مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2024

عبدالمحسن النمر

سيرة الشغف


ماجد إبراهيم

من صبي يبتكر شخصياته ويمثِّلها بنفسه سرًا، إلى نجومية تترسّخ عملًا بعد آخر، ومن الوقوع على منصة تمثيل في نهاية دور قصير إيمائي صامت، إلى الوقوف على منصة التكريم في أفلام السعودية في نسخته العاشرة؛ قصة يجب أن تُروى عن إنسان مسكون بالفنِّ.

ربَّما لا تكون الاستمرارية لعقود في صنعة ما ضربًا من المستحيل، فهي تأتي من الدُّربة والممارسة وشيء من الحظ. لكن الأمر يختلف إذا كانت هذه الصنعة هي الفن، ويُصبح أكثر أهميةً إن ازدادت هذه الاستمرارية توهجًا، عامًا بعد عام، وتجربة بعد أخرى، كما هي حالة الفنان السعودي عبدالمحسن النمر، الذي رافقته النجومية طوال رحلة العقود الأربعة، فأنّى له كل ذلك؟

بدايات الوعي

لم يكن الفتى الحساوي النحيل في سني عمره الأولى كبقية أقرانه، لا لعلةٍ في روحه الحالمة، بل لذوبان ذاته في خيالاته الآسرة. كان ينأى عن ألعاب الصغار المعتادة في الفريج، نحو عالم يشكّله على هواه، وشخصيات يبتكرها ويحاورها ويتقمّصها بينه وبين ذاته فقط. لم يكن يعلم الفتى حينئذ أنه يلتقطُ خيوطَ موهبته الفذّة من عسيـبِ نخلة تسامقت في نفسه، ويبدأ صقلها من دون أن يعي معنى مفردتي “موهبة” أو “صقل”. لذا، نما بداخله الفنان سريعًا من دون أن يدري لماذا تعلّق فوق كتف والده حين أخذه إلى عرض مسرحي في أرامكو. تسلّق الفتى كتف الوالد، كي لا تفوته لحظةٌ من مشهد أو إيماءةٌ من ممثل. حينئذٍ أدرك بوعي فطري أن خيالاته الطفولية لم تعد حكرًا عليه، بل أصبح يعي أهمية تجسيدها ونقلها للآخرين عبر خشبة مسرح صغير، بناه بنفسه في مساحة مجاورة لبيتهم، وبدأ باستقطاب أوائل مشاهديه.

بدايات القصص المبكرة هي ركائزها العابرة للسنين، وبدايات النمر في طفولته كان لها ما كان، طوال عقود نجاحاته ونجوميته. قبِل الطفل الصغير آنذاك أول أدواره المسرحية الصغيرة، وهو دورٌ إيمائيٌ صامت ومحدود يسقطُ في آخره على الخشبة التي عشقها وعشقته فيما بعد، قبل أن يجد نفسه مواجهًا لكائن يملك قدرًا من الهيبة لا يقدر على مواجهته. لم تكن المواجهة الأولى بينه وبين الكاميرا مريحة أبدًا، لكن الشغف بداخله استطاع ترويض خوفه من الكائن المجهول؛ لتبدأ رحلة صداقة بينهما ستدوم طويلًا.

كانت البلاد حينئذٍ على أعتاب طفرة كبرى في مجالات مختلفة، لكن ركب الفن كان متأخرًا. وبالرغم أن هذا الأمر يبدو محبطًا بالنسبة لفنان شاب، فإنه لم يمثّل عائقًا لأحلام النمر التي أخذت تنمو بداخله بوتيرة متسارعة. التقط هذه الأحلام يومئذٍ أستاذه الممثل والمسرحي السعودي ناصر المبارك، ودفع بها وبصاحبها في معمعة فنية مسرحية درامية، بدأت ملامحها تظهر في شرق المملكة العربية السعودية. وكانت المسرحية الأولى “بيت من ليف”، لتأتي بعدها البطولة الأولى في المسلسل الأول “الشاطر حسن”، في أوائل الثمانينيات الميلادية. عندئذٍ استوعب النمر أول ملامح الشهرة ومعانيها. فذلك الطفل الهادئ الذي يمشي منكفئًا على أحلامه وخيالاته، بات يعود إلى بيتهم كل مساء، وسط وابل من السلامات والتحايا الموجهة لأحد نجوم الشاشة الصغيرة، في أوساط مجتمعية محلية لم تكن النظرة السائدة فيها إلى الفن نظرة مشرقة.

مسلسل “مجاديف الأمل”.

بين المسرح والشاشة

لطالما كان وعي الفنان بأهمية موهبته، واعتناقه لهيبة تأثيرها عليه وعلى الآخر، أبرز معاولهِ لهدم جبال الصعاب من حوله، ليشقَّ طريقه بجسارة تُحيل عثرات الحياة من ماضٍ صعب إلى ذكريات يتبسم لها كلّما التفت خلفه. وهكذا، مضى النمر في تجربته سريعًا؛ إذ حاول الهرب يومًا إلى الكويت لدراسة الفن أكاديميًا، على الرغم من معارضة العائلة. لكن رحلة الهرب لم تتجاوز أيامًا ثلاثة، ليعود بعدها بعزيمة أكبر منحته صلابة الفنان الذي لن يتوقف حلمه.

بريق الشاشة وسلامات المعجبين لم تخطف النمر من عشق المسرح، لكنه هذه المرة وبجرأته التي ظهرت ملامحها منذ بداياته، اقتحم أكبر مسارح الخليج في الكويت آنذاك؛ حيث كانت الحركة المسرحية والدرامية في أوجها، ليشارك بصفته أول ممثل سعودي في مسرحية كويتية. كانت مسرحية “الكماشة” هي المسرحية التي شارك فيها، مع نخبة من النجوم: مريم الغضبان وإبراهيم الصلال وعبدالعزيز النمش وأحمد الصالح وإبراهيم الحربي، وسبقتها مسرحيات سعودية عُرضت في المنطقة الشرقية، مثل: “الكرة المضيئة” و”تلميذ رغم أنفه” و”زواج بالجملة”.

شعلة المسرح لم تنطفئ بداخله في السنوات القليلة بعدها، والتفاعل اللحظي للجمهور زاده يقينًا بأهمية الوقوف على خشبة المسرح، مسرحية بعد أخرى. لكن سحر الكاميرا التي بنى معها صداقة حميمة، كان لها رأي آخر. لتبدأ مرحلةٌ جديدة ومتوازية مع انتشار محدود للأعمال الدرامية في أوساط السعوديين، وكانت مسلسلات مثل: “وجه بن فهرة” و”عائلة بو كلش”، فاتـحة لأبواب أوسع نجحت إلى حدٍّ بعيد في اختطاف النمر من جمهور المسرح المحدود، آنذاك، إلى مساحة أوسع وحضور أبقى.

أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات الميلادية، كان تلفزيون الدمام من أكثر تلفزيونات المملكة تألقًا في إنتاج المسلسلات التلفزيونية، وإن كانت الإمكانات التقنية لا تزال في بداياتها. غير أن شغف فناني المنطقة الشرقية ضاعف من حجم هذه الإمكانات التقنية بإمكانات بشرية تجلَّت في عدة أسماء بارزة في ذلك الوقت، مثل: سمير الناصر وإبراهيم جبر وعلي السبع وآخرين، ومن أبرزهم عبدالمحسن النمر. وكانت هناك مسلسلات عديدة من أبرزها: “خزنة” و”حامض حلو” و”الدفتر الأزرق”، بمشاركة ممثلين كويتيين وعراقيين، ومسلسل “أوراق متساقطة”، الذي كان ثاني مغامرات النمر في عالم الإنتاج بتأسيس مؤسسة النجوم مع المخرجين سمير الناصر وعبدالخالق الغانم، وسبق ذلك تأسيس مؤسسة الوفاء مع سمير النـاصر والمخرج زكي القاسم في تجربة لم يُكتب لها الاستمرار طويلًا.

بطبيعة الحال، لم تكن تجربة النمر في الإنتاج، على الرغم من محدوديتها، ناجحـة كما هي تجربته الطويلة والآسرة في التمثيل. غير أن الشغف لم يمنعه إنتاجيًّا من تقديم بعض المسلسلات عبر مؤسسة النجوم.

ولعلَّ من أبرز تلك التجارب الإنتاجية مسلسل “مجاديف الأمل” عام 2005م، الذي وصل إلى شريحة واسعة من المشاهدين. غير أن النمر يعدُّها تجربة غير ناجحة، عازيًا ذلك إلى ضعف الإمكانات الإنتاجية آنذاك. لكن ما يعزّي روحه هو محاولته تجسيد جزء من تاريخ الأحساء وبيئتها الغنية التي لم تُظهَر للناس بالشكل المناسب، كما يرى. ولعلَّ حلمه ذاك تحقّق في مسلسله الأخير “خيوط المعازيب”، الذي لقي نجاحات كبيرة ضمن سباق مسلسلات عام 2024م.

سينمائيًا.. تجربته تنتظر دورًا أكبر

وقبل العبور إلى “خيوط المعازيب”، يجب أن نمرَّ على التجربة السينمائية للنمر، التي تمثلَّت في أفلام معدودة كان أبرزها وأهمها وآخرها فِلم “هجّان”، الذي حقَّق عدة جوائز محليًا وعالميًا. فلِمَ لم يكن للنمر، الذي حفر اسمه طويلًا في ذاكرة الفن السعودي، تجربة سينمائية توازي اسمه الكبير؟ وبطبيعة الحال، فإن الإجابة تفرض نفسها عبر التجربة حديثة الولادة للسينما السعودية الحقيقية، التي لم يتعدَّ عمرها سنوات قليلة مع انفتاح البلاد على الإنتاج السينمائي، وفتح دور السينما أبوابها لعشاق الفنِّ السابع؛ وهو ما يضع المتابع المُحبَّ لتجربة النمر في توق كبير لفِلم يثريه بتجربته العريضة، ويثري تجربة الفنان بدور مهم يحفر اسمه في تاريخ الشاشة الكبيرة محليًا وعربيًا، بل وعالميًا.

ولا ينبغي لمن يحاول قدر استطاعته سرد ملامح من التجربة الثرية والمدهشة للنمر، أن يغفل تميّزه بين الفنانين السعوديين والخليجيين في وضع بصمته على دراما كل دول الخليج، بل وفي دول عربية كذلك. فقد اتّسمت كل مشاركاته بوعي شديد وتميُّز لافت، حتى ظنَّ بعض أبناء هذه الدول أن عبدالمحسن فنان منهم ولهم. وهذا ما يؤكد موهبته الفذّة وقدرته على الانصهار في أي عمل يشارك فيه، ليظهر نجمًا كبيرًا أينما كانت مشاركته تلك، وبأيِّ لهجة كانت. وهذا ما يندر أن يتوافر لممثلين كبار في عالمنا العربي، لكنه النمر ربَّما استطاع انتزاعه بجسارة ملهمة لكل فنان يأتي من بعده. ومن المهم التشديد هنا على كلمة “فنان” لا “ممثل”؛ لأن عبدالمحسن النمر ببساطة ليس ممثلًا وحسب، بل فنان نحت موهبته نحتًا طوال أربعة عقود حتى بات يتقاطع مع بقية مهام الصنعة، من إخراج وكتابة وسيناريو وبقية تخصصاتها التي يصعب حصرها في كلمات عدة.

يصلح “خيوط المعازيب” مِسكًا لختام هذا الغوص في أعماق تجربة ملهمة لفنان كبير. ففي هذا المسلسل لم يكن النمر مجرد ممثل بطل، بل كان أحد صنَّاع العمل منذ بدايات ورشة النص، مرورًا باختيار ممثلين شباب لم يقفوا أمام كاميرا يومًا، وتدريبهم ليكونوا على قدر المسؤولية في الوقوف أمامها بإزاء بقية نجوم العمل.

النمر يوقع كتابًًا عن سيرته الفنية في مهرجان أفلام السعودية.

اقرأ القافلة: فلم “ثوب العرس”. من عدد نوفمبر – ديسمبر 2018 مـ
اقرأ القافلة: فلم “هجّان”. من العدد 702 (يناير- فبراير 2024 مـ )

مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “عبدالمحسن النمر”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *