عندما يكون الشغف بالفن أصيلًا ومتمكنًا من النفس، وليس مجرد نزوة عابرة أو هواية جانبية، فلا بدّ له من أن يرتقي بصاحبه إلى الإبداع على أعلى المستويات، ولو كان ذلك بالاعتماد على الذات، ولو على الذات فقط. هذا هو حال الفنان السعودي مدني عبادي المعروف في عالم الموسيقى العربية عازفًا على آلة القانون وملحنًا، بعد أن عرفته أرامكو السعودية محاسبًا في مكاتبها. ولاستطلاع مسيرته الفنية المدهشة، التقته القافلة، وكان لها هذا الحوار معه.
● متى بدأت رحلتك مع الموسيقى؟ وهل كان القانون أول آلة عزفت عليها؟
بداياتي مع الموسيقى كانت في المرحلة الابتدائية، ولكن ليس مع القانون. أذكر أنني رأيت آلة الأوكورديون أول مرة وأنا أدرس في الصف السادس الابتدائي، فرحت أرتجل عليها الألحان وأحاول تقليد بعض الأغاني. إلا أن إمكانات هذه الآلة المحدودة جعلتني أجرب شيئًا آخر، فكان أن توجهت إلى آلة المولوديكا، التي تشبه الأورج ولكنها آلة نفخ وليست وترية، وتدربت عليها بشغف شديد حتى تحسَّن أدائي بشكل ملحوظ.
وأذكر أنني وصديقي محمد الخطابي كنا قد شكلنا ثنائيًا رائعًا، واكتسبنا شهرة على مستوى المدرسة. ثم تطور الأمر إلى أن أصبحنا نشارك في بعض الحفلات التي تقام على مستوى إدارة التعليم. ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت أشارك الفنانين في أفراح الحي.
ولكن كما يُقال، لا يوجد تعلُّم من دون ارتكاب أخطاء. لم تكن آلة المولوديكا قادرة على إنتاج نغمة “ربع تون”، الأمر الذي جعل عزفي يبدو نشازًا مزعجًا يضايق الفنانين. وبذلت جهدي للتغلب على هذا العائق ولكن من دون فائدة. فاضطررت إلى تجربة آلة أخرى، وفي هذه المرة كانت الآلة هي العود، أيقونة التخت الشرقي. في البدء، صنعت عودًا خاصًا بي، لأني لم أكن أستطيع ابتياع واحد بسبب قلة ذات اليد، وقد صنعته على هيئة قريبة من شكل الربابة، وابتعت أوتاره من سوق الفنانين في وسط البلد، ثم أخذت أعزف عليها حتى أتقنت بضع أغنيات. وبعد ذلك، تمكنت من شراء عود حقيقي بمساعدة من العائلة والأصدقاء، وكانت تلك المرحلة حاسمة في أن أتخذ قرارًا مصيريًا بأن أتعلَّم العود على يد فنان متمرس.
الرحلة مع القانون
● كيف استقر بك الأمر مع آلة القانون بعد ذلك؟
كان الفنان يحيى لبان هو المعلِّم الأول الذي تتلمذت على يديه، وكان لحسن حظي يسكن في الحي نفسه الذي أسكن فيه. فدرّبني وتعلمت منه فنّيات السلم الموسيقي بسرعة. لكنني صادفت تحديًا جديدًا لم يكن في الحسبان، فمن المهارات اللازم إجادتها مع عزف العود مهارة الغناء، وأنا رجل أعشق العزف لا الغناء، وأجد نفسي عازفًا وتريًا لا مغنيًا.
عندما شاركت يحيى لبان برغبتي هذه نصحني بتعلم الكمنجة. وفعلًا، لم يمض وقت طويل حتى تعلمت عزفها وأجدته، وأصبحت عضوًا رسميًا في فرقته. فكنا نحيي الحفلات والسهرات في مختلف مدن الحجاز، واستمر الأمر هكذا فترة طويلة من الزمن. وأذكر أنه كان من ضمن أدوات الفرقة الموسيقية آلة قانون، لكن لأنه لم هناك من يعزف عليهن فقد كان مركونًا بلا اهتمام.
استمر ذلك حتى كانت إحدى زيارات الفنان خالد الشريف لنا ذات صباح، وهو أحد أمهر عازفي القانون الذين استمعت إليهم على الإطلاق. وفي تلك الزيارة، شاهدته يعزف القانون، وسمعت نغمات تلك الآلة الصداحة لأول مرَّة، فأخذت بلبي واستولت على روحي. وأدركت ساعتها أني وجدت الآلة الحلم؛ الآلة التي سأقضي حياتي كلها أداعب أوتارها.
● يقول كثيرون إن آلة القانون هي الآلة الأم في التخت الشرقي، وأنها تعادل البيانو عند الغرب، ما مدى صحة هذا الكلام؟
القانون في الموسيقى العربية هو الآلة الأساسية المركزية في التخت العربي، وهو يماثل تمامًا آلة البيانو في الموسيقى الغربية، وذلك لسبب بسيط هو أنه يحتوي على مساحة كبيرة من الأوتار قادرة على تخليق عدد كبير من الأنغام. فالقانون يحتوي على “ثلاثة دواوين ونصف”، أو كما يُقال بمصطلحات الفنانين “ثلاثة أوكتاف ونصف”، وهو سيد الآلات في الموسيقى العربية بلا منازع. فهو الضابط وهو القانون، ويُقال إنه سُمي بذلك لهذه الوظيفة التي يقوم بها في التخت الشرقي.
● يرى الفيلسوف الفارابي في كتابه الشهير “الموسيقى الكبير”، أن الموسيقى علم رياضي يُشيّد على قواعد أشبه ما تكون بقواعد هندسية، هل وجدت قربًا بين الرياضيات والقانون، خاصةً وأنك عملت محاسبًا في وقت سابق؟
لا شك في أن علم الموسيقى يرتبط ارتباطًا شديدًا بالرياضيات والفيزياء؛ لأن الموسيقى تعتمد على الرقم في حساب الزمن، والزمن هو الأساس في علم الموسيقى. وأحد التعريفات الكلاسيكية للموسيقى هي أنها عبارة عن إيقاع ونغم، والإيقاع يعتمد على الأرقام. فأنت حينما تريد عزف أي مقطوعة موسيقية لا بد أن تعرف إيقاعها وكم الزمن الممكن استخدامه.
كذلك نجد أن عدد “الموازير” للمقطوعة يعتمد على الأرقام، و”المازورة” هي النغمة الموسيقية في اللحن، فاللحن الموسيقي المراد عزفه أو أداؤه يتضمَّن عددًا معينًا من الموازير. الموسيقى مرتبطة كثيرًا بعلمي الرياضيات والفيزياء. وقد كنت أستمتع بالعمل محاسبًا لأن لعملي صلة وثيقة بهوايتي الفنية، فالخلل في الحسابات يعادل النشاز في الألحان. فكما لا بد من أن تكون الأرصدة متسقة في ميزانها المالي دائنها مع مدينها، كذلك لا بُد أن تكون النغمات موزونة في سلمها الموسيقي.
والرحلة الأخرى مع التلحين
● ذكرت في البدء أنك لم تستمر في تجربتك الغنائية، حين لم تجد نفسك مغنيًا، ولكننا نعرف لك ألحانًا صدح بها مغنون كثر، فماذا عن رحلتك في هذا المجال؟
ثّمَّة ترابط بين العزف والتلحين. وأستطيع القول إن العزف هو صوت الروح الخارجي، في حين أن التلحين هو صوت شغفها الداخلي. لقد لحنت قرابة 15 أغنية لفنانين سعوديين وآخرين عرب، حيث لحنت للفنان عبدالمجيد عبدالله (لا تعلمني ولا تكذب علي) من كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن، وهي ذات الأغنية التي غنتها الفنانة الراحلة ذكرى، كما لحنت له أيضًا (سعيد الحظ قلبي).
أما الفنان عبادي الجوهر، فقد لحنت له أغنية (يا بعيد الدار)، ولحنت للفنان علي عبدالكريم أغنية (يا وطن غالي علينا)، وللفنان عبدالله رشاد أغنية (سمعت صوت الوتر). كما لحنت أوبريت الجنوب، من كلمات الشاعر الراحل حسين جبران، وغناء الفنانين محمد عمر وصالح خيري. ولحنت أيضًا أغنية (يا شمعة المجلس) للفنان محمد عمر.
عندما أتذكر المصاعب التي عانيناها، لا أملك إلا أن أغبط الجيل الصاعد متمنيًا له كل نجاح وتوفيق ليرفع شأن المملكة الثقافي والفني. فهذه المعاهد ستتبنى الشباب الموهوبين وتصقلهم على أسس علمية أكاديمية
● وماذا عن مشاركاتك الخارجية؟
على الصعيد العربي، لحنت للفنانتين المغربيتين نادية رشدي وبديعة يحيى قرابة خمسة ألحان. وأخيرًا، لحنت للفنانة اللبنانية سمية بعلبكي أغنية (يسعد لي ياك)، وأغنية (أنا جيت اشهّد عليك). كما شاركت ضمن الوفد السعودي في المحافل الدولية، مثل مهرجان الأغنية العربي الخامس في سوريا عام 1980م، ومهرجان الأغنية العربي الثاني في العراق عام 1985م، ومهرجان تستور في تونس عام 1981م، وكذلك “الإكسبو” في فانكوفر بكندا عام 1986م مع فنان العرب محمد عبده والفنان عبدالله رشاد والفرقه الشعبية.
● مع النهضة الثقافية التي تعيشها المملكة الآن، وُلدت هيئة مختصة بالموسيقى، ومن ركائزها الإستراتيجية التعليم، إذ أُنشئت أكاديمية لاستقطاب الموهوبين وتعليمهم. كيف تجد مستقبل الموسيقى الآن مقارنة بما كان عليه الحال مع جيلكم؟
من عاصر الماضي والحاضر ورأى بأم عينيه جهود الجهات الحكومية اليوم، ممثلة في وزارة الثقافة والفنون، لإنشاء معاهد موسيقية لتعليم وتثقيف الجيل الجديد والشباب الموهوبين بأحدث الوسائل الأكاديمية، لا يملك إلا أن يُشيد بالقائمين عليها. كنا نفتقر على مثل هذه المعاهد في زمننا، كما كنا في حاجة لمثل هذا الاهتمام. عندما أتذكر المصاعب التي عانيناها، لا أملك إلا أن أغبط الجيل الصاعد متمنيًا له كل نجاح وتوفيق ليرفع شأن المملكة الثقافي والفني. فهذه المعاهد ستتبنى الشباب الموهوبين وتصقلهم على أسس علمية أكاديمية هم بأمس الحاجة إليها، لأن لدينا كثيرًا من المواهب التي تحتاج إلى من يوجهها التوجيه السليم.
عودة إلى المنطلق الأول
● يعرفك كثيرون بوصفك عازفًا للقانون، لكن قلائل يعرفون مدني عبادي موظف أرامكو السابق. حدثنا عن تجربتك مع أرامكو السعودية وكيف التقت هذه التجربة مع هوايتك؟
أعتز أيما اعتزاز بأني كنت أحد منسوبي هذا الصرح الوطني العظيم، إذ عملت في أرامكو السعودية مدقق حسابات ومراجع عقود. وقد تعلَّمت من مسيرتي المهنية فيها احترام العمل، والاحترافية العالية، وأن الانضباط والتطوير المستمر هما السر خلف كل نجاح.
لقد وجدت في الشركة التشجيع والرعاية لموهبتي، فقد كان المسؤولون في الإدارة العليا يشجعون المواهب في كل المجالات سواء أكانت فنية أم رياضية. ومكنني هذا الدعم من أن أمارس عملي وهوايتي بأريحية. فقد كنت أحد أعضاء فرقة أرامكو الخاصة، وكنا أنا وزملائي نعزف في المناسبات التي تخص الشركة، وأحيينا حفلات كثيرة في الظهران والشيبة وفي جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية “كاوست”. كما شاركت في مناسبات لأرامكو خارج المملكة في الصين وزيورخ.
اترك تعليقاً