مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير - فبراير 2023

عبدالله الخالد.. عنقودٌ من أحلام الصغار


محمد الدميني

محمد الدميني

حين يعود إليّ طيف الصديق والزميل الراحل عبدالله الخالد، رحمه الله، لا أُبصرُ سوى هدوئه ودماثته ومحبته للجميع، ولا ينازعه في ذلك سوى الراحل الآخر جبر صالح جمعة، رحمه الله، الذي كان شاعرًا أيضًا، وفلكيًا شغوفًا نتابع تنبؤاته بالطقس وتحليلاته الدقيقة، ولم تكن القصائد الإخوانية والتهكمية سوى عنوان لروح التسامح والصداقة الأثيرة التي ربطت بينهما.

كانت أرامكو، في أوائل الثمانينيات، تعقد مهرجانًا صيفيًا كل سنة يترافق مع فترة البرنامج التدريبي السنوي، الذي تستقبل خلاله الشركة أعدادًا من الطلاب والطالبات من جامعات المملكة. في ذلك المهرجان الذي لم يستمر طويلًا، تُعقد ندوات وتقام مسرحية وليلة غنائية، وتصدر نشرة أدبية حمَلت بداياتنا في كتابة المقالات والنصوص.

في صيف 1982م، تسنّت لي المشاركة في إحدى أمسيات ذلك الصيف الشعرية إلى جانب أسماء كبيرة هي: محمد سعيد المسلم وعبدالله الشباط وعبدالرحمن العبيّد، رحمهم الله جميعًا، وأذكر أنها أقيمت في معرض أرامكو القديم، الذي كان يقع على الأرض التي بُني عليها فيما بعد مبنى تنويم المرضى في مركز جونز هوبكنز أرامكو الطبي ومواقف السيارات التابعة له حاليًا.

هناك التقيت الراحل عبدالله الخالد لأول مرة، وقد نشر تغطية لأمسيتنا الشعرية تلك في مطبوعة “قافلة الزيت” الأسبوعية، ووضع صورة للأمسية في صدر صفحتها الأولى، 

وما زلت أحتفظ بها في أرشيفي الشخصي.

حين اقتربت لاحقًا من الراحل في قسم النشر في أرامكو، كان يعمل في تحرير النشرة الأسبوعية، لكن اهتمامه كان منصبًّا على أدب الطفل شعرًا وقصة، وهو ما لم نعهده فيمن عرفنا من الشعراء قبله، سوى الشاعر السوري سليمان العيسى، الذي زاوج في رحلته بين القصيدة الحرة وقصائد الأطفال وكان الخالد يكنّ له محبة خاصة.

وقد مضى الخالد في هذا الشوط بتصميم وحماس، فنشر إنتاجه في الأسبوعية وصحف محلية أخرى ثم ضمّها لاحقًا في عدة مجموعات شعرية، ونشر بعضها في موسوعة عربية اختصّت بأدب الطفل، فيما تُرجم بعضها إلى لغات أخرى، أما آخر كتبه فهو “حكاية صياد الصقور” الذي صدر بالاشتراك مع الكاتب هشام قربان.

وأتذكر أنني سألته يومًا ما عن سرّ اهتمامه بهذا النوع من الأدب الذي لا يحظى بالانتشار، فأجابني بأنه يكنّ مودة عميقة لعالم الطفل ومشاعره وأساليب تذوقه، وأنه يمتلئ بسعادة خاصة لا يوازيها شيء، حين تصل قصائده إلى يد الأطفال ويقرؤونها ويشعرون بمعانيها وقِيَمها التربوية، ولهذا يواصل كتابتها رغم صداها المعنوي الضئيل.

ولكن تشاء الأقدار أن أنتقل في عام 1993م للعمل في وحدة النشر العربي، التي كان يرأسها الراحل آنذاك، وبعد عدة مهمات في نشرة “قافلة الزيت”، ومجلة “الحصاد” التي توقفت لاحقًا عن الصدور، رسا بي المركب في مجلة “القافلة” مع الزميل نجيب القضيب.

كانت تحدث اختلافات في الرأي بين رئيس التحرير وفريق العمل، وتلك هي طبيعة الآلية اليومية لسير إنتاج المطبوعات الثقافية. يستبدّ به وبنا القلق حين يتأخر صدور العدد تارةً، ويخيّم عند تباين الآراء حول إجازة بعض النصوص الأدبية، ولا يكون التباين على شكل القصيدة الجديدة أو الكلاسيكية مثلًا، بل على مضامينها وإيحاءاتها، وعلى بعض الرموز الأسطورية أو الدينية التي تحفل بها تلك القصائد؛ وتلك فترة غلب فيها التعصب على كل شيء في الساحة الثقافية.

لكن العمل مع الراحل في المجلة كان مريحًا، فالنقاش معه مهما اختلفت الآراء لا يبلغ درجة الصدام، فقد كان يثق بإدارتنا للمجلة مضمونًا وشكلًا، ويتفهّم صعوبة إنتاج مجلة ثقافية شهرية بهذا المستوى من الرصانة دون أن يكون لها طاقم تحريري متكامل ومراسلون، وتواصل منتظم ومباشر مع الكتاب داخل المملكة وخارجها، لكي تواكب مثيلاتها من المطبوعات العربية.

كان تواصله، رحمه الله، للاطمئنان على أغلب زملائه وأصدقائه شبه دائم، وكنت أراه بين فينة وأخرى في أحد المقاهي المفضلة لديه في أحد المجمعات التجارية، وفي فترة كورونا العصيبة أغلقت الكثير من المقاهي والمحلّات أبوابها، وعندما مررت بمقهاه المفضل ذات يوم ووجدته مغلقًا شعرت بضيق، وحسبت ذلك نذير شؤم.

في شهر رمضان الماضي هاتفني الراحل لآخر مرة ليطمئن على صحة أخي علي الدميني، الذي كان يكافح المرض الأسود في أحد مستشفيات المنطقة، وألح عليّ كثيرًا لكي أقنع أخي بالزيارة، لكن علي كان يعيش للأسف أيامه الأخيرة فلم تحدث الزيارة، والمفاجأة المرّة أن يغيّب الموت صديقنا عبدالله الخالد بعد ذلك ببضعة أشهر فقط دون أن نتمكّن أيضًا من زيارته للمرة الأخيرة؛ لكن ذكراه الطيبة ستبقى حيّة في القلوب حتى نغادر هذه الحياة أو تغادرنا.


مقالات ذات صلة

تُتاح نسخة البي دي إف (PDF) من العدد 703 (مارس-أبريل 2024م) على موقع القافلة خلال بضعة أيام بعد إطلاق العدد على الموقع الإلكتروني.

في إطار واقعنا اليومي المعاش، هل يمكن أن نجد غربالًا نحجب به حقيقة تنامي النزعة الفردية، بمختلف أشكالها التي ننحاز إليها أو نخشى منها؟!

استطلاع آراء عدد من قرائنا، ومعرفة الفلسفة العميقة وراء دوافعنا في توثيق اللحظات، ومحاولاتنا للاحتفاظ بالزمن.


0 تعليقات على “عبدالله الخالد.. عنقودٌ من أحلام الصغار”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *