مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

فرشاة وإزميل

عبدالعزيز عاشور.. فنّه دعوة إلى التنقيب في أغوار النفس


غدير صادق

تحفّز أعمال الفنان عبدالعزيز عاشور، بروحانية “الأبيض” الذي يستحوذ على جل مساحاتها، المتلقي للغوص عميقًا في أغوار النفس، والتأمل في لوحاته الفنية ورؤيتها بنظرة معمّقة، وذلك من خلال تعمّده تقليل العناصر البصرية وتركيزه على اللون الأبيض، وكأنما يذكرنا بضرورة الاختزال والتجرد للوصول إلى العمق.
إنها دعوة مغايرة لما اعتدناه من الفن الذي يجعلنا نركّز على عناصره البصرية ومحاولات قراءة اللوحة ومعانيها، وما يستخدمه الفنان لإيصال قصة أو تجربة أو مجاز. بينما في أعمال عاشور، اللوحة هي مجرد وسيلة لغاية، وهي فهم النفس والرؤية العميقة التي تكمن في ذواتنا. فلوحاته البسيطة والاختزالية، هي أداة تساعدنا في فهم ذواتنا والرجوع إليها للوصول إلى المعنى والرسالة التي نحتاج إليها.

لطالما كان الفن انعكاسًا لمحاولات الإنسان فهم الحياة من حوله، أو التعبير عن مكنونات نفسه، وتوفير تجربة بصرية مجازية أو انطباعية تحاول فهم العالم وتجسيده، والتعبير عن التجربة الوجودية المعقدة التي نختبرها كبشر. لربَّما كان الفيصل في أعمال عبدالعزيز عاشور، هو لجوؤه إلى التصوّف والتقشف في العمل، حيث يكون العمل هو الوسيلة وليس الغاية، التي يمكن للمتلقي من خلالها الولوج في ذاته والتعمق فيها من أجل الوصول إلى الوضوح.

خاض عاشور تحولات عديدة أسهمت في بنائه كفنان؛ منذ تركه مقاعد الدراسة الجامعية والخوض في معترك الحياة العملية.

سلاح الموهبة

وُلِد عبدالعزيز عاشور في جدة عام 1963م، وقد تلقن الفن من والدته التي كانت تعمل في الخياطة والتطريز. لم تكن رحلته سهلة، فقد كانت علاقته مع الجامعة متوترة، وكان كثيرًا ما يجد نفسه منغمسًا في رسم الاسكتشات في قاعات المحاضرة، غير عابئ بالدرس. فحينئذٍ عزم عاشور على ترك صفوف الدراسة والالتحاق بسوق العمل، ولم يتلقَّ تعليمًا أو تدريبًا أكاديميًّا في الفن، فكان يعمل على تطوير موهبته واستكشافها بنفسه، وكان ذا جرأة ودأب، ماضيًا بسلاح الموهبة والإيمان بذاته في مسيرته التي بدأت مطلع الثمانينيات الميلادية.

ويرى عبدالعزيز عاشور أن الإبداع سمة موجودة بدواخلنا جميعًا، ولكن الفارق يكمن في من يدأب على استكشافه وتطويره أو تركه وإهماله. يتحدث عن بداياته، قائلًا: “كل إنسان يولد وبداخله مبدع صغير، الفرق بين المبدعين وغير المبدعين أن هناك من اختاروا ملاحقة ومتابعة خصلة الإبداع في دواخلهم بشكل حقيقي وجاد، بينما الآخرون تركوا ذلك، وكأن الأمر لا يعنيهم، وهذا لا يعني تصويب فئة وتخطيء أخرى، وإنما كل منهما اختار لنفسه أسلوبًا يعينه على الحياة”.

المعرض الأول (عدسة: عاصم برنجي).

كان عاشور واعيًا بموهبته وميوله الفنية منذ صغره، حينما التمس شغفه بالخط العربي في دراسته المرحلة الابتدائية، ثم الرسم في المرحلة المتوسطة. ومن هنا بدأت رحلته في عالم الفن، وسعيه الدائم لاستكشاف أسلوبه الخاص. وفي عام 1983م، عرض أعماله، أول مرَّة، في معرض جماعي في مسقط رأسه جدة، ومن حينها توالت مشاركاته في المعارض المحلية والعالمية.

الفيصل في أعمال عبدالعزيز عاشور، هو لجوؤه إلى التصوّف والتقشف في العمل، بحيث يكون العمل هو الوسيلة، وليس الغاية.

وكان أحدث معرض أقامه عاشور ضمن الأنشطة التي صاحبت بينالي الدرعية للفن المعاصر، الذي استضافه استديو مسند في حي جاكس بالدرعية، وترعاه بدور السديري. ويحدثنا عاشور عن هذا المعرض، قائلًا: “اخترت أن أكشف عن صورة مبسطة للمتغيرات والمستجدات الجمالية التي أشتغل عليها، وأردت أن أحتفي بها في حي جاكس الذي تتنامى فيه الطقوس البصرية بشكل لافت، وأن أستفيد من تزامن معرضي مع انطلاقة بينالي الدرعية، فهو من الأحداث الفنيّة الأكثر أهمية في المنطقة. لقد قدمت تنصيبات في تيارات ما بعد الحداثة معززة ببيان فكري، وحتى تجربتي الموسومة (مارك روثكو وأنا) تقع وفق نواظم التيارات الجديدة”.

حضور الأبيض

يعزو عاشور اختياره للأبيض عاملًا لونيًا مسيطرًا على لوحاته، إلى رمزية الأبيض في الثقافة العربية، وخصوصيته التي منحته وسام النقاء والصفاء دون باقي الألوان، فيقول: “انشغلت بذائقة الشرق اللونية، خاصة اللون الأبيض، الذي يعد لون الرداء العربي، وخاصة رداء المسلمين في العمرة والحج، وأن طبيعة هذا اللون فيه من البساطة والتقشف والجمال ما لم يكن في أي رداء آخر، حتى بلغ بهم أن يستخدموه رداءً للموت، إنها فلسفة روحانية خارقة تأسر الروح والقلب معًا”.

ويضيف عاشور: “هناك البيت العربي الأكثر حضورًا في ذاكرة العمارة كلها باللون الأبيض، وغير هذا كثير في الثقافة العربية، من هنا كنت شغوفًا باللون الأبيض، ومن هذه المنطلقات جاءت عباراتي التي قلت فيها إنني أتمنى أن يرانا المتلقي من داخله، ومن تلك المكنونات التي تتجسد فيه. إن اللون الأبيض فيه من البلاغة ما لم أجده في أي لون آخر، إنه لون سطح قماش اللوحة التي يضمر على جسدها الفنان صراعًا بينه وبين ألوانه، إنه لون يعزز بلاغة جمالية في ثقافتنا البصرية”.

الفرق بين المبدعين وغير المبدعين، أن هناك من اختاروا ملاحقة خصلة الإبداع ومتابعتها في دواخلهم بشكل حقيقي وجاد.

فلسفة روحية خاصة

يلجأ عاشور إلى البياض، لأنه يحمل الكثير من المعاني التي ترتبط بالسلام والروحانية والنقاء والصفاء. وفي اعتقاده أن الأبيض ذو فلسفة روحية خاصة ارتبطت بالشعائر الدينية المقدسة. فهو لون الزهد والتصوف، ومن خلاله يستهدف عاشور أن يلتمس هذا العنصر الجمالي الذي تجسد فلسفته اللونية الخاصة مكانة ما في نفس المتلقي.

يصف عاشور شغفه باستخدام الأبيض، قائلًا: “هو لون لا يقبل أي فصيلة من الألوان الأخرى بالطريقة التي تظن، إنه لون روحاني حالم يصعب عليك فهمه، مع أنه بسيط ومفرط في البساطة بشكل آسر، وهو من أكثر الألوان تعقيدًا، بل وعلامة تدل على روحانية تنتمي إلى فلسفة متأصلة في طبيعة مجتمعات الشرق أكثر منها في الغرب”. وكانت لعاشور علاقته الخاصة بالأبيض، وكان دائم الرجوع إليه، حتى عندما كان يعمل على التجريب والاكتشاف في فنه. فبالنسبة إليه، لم يكن الأبيض مجرد خلفية يلقي عليها ألوانه، ولكنه كان حجر الأساس في تكوين لغته البصرية.

تقشف اللوحة

تأثر عاشور بالفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد (1925م – 2004م)، الذي يُعدُّ من مؤسسي الحركة الفنية الحديثة في بغداد. وكان لآل سعيد تأثيره الخاص في الفنِّ السعودي وفنَّانيه؛ إذ درّس الرسم وتاريخ الفن في معهد التربية الفنية في المملكة العربية السعودية عامي 1968م و1969م، كما رأَس قسم الدراسات الجمالية من عام 1980م حتى عام 1983م، في دائرة الفنون التشكيلية التابعة لوزارة الثقافة والإعلام. وكان شاكر آل سعيد مؤسسًا لحركة البُعد الواحد، ثم أسّس جماعة البُعد الواحد في بغداد، مع ثلة من الحداثيين العراقيين مثل جواد سليم.

وكان لآل سعيد خطه وتقنياته الخاصة التي لم يأتها أحد دونه، حيث كان يعمل على تخريب الكانفاس وحرقه من أجل إعطاء اللوحة أبعادًا جديدة وملمسًا غير مفضّل. وكأنه من خلال عملية التخريب المتعمدة هذه، يخلق كانفاسًا مختلفًا وجديدًا ذا بُعد خاص.

التقاء ذائقتين

ويستطرد عاشور عن تأثره بالراحل قائلًا: “مسألة التقشف في الفن كانت خيارًا فكريًّا وفلسفيًّا تجسدت تصوراته منذ عام 2000م، ثم من خلال معرضي الموسوم (الما… بعد) في غاليري أرابيسك في جدة عام 2002م. مسألة التقشف أو التصوف بدأت معي منذ أن التقت ذائقتي بالعراقي شاكر حسن آل سعيد، واستلهمت من تجربته التي يخضب فيها مسطحاته بتقنيات أقرب إلى التكلسات الجدارية والكتابة على الجدران وطقوسهما. عندما شاهدت أحد أعماله باللون الأبيض، كانت مثل جدار عليه كتابات عفوية. أسرتني رهافة وبلاغة التقنية التي تمترس حولها عمله الفني، لكن آنذاك كان آل سعيد مهتمًّا بالحروفية وأصدر حولها بيانه التأملي كملاذ لفن عربي خالص، لكنه لم يأتِ على ذكر اللون الأبيض بشكل مستفيض، فقد كانت إشكالية الهوية آنذاك أهم بكثير من أي مسائل أخرى”.

من خلال هيمنة الأبيض على اللوحة، يستدعي عاشور التقشف بوصفه رمزية ودلالة فلسفية، يستهدف من خلالها الاتصال بأبعاد جديدة، والتركيز على المعاني التي يحملها البياض في العقلية العربية الشرقية، ومحاكاة هذه المعاني من خلال أعماله. لربَّما اتخذ عاشور منحى مختلفًا في تجربته الفنية؛ إذ كان البياض والتقشف هما الأساس. لم يكن منغمسًا أو متوترًا في خلق لغة بصرية مكثفة أو ذات دلالات مثقلة، ولكنه لجأ إلى التقشف والبياض كتجربة بقيت معه وتحدثت إليه، واستطاع من خلالها رؤية نفسه وفلسفته الفنية التي تحمل دعوة إلى النفس والتأمل، حيث الولوج في الذات هو السبيل الوحيد لرؤية لغته اللونية الخاصة وفهمها. ولذلك، فإن أعمال عاشور ليست دعوة صارخة إلى التعمق في تفاصيل العمل ورموزه البصرية التي تدمج بين التجريد والخط العربي، بل هي تتحدث بهمس وتقول للرائي: “ستراني من خلال ذاتك”، وهذا ما أثار الاهتمام بأعماله؛ الهدوء والسكينة والتأمل الذاتي الذي تتطلبه من الرائي.

أدوات الكاتب هي العبارات والجمل، وأدوات الفنان الألوان والخطوط، وطبيعة المنجز البصري صامتة، بينما اللغة مقروءة ومتحرّكة.

تجريد الحرف

بالإضافة إلى تجربته الفنية بالأبيض، عمل عاشور أيضًا في البحث عن الحرف العربي، والتجريب في تجريده وإعادة إنشائه. ويعزو عبدالرحمن السليمان، في كتابه “مسيرة الفن التشكيلي السعودي”، الأمر إلى أن عاشور كان متأثرًا ببعض معلميه في استكشاف الحرف العربي، مثل: بكر شيخون، وسليمان باجبع. فيصف أسلوبه قائلًا: “عندما بدأ عاشور يتخلى عن الحرف والكتابة، بدت ملامح إنسانية في تكويناته وبناء لوحته الهندسي، وبرزت نزعته إلى التجريد على تواري الحرف، وبقاء بعض أثره”.

ومن هنا، نرى كيف كان تطور أسلوب عاشور خاضعًا للكثير من التجريب والاختبار، حيث يرجع الفنان تطور أسلوبه الفني إلى تقمّصه دور “الشيخ”، فيصف تجاربه في استكشاف أسلوبه الفني وتطويره، قائلًا: “أحيانًا يحتاج الفنان أن يتقمّص دور (شيخ طريقة)، أو أن يعمل على إنشاء مختبر في محترفه، وهذا ما قد يساعده على إيجاد حلول تقنية وفكرية وجمالية لتجسيد رؤيته حول الخامات والمواد التي تساهم في إنجاز أعماله البصرية. على الأرجح أميل إلى مسألة المختبرات التي عادة ما تتسم بعمليات وتصورات وتخيلات أشبه بالعصف الذهني، وعندما تتمظهر أي محاولة على السطح، أقوم باختبار طقوسها حتى تنجح، وهذا يتطلب مزيدًا من الصبر والوقت”.

بين الكتابة والفن

لم تقتصر أعمال عبدالعزيز عاشور على ما ينجزه في مرسمه، فقد ارتدى الكثير من القبعات، وأدَّى الكثير من الأدوار في مجال الفن، ما بين التأريخ والكتابة والتقييم الفني. ففي عام 2011م، أصدر بالتعاون مع شركة المحترف السعودي في جدة، كتاب “تشكيليّون سعوديّون اليوم”، الذي يُعدُّ أحد الكتب القلائل التي تناولت موضوع تأريخ الفن السعودي وتطوره في العصر الحديث.

أدوات الكاتب هي العبارات والجمل، وأدوات الفنان الألوان والخطوط، وطبيعة المنجز البصري صامتة، بينما اللغة مقروءة ومتحرّكة.

وفي حديثه عن هذه التجربة الثرية، يشرح عاشور كيف كان من الصعب أن يوفق بين دوره كاتبًا، وامتلاكه أدوات الفنان: “خوض تجربة الفن والكتابة معًا مضنية للغاية، وطقوس وأدوات الكتابة تختلف فيما بينهما. صحيح أن بعض المعايير والقيم متشابهة، غير أنهما مختلفان في طبيعة المنجز. أدوات الكاتب هي العبارات والجمل، وأدوات الفنان الألوان والخطوط وصولًا إلى المواد المستهلكة. طبيعة المنجز البصري صامتة، بينما اللغة مقروءة متحركة، ولها تأثير أكبر من الفن، وهذا رأي شخصي. أمَّا بخصوص كتابي “تشكيليّون سعوديّون اليوم”، فقد أنجز بشكل احترافي ليقدّم صورة عن فنانين في محترفاتهم، وبصيغ تعطي فكرة عن الجانب الجمالي لكل فنان، ولعلي كنت معنيًّا بثقافة حضور الصورة الأكثر قيمة في عالم اليوم، وعززنا في الكتاب عدد الأعمال، وأظن أننا والناشر وفقنا في تحقيق الأهداف التي كنا نطمح إليها، ولم يكن ليتحقق ذلك لولا دعم الفنانين لهذه الخطوة، ولا أنسى الدعم والدور الملحوظ الذي قدّمته لنا وزارة الثقافة والإعلام في ذلك الوقت”.


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “عبدالعزيز عاشور”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *