تشكل أشباه الموصلات المستخدمة في صناعة “الرقائق” عنصرًا أساسًا في قلب النمو الاقتصادي والأمن والابتكار التقني. إنها أصغر حجمًا من طابع البريد، وأرق وأدق من شعرة الإنسان، ومصنوعة من حوالي 40 مليار مُكوّن، ولكن تأثيرها على التنمية العالمية يفوق تأثير الثورة الصناعية. وأشباه الموصلات حجر زاوية لقيادة الاقتصاد الرقمي والابتكار والتنمية المستدامة والنفوذ الجيوسياسي، إذ إنها من لوازم تصنيع الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب العملاقة والمحمولة، وأجهزة تنظيم ضربات القلب والإنترنت والمركبات الإلكترونية والأسلحة، والطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وتلك المسيّرة من دون طيَار، وحتى الأجهزة الكهربائية والإلكترونية المنزلية.
تُعد أشباه المُوصلات محركًا رئيسًا لرقمنة العالم والثورة الصناعية الرابعة. ويمكن القول إن أهميتها تماثل أهمية النفط في الصناعات التقليدية. والطلب على هذه الرقائق آخذ في الارتفاع بفعل الفرص الناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، وإنترنت الأشياء، والاتصالات اللاسلكية المتقدمة، ولا سيما الجيل الخامس (جي5) وكلها تتطلب أحدث وأقوى تقنيات الحوسبة من صناعة أشباه الموصلات.
ولكن جائحة كوفيد-19 والصراعات الاقتصادية الدولية وجهود الهيمنة تضغط على سلاسل التوريد والقيمة في الصناعة، بينما يهدد التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين حول التفوق والنفوذ التقني بتقسيم سلسلة التوريد بشكل أكبر، وبحصول اضطراب كبير في التجارة الدولية. لذا، جذبت صناعة أشباه الموصلات الانتباه في السنوات الأخيرة، خاصة بسبب نقص الإمدادات والتوترات الجيوسياسية التي أثّرت في تصنيع رقائقها وتوزيعها واستخدامها.
حجم صناعتها ونموه
صناعة أشباه الموصلات مستمرة في النمو، ومن المتوقع أن يكون المحرك الرئيس لهذا النمو صناعات السيارات والحوسبة وتخزين البيانات والشبكات اللاسلكية، والتي ستشكل حوالي %70 من زيادة الطلب.
وقد أدى تسارع الرقمنة في شتى القطاعات إلى ازدهار أسواق أشباه الموصلات، إذ نمت المبيعات بنسبة تزيد على %20 لتصل إلى حوالي 600 مليار دولار أمريكي في عام 2021م. وتشير التحليلات القائمة على مجموعة من افتراضات الاقتصاد الكلي إلى أن النمو السنوي الإجمالي للصناعة يمكن أن يتراوح بين 6 و%8 سنويًا حتى عام 2030م. وستكون النتيجة صناعة بقيمة 1 تريليون دولار بحلول نهاية العقد، بافتراض متوسط زيادات في الأسعار بنحو %2 سنويًا والعودة إلى العرض والطلب المتوازن بعد التقلبات الحالية.
ووسط التوجهات العالمية الكبرى التي تشمل انتشار ظاهرة العمل عن بُعد، ونمو الذكاء الاصطناعي، والطلب المتزايد على المركبات الكهربائية، يجب على المصنّعين والمصممين الآن إجراء تقييم والتأكد من أنهم في أفضل وضع لجني الثمار، بملاحظة الارتفاع المتوقع في الطلب على رقائق أشباه الموصلات خلال العقد المقبل، وما الذي سيدفع هذا الارتفاع على المدى الطويل.
وعلى سبيل المثال، من المرجح أن نرى زيادة في الطلب بمقدار ثلاثة أضعاف على محتوى أشباه الموصلات عالية التعقيد في صناعة المركبات، تغذيها تطبيقات مثل القيادة الذاتية ووظائف الذكاء الاصطناعي والتنقل الإلكتروني. ويمكن أن تبلغ تكلفة محتوى أشباه الموصلات لعام 2030م في سيارة مستقلة من المستوى الرابع ذات محرك كهربائي حوالي 4000 دولار أمريكي مقارنة بـ 500 دولار أمريكي فقط لسيارة من المستوى الأول تعمل بمحرك احتراق داخلي. ومثلت صناعة السيارات %8 فقط من الطلب
على أشباه الموصلات في عام 2021م، ويمكن أن تمثل ما بين 13 و%15 من الطلب بحلول نهاية العقد. وعلى هذا التقدير، سيكون هذا القطاع وحده مسؤولًا عن نحو %20 من توسع قطاع أشباه الموصلات خلال السنوات القادمة.
كما أظهرت التحليلات أن النمو بنسبة %4 إلى %6 في سوق الحوسبة وتخزين البيانات، يمكن أن يدعمه الطلب على الخوادم لدعم تطبيقات مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية. وفي الوقت نفسه، في قطاع الاتصالات اللاسلكية، يمكن للهواتف الذكية أن تمثل غالبية التوسع، بفعل التحول من شرائح الطبقة الدنيا إلى شرائح الطبقة المتوسطة في الأسواق الناشئة بدعم من النمو في شبكات الجيل الخامس.
تنافس تقني بأبعاد عالمية
احتلت صناعة أشباه الموصلات عناوين الأخبار خلال العام الماضي 2022م. ولكن لم تكن كل الأخبار جيدة؛ فقد أدى نقص الإمدادات في منتجاتها إلى اختناقات في إنتاج كل شيء من السيارات إلى أجهزة الكومبيوتر، مما سلط الضوء على مدى أهمية هذه الرقائق الصغيرة في الأداء السلس للاقتصاد العالمي.
ولعقود من الزمان، كانت الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في صناعة أشباه الموصلات، حيث سيطرت على %48 من حصة هذه السوق من حيث الإيرادات في عام 2020م، ما يعادل 193 مليار دولار أمريكي. وهناك 8 من أكبر 15 شركة لأشباه الموصلات في العالم تقع كلها في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ جاءت شركة “إنتل” الأمريكية على رأس قائمة الشركات الأكثر مبيعًا في عام 2020م بحوالي 74 مليار دولار أمريكي من إجمالي 340 مليار دولار.
وتعد الصين مستوردًا رئيسًا لأشباه الموصلات، وتعتمد بشكل كبير على الشركات المصنعة الأجنبية، لا سيما تلك الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد استوردت الصين رقائق بقيمة 350 مليار دولار أمريكي في عام 2020م، بزيادة قدرها %14.6 عن عام 2019م، تنفيذًا “لمبادرة صنع في الصين ”2025والمبادئ التوجيهية لتعزيز تطوير صناعة الدارات المتكاملة الوطنية.
وعلى مدى السنوات الست الماضية، عززت الصين جهودها، باستخدام الحوافز المالية والملكية الفكرية ومعايير مكافحة الاحتكار، لتسريع تطوير صناعة أشباه الموصلات المحلية، وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية، وترسيخ مكانتها بصفتها جهة عالمية رائدة في مجال تقنية المعلومات والاتصالات. ومع اشتداد المنافسة الاقتصادية والسياسية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، عمدت الأولى إلى تشديد ضوابط تصدير أشباه الموصلات بسياسات ترخيص أكثر صرامة بسبب مخاوف اكتساب الصين للتقنية الأمريكية من خلال سلاسل التوريد المدنية.
ومع ذلك، يواجه كلا البلدين تهديدات ونقاط ضعف في إنتاج أشباه الموصلات، مثل الاعتماد على الموردين الأجانب، ونقص مرافق التصنيع المتقدمة، وارتفاع التكاليف وتعقيد تصميم الرقائق وتصنيعها، وشح المهارات البشرية اللازمة مقارنة مع الطلب. وتقع جزيرة تايوان، رغم حجمها الصغير نسبيًا، في قلب هذه التوترات التكنولوجية والمساعي إلى التفوق التقني. وتلعب تايوان دورًا مهمًا في تصنيع الرقائق المنطقية المتقدمة وسباق الابتكار، إذ تعتمد عليها كثير من دول العالم لتحقيق الأمن الاقتصادي والوطني.
حوافز مالية ومضاعفة عدد المصانع
ولأهمية الحفاظ على الريادة في إنتاج الرقائق بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، أصدر “المعهد الوطني للمعايير والتقنية” التابع لوزارة التجارة قانونًا يُعرف باسم “تشيبس ”2022يحدد إستراتيجية “المركز الوطني لتقنية أشباه الموصلات”، وهو مكوّن رئيس في برنامج البحث والتطوير الذي وضعه الرئيس بايدن.
ويتضمن التشريع مجموعة من حوافز أشباه الموصلات جنبًا إلى جنب مع مخصصات الابتكار، وسلسلة التوريد، والاتصالات اللاسلكية، والائتمان الاستثماري التصنيعي المتقدم. وسيضخ استثمارات تحويلية لتعزيز ريادة الولايات المتحدة الأمريكية في البحث والتطوير وتصنيع أشباه الموصلات وتعزيز القاعدة الوطنية الصناعية، وتقليل الاعتماد على التقنيات الصينية المهمة وغيرها.
وتشمل الأنشطة الممولة 52.7 مليار دولار أمريكي من الاعتمادات، بما في ذلك برنامج حوافز بقيمة 39 مليار دولار على مدى خمس سنوات، و11مليار دولار في مجال البحث والتطوير التجاري وبرامج تنمية القوى العاملة؛ بالإضافة إلى 500 مليون دولار لأمن التقنية الدولية الأمريكية والابتكار، و200 مليون دولار لتعزيز نمو القوى العاملة لأشباه الموصلات. وبدأ المركز بالفعل يتلقى طلبات للحصول على حصص تمويل من الميزانية المرصودة في مارس 2023م.
لكن صانعي الرقائق كانوا يستعدون لذلك مسبقًا، فقد أعلنت شركة تصنيع شرائح الذاكرة والتخزين “ميكرون” عن تخصيص 100 مليار دولار أمريكي لإنشاء مصنع جديد في شمال ولاية نيويورك. وقامت شركة “تايوان لتصنيع أشباه الموصلات”، التي كانت تبني بالفعل مصنعًا في أريزونا بقيمة 12 مليار دولار، بزيادة الاستثمار إلى 40 مليارًا من خلال إنشاء مصنع ثان. وتخطط “سامسونج” لإنشاء مصنع بقيمة 17 مليار دولار في ولاية تكساس. وفي سبتمبر 2022م، أطلقت “إنتل” أول منشأة جديدة ضخمة بقيمة 20 مليار دولار في ولاية أوهايو.
مشكلة الموارد البشرية
ونظرًا لازدياد عدد المصانع المُزمع إنشاؤها، فهناك مشكلة محتملة: أين ستعثر الصناعة على القوى العاملة المؤهلة اللازمة لتشغيل هذه المصانع وتصميم الرقائق التي ستصنعها؟ فالولايات المتحدة الأمريكية تصنع اليوم %12 فقط من الرقائق العالمية، انخفاضًا من %37 في عام 1990م. وخلال تلك العقود، ظل تعليم أشباه الموصلات والأجهزة في حالة ركود.
ولكي ينجح تشريع “تشيبس”،سيحتاج كل مصنع إلى مئات المهندسين والفنيين المهرة من جميع المشارب، مع تدريب يتراوح من درجات الزمالة لمدة عامين إلى الدكتوراه. وقد كان هناك حوالي 20,000 فرصة عمل في صناعة أشباه الموصلات الأمريكية في نهاية عام 2022م. وحتى لو كان هناك نمو محدود في هذا المجال، فستحتاج الولايات المتحدة الأمريكية إلى 50,000 موظف إضافي على الأقل في السنوات الخمس المقبلة.
ولتهيئة تلك المهارات والكفاءات، تتسابق كليات الهندسة في الولايات المتحدة الأمريكية والجامعات وكليات المجتمع على تجديد مناهجها المتعلقة بأشباه الموصلات، وإقامة شراكات إستراتيجية بينها وبين الجهات الصناعية لتدريب الموظفين اللازمين لتحقيق أهداف التشريع.
دور المواد الخام في الميزان
يُستخدم خام السليكون وخام “نيتريد الجاليوم” في تصنيع أشباه الموصلات. ويتزايد الإجماع على أن الشركات وصلت إلى أقصى قدرة لضغط الترانزستورات على طول معين من السليكون. ونتيجة لذلك، تتطلع شركات أشباه الموصلات إلى خام نيتريد الجاليوم لاستبدال السليكون وخفض استخدام الطاقة بنسبة 10 إلى %25. ويُعد خام نيتريد الجاليوم أكثر كفاءة من خام السليكون، مما يسمح بتوصيل كهربائي أفضل وتحمل أعلى لدرجات الحرارة. وفي هذا الإطار، ثمة نقطة قوة للصين التي تمتلك أكبر احتياطي من الجاليوم في العالم، ويبلغ إنتاجها منه نحو %97 من الإنتاج العالمي.
وقد سبق أن أعلنت الصين عن خطتها الخمسية الرابعة عشرة، التي تحدد أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد للأعوام من 2021م إلى 2025م، فضلًا عن رؤيتها بعيدة المدى لعام 2035م. وتغطي الخطة جوانب مختلفة من التنمية، مثل الابتكار والصناعة والسوق المحلية والرقمنة. وتشدد الخطة أيضًا على حاجة الصين لتحقيق الاعتماد على الذات في العلوم والتقنية وبناء نمط تنموي جديد يوازن بين التداول المحلي والدولي.
الرقائق والذكاء الاصطناعي.. تأثير متبادر
يتمتع الذكاء الاصطناعي بإمكانية إضافة قيمة كبيرة إلى صناعة أشباه الموصلات، إذ يمتلك القدرة على توليد قيمة تجارية ضخمة للشركات في كل خطوة من خطوات عملياتها، من البحث وتصميم الرقائق إلى الإنتاج والمبيعات. ومن ناحية أخرى، مكّن التقدم في تصنيع الرقائق من تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي معقدة تحتاج قدرات حوسبة عالية، مثل “الشبكات العصبونية”.
وعلى مستوى الصناعة، سيحقق التصنيع أكبر قيمة من الذكاء الاصطناعي بالنظر إلى ارتفاع النفقات الرأسمالية ونفقات التشغيل وتكاليف مواد تصنيع أشباه الموصلات. لكن المخاطر تتزايد بشكل أكبر؛ فمع كل عقدة تقنية جديدة، ترتفع النفقات الرأسمالية لمعدات الإنتاج، وتزداد بشكل كبير مع تصغير هياكل الرقائق.
فمثلًا، زادت تكاليف البحث والتصميم لتطوير شريحة من حوالي 28 مليون دولار أمريكي عند العقدة 65 نانومتر إلى حوالي 540 مليون دولار عند العقدة الأصغر 5 نانومتر. وسيحدث أكبر انخفاض نسبي في الإنفاق في مجال البحث والتصميم بشكل أساس نتيجة أتمتة التصميم والتحقق منه. وظهر أن الذكاء الاصطناعي يسهم الآن بما يتراوح بين 5 مليارات دولار و8 مليارات دولار أمريكي سنويًا في أرباح شركات أشباه الموصلات. وتبين في استطلاع أن حوالي %30 فقط من المشاركين يولدون القيمة حاليًا من خلال الذكاء الاصطناعي، بينما لا يزال المشاركون الآخرون في المرحلة التجريبية مع الوافد الجديد.
باختصار، أصبحت صناعة أشباه الموصلات مركزًا لمشهد عالمي معقد وديناميكي، حيث يتقاطع الابتكار التقني مع المصالح الاقتصادية والمنافسات الجيوسياسية. وسيعتمد مستقبل هذه الصناعة على مدى قدرة أصحاب المصلحة على الموازنة بين تعاونهم ومنافساتهم، بالإضافة إلى كيفية التغلب على التحديات التقنية والسوقية التي تنتظرهم.
اترك تعليقاً