سيبقى اسم الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري على مرِّ الأجيال عَلَمًا في التأريخ وعلم الآثار، وعنوانًا للمثقف القائم على أفضل وجه بدوره الاجتماعي. إذ لم يقتصر نشاطه على التأسيس الأكاديمي وتدريس علم الآثار في الجامعة، بل امتد إلى ميادين التنقيب والكشف عن مواقع أثرية مهمة مثل موقع الفاو في نجد. كما سيبقى اسمه مؤلفًا لسلسلة من الكتب المهمة، التي تعدُّ الآن ركيزة من ركائز نهضة علم الآثار في المملكة.
كان الأنصاري (10 أكتوبر1935 م – 6 مارس 2023م) واحدًا من أوائل المبتعثين السعوديين العائدين للمملكة بشهاداتهم العليا، وأمنيات وطموحات لازمتهم، وهم في مراحل دراساتهم المبكرة في مكة المكرمة، أو المدينة المنورة، أو الطائف، أو جدة بوابة الحرمين. وكان هؤلاء يتطلعون إلى أن يكون في بلادهم جامعة، وتحقَّقت أحلامهم بإنشاء وزارة المعارف في عام 1373هـ (1954م)، وتعيين المغفور له خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، أول وزير لها.
في تلك المناسبة، خصَّص المعهد العلمي السعودي في المدينة المنورة حصة التعبير ليكتب التلاميذ رسالة إلى سمو الوزير مهنئين ومعبرين عمَّا يجيش في خواطرهم وتطلعاتهم من سموه، فكان أن كتب الأنصاري في 1373/5/29هـ (3 فبراير1954م)، رسالة جميلة في أسلوبها ومضمونها. وضمَّن الرسالة طلبًا بجعل “مملكتنا بابًا مفتوحًا لروَّاد العلم ينهلون من ألوان الثقافة على أوسع نطاق مما لذَّ وطاب، وذلك لا يتأتَّى إلا مَتى فُتِحت المعاهد والثانويات في كل مدينة وقرية، وفُتحت الجامعات متمشية في منهجها على هدف هو نفع الوطن أولًا والعروبة به ثانيًا”.
ولعلَّ ما كتبه الأنصاري يُعبِّر عن لسان حال زملائه، ويجسِّد الوعي والطموح لجيل نشأ مع اكتمال وإرساء وحدة كيان الوطن، وبداية النهضة التنموية.
وجاءت البشائر بصدور الأمر الملكي، في 21 ربيع الآخر 1377هـ (13 نوفمبر 1957م)، بإنشاء جامعة الملك سعود. لكن الدكتور الأنصاري كان قد ابتُعث إلى مصر لدراسة اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة مدة أربع سنوات، عاد بعدها إلى الوطن معيدًا في كلية الآداب في جامعة الملك سعود. ولم يلبث أن ابتُعث لدراسة دكتوراة الفلسفة في قسم الدراسات السامية بجامعة ليدز. وفي تلك الفترة، تدرَّب على التنقيب عن الآثار مع المشرف على رسالته، ونقّب في موتيا بصقلية، وفي غيرها، إضافة إلى دراسة أسماء الأعلام اللحيانية. وعاد معزّزًا طموحه بتأهيل علمي وعملي راسخ.
جهوده بارزة إدرايًا وأكاديميًا، وقد نشر الوعي بأهمية الآثار بين طبقات المجتمع، من خلال وسائل الإعلام والمحاضرات.
أسلوبه الفريد في التدريس
كان الدكتور الأنصاري يُدرِّس تاريخ الجزيرة العربية القديم، والتاريخ الإسلامي المبكر. وكانت أول محاضرة حضرتها له، من دون استئذان، إذ كنت أرغب حينها في تغيير مسار دراستي في مرحلة البكالوريوس. فقد أسرني حديثه في محاضراته، وأسلوبه المميز في سرد الأحداث التاريخية المطعّمة بلمسات من الحضارة والآثار. كان يتطرق إلى الرحَّالة الغربيين من إنجليز وألمان وفرنسيين ومؤلفاتهم، ويعرّج على الكتابات العربية القديمة وأشكال حروفها، ومضامين نصوصها.
