لعل أبرز خواص خوالد الأدب في كل الثقافات هي مقاومتها للتقادم، ومعاصرتها لجميع الأزمنة، وقابليتها لتعدُّد القراءات المتجدِّدة وكأنها كُتبت في اللحظة الراهنة. وقد يرجع ذلك لوقوعها على العناصر الجوهرية من حياة الإنسان الفرد وهوية الجماعة. وعلى الرغم من تباعد الأزمنة مع العصر الجاهلي، فإن نماذج شعره التي سميت بالمعلَّقات أو المذهبات أو السموط أو المشهورات تقدِّم فرائد الشعر في سبع أو عشر قصائد مطوّلات، تمثل الإنسان والطبيعة والحياة في أجلى وأحلى صورها.
ومهما أثير حول المعلَّقات من دعاوى الانتحال، أي نسبتها زوراً إلى أصحابها بينما هي من وضع الرواة، أو تعثر بعض القراء في معاني مفرداتها اليوم، وهي أسماء لأمكنة كانت معروفة قديماً، فإن مجرد فهم هذه الكلمات يجعلك قادراً على إدراك دلالاتها بل والانبهار بصورها وحكمتها ومراسيها. وإذا كانت قضية الانتحال قد فقدت أهميتها بتواتر المصادر الموثقة ووعينا اليوم بطبيعة الآداب الشفاهية وحيل الذاكرة التاريخية في روايتها، فإن القضية التي تستحق العناية والبحث الآن هي عن مراحل تطور اللغة والشعر حتى وصلت إلى هذه الدرجة من الإتقان والاكتمال المتجسد في المعلَّقات. لأن الإبداعات لا تولد ناضجة مكتملة قبل أن تمر بتجارب تكوينية طويلة، ولا بد من العثور على النقوش والألواح المطمورة التي سجلت هذه المراحل من النمو والتطور، مما يقتضي جهوداً كبيرة من علماء الآثار في المملكة، وحوافها في اليمن والخليج العربي.
وإلى أن يتم ذلك، ليس أمامنا سوى أن نتأمل ونرتوي من عيون هذا الشعر لندرك طابعه الخالد ونرصد بعض قيمه الإنسانية وبعض تقنياته الجمالية في التمثيل والتصوير البديع. ويمكننا أن نستشهد ببعض النماذج التي وعتها الذاكرة وتعشقها من مراحل الدرس الأولى. وهي لامرئ القيس وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى في قضايا الحب والحياة والحكمة.
أما امرؤ القيس فيخاطب في معلَّقته الشهيرة إحدى محبوباته ليقول ببراءة فاتنة:
أفاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ وإِنْ كُنْتِ قَدْ أزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِل أغَرَّكِ مِنِّي أنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي وأنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ وإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إلاَّ لِتَضْرِبِي بِسَهْمَيْكِ فِي أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ
ومع أن غزليات امرئ القيس في صواحبه الأخريات في المعلَّقة نفسها أشد طرافة وإمتاعاً من نزعتها القصصية وبعض مشاهدها المدهشة مثل ميل الغبيط بهما ومثل صورة الحبلى التي ترضع وليدها وهي تحته، فإن الأبيات التي علقت بذاكرتي تمثّل في صدقها وبساطتها صوت العاشق الذي يدرك دلال محبوبته، ويعترف بحقها في هجره لو كان قد أساء إليها، يصور ذلك بكناية عجيبة هي تخليص الثياب من تشابكها، ويقر للمرأة بأن سلاحها الباتر في البكاء هو الذي يمزق نياط قلبه، وهي تعبيرات ساخنة وقريبة لا نحتاج في فهمها إلى معجم بالرغم من القرون السبعة عشر التي تفصلنا اليوم عنها.
أما أبيات طرفة فسأقتصر منها مراعاة للسياق على ما يقوله في فلسفة الموت وحكمة الحياة، وهو الذي قضى نحبه في أوج شبابه في العشرينيات من عمره، يقول:
ألا أيُّهذا اللائمي أحضرَ الوغى وأن أشهدَ اللذّات، هل أنتَ مُخلِدي؟ فإن كنتَ لا تسطيع دفع منيَّتي فدعني أبادرها بما ملكتْ يدي ولولا ثلاثٌ هُنّ مِنْ عِيشةِ الفتى وجدِّكَ لم أحفل متى قامَ عوَّدي
ثم يعدد هذه اللذائذ التي تجعله لا يستهين بالموت عندما ينصرف زواره في مرضه يأساً من شفائه، وهذا معنى “قيام العوّد”، ولا بد من أنه كان عبارة متداولة تمثل البيئة العربية حينئذ. وتحضر هذه اللذائذ في الشراب الذي كان الفتى مولعاً به، ونجدة من يستغيث به في الحرب. فهو محب للسلام والمروءة التي تفرض عليه النجدة في صراع القبائل واحتدام الحروب، ثم خاتمة اللذات وهي التمتع بصحبة حبيبته تحت الخباء.
ويعود طرفة بعد هذه الأبيات ليجسد لنا بطريقة رعوية طريفة وموجعة حتمية الموت، الذي يربطنا بحبله، قائلاً:
لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَى لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِاليَدِ مَتَى مَا يَشَأْ يَوْماً يَقُدْهُ لِحَتْفِهِ وَمَنْ يَكُ فِي حَبْلِ الْمَنِيَّةِ يَنْقَدِ
فالموت لا يتربص بنا فحسب، بل يربطنا بحبلٍ مرتخٍ يمسك بطرفه ويتركنا نلهو حتى إذا شاء جَذْبنا إليه لم نجد سبيلاً للنجاة منه.
أما زهير بن أبي سلمى الذي كنا نتأمل معلَّقته الجميلة لنركِّز على دعوات السلم فيها، وتجسيده الماهر لكوارث الحرب، فإن الأبيات التي استوقفتني فيها هي متتاليات الحكمة بأسلوب الشرط، ومنها قوله:
ومَنْ يكُ ذا فضلٍ فيبخَل بفضلِهِ على قومِهِ يُستغنَ عنه ويُذمَمِ ومهما تكنْ عند امرئٍ من خليقةٍ وإنْ خالَها تَخفَى عنِ الناسِ تُعلَمِ وأعلمُ ما في اليومِ والأمسِ قبلَهُ ولكنّني عنْ علمِ ما في غَدٍ عَمِ
ولا تحتاج هذه الأبيات لشرح وتوضيح، لكن بقية المعلِّقات تدعونا إلى قراءتها وتأمل جمال صياغتها وبلاغة حكمتها وحيوية صورها وقوة أبنيتها التعبيرية بصحبة بعض الشروح المضيئة لأسرارها، وأقترح على القارئ أن يعود لشرح أبي بكر الأنباري الذي حققه شيخي الأستاذ عبدالسلام هارون، وأهداه لي وأنا ما زلت طالباً عنده في كلية دار العلوم فأجده قد كتب لي في الإهداء “إلى الزميل الكريم الأستاذ صلاح فضل”، فأعرف أنه يعلمني جوامع الأدب في هذه الكلمات.
اترك تعليقاً