مرّت ذكرى رحيل الفنان طلال مدّاح، فحضرت في الوجدان أغنيته الشهيرة “شفت أبها”. ولأن أبها عاشتْ ولا تزال مواسم مفتوحة على المطر والربيع والغناء والطرب وكافة العطاءات الحميمة، كان لا بد من استعادة ذكرى المطرب الراحل الذي يعرف أبها وتعرفه، وأحبها وتحبه، حتى إن أغنيته هذه شكلت رابطاً وجدانيّاً معها، ثم جاءت ساعة رحيله، وهو أحدُ العاشقين لها، إذ يغني لها في عقر دارها، فتخلّد المكان، مسرح مركز الملك فهـد الثقافـي بأبهـا “مسرح قرية المفتاحة”، بحمل اسمه تكريماً لعطائه الفني الذي كانت بداياته من هذه المدينة البهية.
ولِد طلال بن عبدالشيخ بن أحمد بن جعفر الجابري عام 1940م في مكة المكرمة، وبسبب حالة اليتم المبكرة بفقْد والده، ثم والدته، انتقل ليعيش في الطائف مع خالته المتزوجة من علي المدّاح الذي سمـاه هذا الاسم الذي ستعرفـه به الأرضُ في سنواته اللاحقة.
عاش طلال في كنَف زوج خالته، الذي أدرك ما لدى الشاب من خامة صوتية لافتة، فسعى في توظيفها مبكراً في حفلات المدارس فترةً من الزمن، قبل أن نراه يقفز بالأغنية السعودية قفزات مذهلة ويعايش تسجيلات الأسطوانات ثم أشرطة الكاسيت، وصولاً إلى شركات الإنتاج الكبرى ومسارح عواصم الدول العربية.
هذا الانتقال إلى الطائف، زاد من تسليط الضوء على الفن الغنائي الحديث الذي بدأ يتشكل في الطائف المأنوس، المدينةِ التي رافقت بأنشطتها وحيويتها تغييرات المجتمع السعودي المعاصر.
وهكذا فإن صاحبُ الحنجرة الذهبية،ولد في أغسطس ورحل في الشهر نفسه بعد ستين عاماً وستة أيام. ومنذ صباه تعلّم العزف على آلة العود وغيره من الآلات الموسيقية، وأبدى رغبة كبيرة في تطوير موهبته وقدرته في العزف إضافة إلى الغناء- مجاله الأول. وفي الستينيات، شارك في فِلْم سينمائي مع الفنانة صباح، ومثّل في مسلسل تلفزيوني عنوانه “الأصيل”، ومع انتشار أغنياته وحفلاته، شقّت الأغنية السعودية مساراً جديداً، ومن طائف الأنس أطلق أبو عبدالله -كما يُعرف عند محبيه- أغانيه العذبة، وشارك بجمال صوته وبهاء إطلالته في تلوين حياة السعوديين وقطاع كبير من الأشقاء العرب.
ظهرت أغنيته الأولى “وردك يا زارع الورد” في العام 1959م، ومنذ ذلك التاريخ، سيصلُ الورد إلى المحبين، مما جعله يشقّ طريقه بثبات، ليستحق لقب “صوت الأرض”، كما استحق الألقاب: “قيثارة الشرق” و”فارس الأغنية السعودية” و”فيلسوف النغم الأصيل” و”زرياب” (أطلقه عليه الموسيقار محمد عبدالوهاب) و”أستاذ الجميع” (أطلقه عليه المطرب محمد عبده).
ونال أيضاً التكريمات المتتالية داخل وطنه المملكة العربيـة السعودية، كيف لا وهو من تغنى بـ “وطني الحبيب وهل أحب سواه”، وكذلك تكريمات من خارج بلاده، والتكريم الأكبر والرصيد الأهم، كما كان يردّد، هو رصيده في قلوب الجماهير والعشــق حدّ الشغـف الذي حظي به طوال مسيرته، وقد لوّن حياة عشّاقه بأكثر من 70 ألبوماً غنائيّاً.
شفت أبها
ولأن أول أغنية غناها واُشتهر بها “وردك يا زارع الورد”، تتغنى بالطبيعة، فإن أغنية “شفت أبها”، سارت على المنوال نفسه، كما أنها من أوائل القصائد الغنائية الحديثة في حب أبها.
كلنا نريد أن تبقى “إيفا” كما عرفت في النصوص القديمة، مدينةَ الحسن والضباب والخضرة والبساط الأخضر. فهكذا رآها الشاعر المصري أحمد رجب، الذي سَحَرَهُ الاسمُ المرتبط بالصفات، الاسم الدال على جوهرها والنابع من حقيقتها، أي أبها وعلاقة كل حرف من حروف اسمها بالبهاء.
وعلى طريقة الشعراء العرب، يتخيّل شاعر “شفت أبها” أن أحداً سيلومه في هذا الحب الذي سلب منه القلب والوجدان:
لا تلوموني في هواها .. قبل ما تشوفوا بهاها
هي بس اللي هويتها .. قلبي ما يعشق سواها
قلبي حبك والله يا أبها إنت أجمل من الخيال ..
شفت نورها عند بابها قلبي حن للجمال ..
قلت ادخل شوف جمالها ..
شوف بهاها اشوف دلالها ..
لا تلوموني في هواها .. قلبي ما يعشق سواها
شفت أبها لابسة حلّة والحزام ذهب جميل ..
شفت أبها قلبي يحتار والخضاب خلّاني أميل ..
شفت أبها راح قلبي ..
شفت أبها فاض بي حبي ..
لا تلوموني في هواها .. قلبي ما يعشق سواها
شفت أبها في المراعي من حواليها تزيد ..
والجمال تنظر تراعي لجمالها من بعيد ..
شفت فيها نفوس وديعة ..
شفت فيها قلوب صريعة ..
لا تلوموني في هواها .. قلبي ما يعشق سواها
كثيرون رأوا أن فتاةً تسكن بين السطور وخلف الكلمات، وهي من تستحقّ هذا من الشاعر، ثمّ جاء مبدع كطلال مداح، فأعطاها من عذوبة صوته، ودفقات روحه هذا الأداء الآسر. فليكن، عندما يكون جمال المكان متجسداً في ملامح شخص وروحه وحضوره، فنحن أمام حالة اشتركَ الشاعر والمطرب في تشكيلها، ولأن الفن ذائقة أولى تتلبس الكثيرين، فلا بد من الاستماع إلى وجهة نظر أخرى ترى أن الأغنية لا يستحقها غير أبها، المدينة البهية. وهنا لا بد من القول إن الكلمات تنصف الفتاة البالغة البهاء، والتي اعتبرها البعض أبها، كإنصاف للمدينة المتوسدة للسهول والنائمة في أحضان الجبال، تلك التي تختال رائعة بين المراعي، متوشحّة بحزام من الذهب الأصفر والأخضر!
شفت أبها لابسة حلّة والحزام ذهبي جميل
بنتُ المكان هذه، هي التي تستحق هذا الوصف الحميم وهذا التعلق الشديد من قبل الشاعر، فليس عجيباً أن يجمع الشاعرُ بين صفات الفتاة الجميلة التي رآها في أبها، وبين صفات المكان البديع الذي لفتَ الأنظار منذ فترة مبكرة متحليّاً بآيات الحسن والجلال.
وبكلماته الهادئة القريبة جداً من البساطة، يصل الشاعر إلى اكتشاف أحد أسرار أبها، تلك هي نفوس أهلها، النفوس التي تشبه الطير في رقّته ووداعته وحتى انطلاقته مُحلّقاً في الفضاء.
طيور تهوى التحليق مع هواء السودة، وتطوف على جبل نهران وتشرب من غدران الوادي الطالع، وتواصل أسرابها، لتستحمَّ في الشلالات المنسابة بعذوبة من قمم الجبال إلى العيون الوادِعة.
شفت فيها قلوب صريعة
مطربنا الراحل، صاحبُ القلب الطيب الذي توقّف في أبها، هل يمكن أن نقول إن أبها اختارته بالقرب منها في آخر عهده بالأرض والغناء، أكلُّ هذا ليحملَ مسرحُها الكبير اسمه بكل الوفاء لتاريخه ولو بعد حين؟.
نعم، إنه طلال الذي عانى من متاعبَ القلب في سنواته الأخيرة، لكنه لم يعمل بنصائح الأطباء، وإنّما أصغى فقط لنداءات المحبين، واستمع لدعوات القلوب التي تنتظره، فكان قلبُه الوديع أحدَ القلوب الصريعة في هوى أبها.
هي لحظة السقوط إلى أعلى، كما وسمها أحدُ الكُتَّاب، السقوط محتضناً العود مدوّناً السطر الأخير من الحكاية الخالدة التي اسمها طلال مداح، الحكاية التي كُتبت ونبتَتْ في أبها، سقط ليعلو أكثر وأكثر، واقترب بخده الوفيّ ليسمع صوتَ الأرض من خشبة مسرح المفتاحة، فإذا بها تقول له: الموت حبّاً خيرُ ختام.
طلال وأبها حكاية تعجز الكلمات عن الإحاطة بها كاملة، فخيرُ ما يوجز هذه الحكاية، ويعطيها المعنى الذي تستحقه أن نقول: ليته عاش بيننا أكثر، ليقول:”عشت أبها” وحينها، سيعـرف مزيداً من هـوى وعشق أبها التي أحبّها فأحبته، وزادت التكريم الأبهى وفاءً لسيرته ومسيرته، فحفرت إلى الأبد اسمه على “مفتاحة” الطرب ومعقِل الفن.
اترك تعليقاً