند بداية تسعينيات القرن العشرين، ونام ملء جفونه عن شواردها، وقد بدا عليه مواربةً أنه يعيد للفلسفة مكانتها وللأخلاق هيمنتها على كل ما من شأنه أن يعيد للعلم، أي التقنية هنا، انفلاته؛ إذ لم يعد ثمة حاجة للشر كما جاء في ثنايا كلامه. ومع فوكوياما، اطمأن كثيرون لافتراض أن التاريخ، أي الحروب والصراعات والانتحار الجماعي للبشرية، قد انتهى.
لكن ذلك الاطمئنان لم يطل، فبصرف النظر عن أن التاريخ المباشر كذّب ذلك، فقد ظهر كتاب آخر بعد حين نشره أستاذ سابق لفوكوياما هو صمويل هانتنغتون وكان عنوانه “صدام الحضارات”. ولم يكن الكتاب تأريخًا لتلك الصراعات التي عاش العالم في ظلها مئات السنين، بل تأكيدًا لاستمراريتها على عكس ما بشّر به فوكوياما.
لقد بشّر فوكوياما من ناحيته، مستندًا إلى فكر عقلنة التاريخ لدى هيغل، بأنه ما من صراعات كبرى ستنشب في العالم بعد اليوم، طالما أن ما سيسيّر شؤون الكوكب منذ اليوم فصاعدًا إنما هي ثنائية الديموقراطية والسوق؛ وحتى لو ظلت هناك صراعات جانبية، فقد اعتبرها المفكر ياباني الأصل عابرة أو شديدة المحلية.
ومع بدايات الألفية الجديدة وما شهدته من صراعات، بقي فوكوياما على مبادئه الأساس، غير مبالٍ تمامًا بالانتقادات التي جابهه بها مثقفون من شتى أنحاء العالم، حيث أخذوا عليه من ناحية أنه لم يفهم هيغل كما يجب، وأنه من ناحية ثانية لم يُظهر قدرة على التمعن بدقة في أحداث التاريخ وإرهاصات الزمن المقبل.
استمرت السجالات التي جابهت فوكوياما لتبلغ أوجها مع هانتنغتون، الذي بالكاد سمع أحد باسمه قبل ذلك خارج الحلقات الجامعية الضيقة، إلى أن نشر في البدء مقالًا بعنوان “صراع الحضارات” في دورية “فورين آفيرز” الرصينة والشهيرة، ثم حوّل المقال بعد ذلك إلى كتاب عنوانه “صدام الحضارات”، ليكون الرد الأقسى على أطروحات تلميذه السابق في جامعة هارفرد.
كان من الواضح في المقال، كما في الكتاب، أن هانتنغتون يرد على تلميذه القديم ردًا حاسمًا؛ فبالنسبة إلى البروفسور الهارفردي، لم تحقق الديموقراطية الليبرالية أبدًا ولا اقتصاد سوقها الناجح ذلك الانتصار النهائي. بل على العكس، فنهاية عالم الاستقطابين الكبيرين سوف تحوّل الحرب الباردة والتطلعات الهُويّاتية والإخفاقات في هذه المنطقة أو تلك من العالم، إلى صدامات ليس بين دول وأمم هذه المرة، ولا بين أحلاف، ولكن بين حضارات بأسرها.
وإذا كان هانتنغتون قد أخطأ في تحديد هوية الحضارتين اللتين ستكونان معنيتين بخوض الصراع فيما بينهما، معتقدًا أنهما ستكونان الصينية والإسلامية، ومحددًا ميدان الصراع بأنه سيكون في آسيا، كان من الواضح أنه لم يخطئ في التشخيص على الأقل.
العلم يستفرد بالعالم
لم يتوقع هانتنغتون نهاية للصراعات، بل بداية جديدة لها. أما معطياته فقد دلته على المكان الصحيح، ولو بشكل جزئي. وهذا ما نتجت عنه تباعًا جملة من الأحداث والكوارث الكبيرة لتؤكد صحة نظرته خلال السنوات التالية، حيث نعرف أن “الصراعات” الكبرى، التي عرفها العالم منذ ذلك الحين، هي إعلان صارخ عن تفرد العلم بمكانته في العالم منفصلًا نهائيًّا عن الفلسفة والأخلاق والقيم.
ويمكن لمراجعة بسيطة للتاريخ الحديث أن تضع المُراجع على تماس مع تحول الفكر والفلسفة إلى استعراضات تلفزيونية، وغياب كل نقد حقيقي عن تداولاتنا اليومية، وتحول الصداقات والأفعال الطيبة إلى مادة تستهلك في وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد فقد الإنسان ما كان المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي يسميه “الحماس والبوصلة”. ومع ذلك، حين حان دور المرحلة الثانية، وحلّ وباء كورونا ضيفًا ثقيلًا على العالم خلال السنوات الثلاث ونيف السابقة، استبشر بعض المتفائلين خيرًا بوجود بقايا روادع أخلاقية إنسانية ما، وقالوا: “لعل شيئًا من القيم يعود مع تأمل الإنسان لمكانته الحقيقية في الكون، وإدراكه أن القِيم، والقيم وحدها هي ما ستنقذه من ذلك المصير العلمي القبيح”. لكن التفاؤل الجديد لم يطل وها هو العلم يستبد بدوره وسط كونية تستعيد انفصالها عن القيم الفلسفية التي عادت إلى الغياب من جديد، وراح الناس ينسون كل ما أرعبهم وجعلهم يستنجدون بالقيم ليغوصوا في التقنيات من جديد. ترى أليس في حروف كلمة إنسان ما يشير من جانب خفي إلى كلمة نسيان؟
اترك تعليقاً