بعد انتهاء المحاضرة وقفت في الخارج ريثما يغادر القاعة، وقلت له: “يا دكتور عبدالرحمن أرغب في الانتقال من الجغرافيا إلى قسم التاريخ”. فرحّب بي أجمل ترحيب، وبعد أن تبيّن له مدى جديتي وافق على انضمامي إلى قسم التاريخ.
بدأنا نستوعب بالتدريج الخط المسند الجنوبي والشمالي، والكتابات الدادانية واللحيانية، والآرامية والنبطية، والمخربشات (الجرافيتية) التي أطْلق عليها كتابات البادية، والتي شاع اسمها في كتابات المستشرقين باسم “الثمودية”.
كان الأنصاري يظل واقفًا طوال مدة المحاضرة، ولا يجلس على مقعده المخصص إلا نادرًا، ولا يُملي درسه من كراس أو ملزمة، فكل ما كان بيده ورقة صغيرة، فيها رؤوس أقلام، يتتبعها بدقة، ويطلب من الجميع المشاركة في المناقشة، ولا يُغفل أحدًا. كان عدد طلاب القاعة لا يتجاوز العشرين طالبًا، والجميع يُصغي، ويطرب لما يسمع، ويدوّن ما هو مكتوب على السبورة. ولا يغادر المحاضرة حتى يطلب من الجميع التحضير لموضوع محدد يلقيه على مسامع زملائه في المحاضرة القادمة.
تأسيس جمعية التاريخ والآثار
فاجأنا الدكتور الأنصاري ذات مرة بالتحضير لاجتماع عام لطلاب الكلية، وكان العدد يزيد على مائة طالب، وبحضور عدد من أساتذة الكلية، وأخبرنا أن الجامعة وافقت على تأسيس جمعية للتاريخ والآثار، وأن يكون لها هيئة إدارية، ولجنة فرعية للطلاب. جرى الاقتراع على انتخاب الهيئة الإدارية للعام الدراسي 1967 – 1968م، برئاسة رئيس قسم التاريخ الأستاذ الدكتور عبدالعزيز صالح، يرحمه الله، وتولَّى أمانة الجمعية الدكتور الأنصاري، ثمّ في العام التالي تولَّى هو رئاستها.
بدأت الجمعية نشاطها بتنظيم الرحلات إلى المناطق القريبة من الرياض، مثل: الدرعية والجبيلة والعيينة وسدوس، التي لم يكن الوصول إليها في ذلك الوقت بالأمر السهل. وقد أكرمني الله أن أكون من المتحدثين خلال تلك الرحلات بجوار الدكتور الأنصاري، ومحمد الشعفي، وعبدالرحمن الحجي، ونافع القصاب. وشعرنا أن هذه الرحلات التي توالت طوال مرحلة دراستنا الجامعية أثمرت وعيًا بأهمية التاريخ والآثار، وسلّطت الضوء على مناطق تاريخية لها دورها الحضاري قبل الإسلام وبعده.
وتوالت رحلات الجمعية إلى مناطق أبعد من الرياض امتدت إلى الخرج والدوادمي وشمال المملكة. وإضافة إلى الرحلات، شملت أنشطة الجمعية تنظيم المحاضرات وعرض الأفلام التاريخية والأثرية، والتعريف بمشاريعها.
إسهامه في النهضة بإدارة الآثار
يعدُّ موسم الجمعية الثاني في عام 1969م، من المواسم التي تركت أثرها وآثارها العلمية والفكرية. فقد صدرت أول مجلة علمية للجمعية تضمنت موضوعات متنوعة جغرافية وتاريخية وأثرية. وكانت إدارة الآثار السعودية قد تأسَّست بالأمر السامي في 8/11/1383هـ (1964م)، وصدر نظام الآثار في عام 1392هـ (1972م)، وأنشئ المجلس الأعلى للآثار، وتولَّى إدارة الآثار الدكتور عبدالله حسن مصري بعد عودته بالدكتوراة في الآثار القديمة عام 1973م. وكان الدكتور الأنصاري عضوًا في المجلس الأعلى للآثار منذ بداية تكوينه، واستمرت عضويته في المجلس حتى ضمِّ وكالة الآثار والمتاحف إلى الهيئة العليا للسياحة، فاختِير عندها عضوًا في مجلس الإدارة، ثم عضوًا في اللجنة الاستشارية للآثار في الهيئة العامة للسياحة والآثار.
إضافة إلى عمله الميداني في الكشف عن الفاو، لكتبه التي أنجزها منفردًا أو مشاركًا فضل كبير في التعريف بحضارة الجزيرة العربية وتاريخها العريق.
في مجال التنقيب
كانت حفائر قرية الفاو العمل الأول الذي قاده الدكتور الأنصاري وارتبط باسمه. وكان العمل معه في هذا الموقع مدرسة فريدة للكشف الأثري والتدريب العملي الميداني للآثاريين الشباب، وكذلك موقع الرَبذة الإسلامي. وشكّلت المكتشفات الأثرية في الفاو والرَبذة مجموعة مهمة لمتحف الجامعة، والمتحف الوطني على حد سواء. كما شكّلت مع المكتشفات في عدد من المواقع الأثرية مادة مهمة لمعرض “روائع آثار المملكة” الذي نُظّم في عدد من المتاحف العالمية في أوروبا وأمريكا والصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها من المحطات.
وللدكتور الأنصاري دور كبير في بث الوعي الأثري بين طبقات المجتمع في مختلف أنحاء المملكة، من خلال البرامج الإذاعية والتلفزيونية، والصحافة، ومحاضراته في الأندية الأدبية والرياضية، والأكاديميات العسكرية، والصالونات الأدبية، والمدارس، وخاصة خلال رحلات جمعية التاريخ والآثار. فترك ذكريات عطرة في المجتمع السعودي.
كما كان له مواقف مشرفة في الندوات والمؤتمرات العلمية الدولية. فقد كان يؤمن برسالته التي يحملها، وهي إبراز الهوية التاريخية والحضارية التي تعتز بها المملكة. وكان قوي الحجة في مناقشاته مع العلماء الغربيين وغيرهم عندما يجد أخطاء تُروّج عن تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها، فكان يركز دومًا على الوحدة الحضارية للجزيرة العربية، والنسيج الحضاري المشترك في المناطق التي امتدت إليها الحضارة العربية والإسلامية.
مؤلفاته ومكانتها العليا
للكتب التي أنجزها الدكتور الأنصاري، منفردًا أو مشاركًا، فضل التعريف بحضارة الجزيرة العربية وتاريخها الضارب في القِدم، منها كتاب “الرياض عروس المدائن”، الذي ناقش آراء الباحثين حول أصل الرياض وما إذا كانت حجر اليمامة، واستعرض فيه تاريخ المدينة منذ تأسيس مدينة الدرعية والدولتين السعوديتين الأولى والثانية. وتطول قائمة المؤلفات المعروفة.
وأسهم الأنصاري في الإشراف على عمل موسوعي تبنته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، ألا وهو كتاب “المرجع في تاريخ الأمة العربية”، الذي صدر في 7 مجلدات عام 2007م، وشارك في إعداده أكثر من 300 من خيرة المؤرخين والباحثين العرب.
كما كان في مقدمة أعضاء اللجنة العلمية للكتاب الموسوعي “فروسية”، الذي صدر في مجلدين كبيرين باللغة الإنجليزية (عام 1996م)، ومثلهما باللغة العربية (2001م)، ويحكي قصة الخيل عبر العصور وفنون الفروسية في تاريخ المشرق والمغرب، وكتب بحثًا عن “الحصان في آثار قرية الفاو”.
ولأن الأنصاري كان يرى أن الإبل أهم من الخيل في حياة الشعوب، اقترح عملًا موسوعيًا عن الجمل عبر العصور.
وتحقَّق المقترح مؤخرًا بالتعاون بين مؤسسة ليان الثقافية ومكتبة الملك عبدالعزيز العامة بإصدار عمل موسوعي من مجلدين باللغة الإنجليزية (2020م)، ومثلهما باللغة العربية. وقد أُهدي هذا العمل الموسوعي للأستاذ الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري، رائد العمل الأثري في المملكة العربية السعودية، تقديرًا ووفاءً لخدمته حضارة المملكة وتراثها. ومن محاسن الصدف أن يصدر هذا العمل متزامنًا مع مبادرة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز، استحداث “جائزة الدكتور عبدالرحمن الأنصاري لخدمة آثار المملكة”.
رحِم الله الدكتور عبدالرحمن الأنصاري، وجزاه الله خير الجزاء على ما قدَّم في حياته من جهود، وما تركه بعد مماته من إرث وموروث تاريخي وحضاري للأجيال القادمة.
اترك تعليقاً