إذا كان وصول التلاميذ إلى مدارسهم في كثير من الحواضر والمُدن حول العالم لا يتطلَّب سوى عبور الشارع، ففي مناطق عديدة أُخرى يُجازف التلاميذ بالسير في دروب خطرة أملاً في اللحاق بطابور الصباح المدرسي. فتكون رحلتهم من البيت إلى المدرسة أقرب إلى المغامرة غير المحسوبة العواقب، حيث تُحتِّم عليهم التضاريس الجُغرافية الصعبة، وقسوة الطقس، والأحوال غير المُستقرَّة للمناخ، عبور طُرق غير مألوفة، كاختراق مناطق صحراوية جافــــة، أو مناطــق غابات وأدغــال، أو اجتياز جــداول وأنهــار، أو تسلُّق مناطق جبلية، أو السير فوق مياه مُتجمِّدة.
ثَمَّة أسس ومعايير معتمَدة في دول العالم لاختيار مواقع المدارس. وبشكل عام، سواء أكانت المدارس في قلب المدينة، أو في الريف، يتعيَّن عند اختيار مواقع هذه المدارس، خاصة التي تخدِم تلاميذ المراحل الأولى (صِغار السِن)، مراعاة الظروف البيئية السائدة في المنطقة، وأحوال الطقس، وأن تكون الطُرُق المؤدية إليها جيِّدة، وتتوافر فيها معايير السلامة مثل اللوحات الإرشادية الواضحة التي تُساعدهم على السير بأمان، وأن تكون بعيدة عن مصادر الضوضاء والدخان وكافة أنواع الملوّثات، التي تؤثر سلبــاً على صحة التلاميذ.. وكانت اليونيسكو قد وضعت توصيات إرشادية، هي أقرب إلى معايير ومواصفات للطُرق المدرسية الآمنة. ولكن، لألف سبب وسبب، لاشيء من هذه التوصيات وصل إلى مناطق نائية كثيرة في بعض دول العالم، فبقيت الطرق إلى بعض المدارس أقرب إلى ميادين المغامرات الخطرة، لا يجرؤ على اقتحامها غير الأطفال في طلبهم للعلم.
يتسلّقون الجبال في الصين
في مُقاطعة قوي تشو بجنوب غرب الصين، قرية تُدعى غن غوان، وأقرب مدرسة ابتدائية إليها تقع في منطقة جبليَّة، تَفرِض على التلاميذ القادمين إليها من القرية، اجتياز نفق محفور خارج الصخور، يعود تاريخه إلى نحو نصف قرن، وكان في السابق يُستخدم كمجرى مائي للري، ثم جُفِف، ليستَخدِمه المُشاة. وبعد اجتياز الخندق، يسلك التلاميذ ممراً مُتصاعداً ذا شكل حلزوني، مُغطَّى بالحصى، وهو ممر خطِر للغاية ويتطلَّب الحَذَر الشديد عند عُبوره، في أثناء الذهاب، وكذا الإياب.
ثَمَّة مناطق نائية عديدة في بعض دول العالم، تعتبر الطرق إلى المدارس فيها أشبه بميادين المغامرات الخطرة، يُجازف التلاميذ بالسير فيها، أملاً في اللحاق بطابور الصباح المدرسي، حيث تُحتِّم عليهم التضاريس الجُغرافية الصعبة، وقسوة الطقس، عبور مناطق صحراوية جافة، أو غابات وأدغال، أو اجتياز جداول وأنهار، أو تسلُّق مناطق جبلية.
وبحسب مُدير المدرسة السيد شو ليان غفان، الذي يحرِص على مُرافقة تلاميذه، عند اجتياز هذا الطريق في رحلة تستغرِق نحو ساعتين، فإن الإقبال على الدراسة لا ينقطع. فالآباء مُطمئنون، بفضل حِرص إدارة المدرسة على سلامة أبنائهم، ومرافقتهم في عبور الطريق الصعب.
وفي قرية تشانغ جياوان، الواقعة في أعماق الجبال، بمقاطعة هونان الصينية أيضاً،، يتسلق التلاميذ سلالم حجرية حلزونية غير آمنة. ولا تقتصر خطورتها على كونها ضيِّقة، إذ إنها تميل إلى مواجهة جِرف يبلغ ارتفاعه نحو 60 متراً. وحِرصــاً على أبنائهم، يقوم القرويون باستبدال هذه السلالم، مرَّة كُل ثلاث إلى خمس سنوات.
ويعبرون الأنهر
والغابات في إندونيسيا
وفي الأرخبيل الإندونيسي تتعدَّد الطرق المدرسية الصعبة التي يتعيَّن على التلاميذ اجتيازها. ففي سومطرا، يضطَّر تلاميذ قرية باتو بوسوك إلى السير فوق جسر معلّق غير مستقر، ويترنّح يمينـاً ويساراً أثناء السير عليه، وهو على ارتفاع 30 قَدمــاً فوق نهر متدفّق، ثم يواصلون السير في طريق طوله نحو سبعة أميال داخل الغابة، حتى يتمكَّنوا من الوصول إلى أقرب مدرسة إليهم في بلدة بادانج.
وإذا كان وضع الطريق يشكّل خطورة كبيرة على التلاميذ في الأوقات العادية، فإن هذه الخطورة تُصبح مضاعفة في الأوقات التي يسقط فيها المطر بغزارة، حيث يمكن أن تحدث الانهيارات الأرضية بشكل مُفاجئ.
وما تقدَّم يشبه إلى حد كبير معاناة تلاميذ قرية سانغ يانغ الإندونيسية، حيث يتعيَّن عليهم عبور نهر سيبيرانغ فوق جسر بدائي، مُعلَّق بالحِبال والأسلاك، ثم السير في طريق وعِر، للوصول إلى مدرستهم.
والأنهار الجليدية في النيبال
وفي النيبال، التي تشتهر بكثرة جبالها وأنهارها، يسلك التلاميذ جسوراً مؤلفة من حبال وأسلاك، ومرصوفة بألواح خشبية، تعرِّضهم لمخاطر جمّة، حيث يعني أي ارتباك أو زلَّة قَدَم السقوط في النهر أو الوادي.
ويُمكِن مُشاهدة ذلك، في مناطق عديدة، وخاصة في منطقة غوركا، عند قرية لويرانغ، الواقعة على بُعد نحو 80 كيلو متراً غربي العاصمة كاتماندو، حيث يوجد أكثر من جسر من الجسور المعلَّقة بالأسلاك، تصل بين ضفتي النهر. ولمرَّتين في السنة، يسلك تلاميذ إحدى المدارس الداخلية، الواقعة إلى أقصى الشمال الشرقي من نيبال، طريقاً طويلاً، على صفحة نهر مُغطَّى بعباءة جليدية.
ونفق معلَّق من الإطارات في الفلبين
وفي الفلبين، ثمة طريق مثير للدهشة، يسلكه تلاميذ قرية نائية في مُقاطعة ريزال شرقي العاصمة مانيلا، للوصول إلى مدرستهم الابتدائية. هذا الطريق هو عبارة عن أنبوب، مجمَّع من الإطارات، ومُعلَّق على نهر جارٍ، ويحتاج عبوره إلى حذر شديد من المُشاة الكبار، فما بالك بالصغار الذين يمضون نحو ساعة كُل يوم للذهاب إلى مدارسهم، والعودة منها. وعندما تتساقط الأمطار الغزيرة، يقترِب مُستوى مياه النهر من هذا الأنبوب، على نحو يصعب اجتيازه، فيضطَّر التلاميذ إلى المبيت عند أقاربهم، على الضِفَّة التي تقع فيها مدارسهم.
وفي نيجيريا مدرسة في بحيرة
وفي المساكن العائمة التي انتقل إليها سُكَّان الأكواخ القديمة، التي كانت إلى وقت قريب منتشِرة في قرية ماكوكو الواقعة على بحيرة لاجوس، من أعمال نيجيريا، ثَمَّة مدرسة ابتدائية عائمة أيضــاً، تتسِع لنحو 100 تلميذ. ومع تباشير كُل صباح، تشاهد أسراب الزوارق الصغيرة، والطوافات البسيطة، وهي تتمايل على صفحة مياه البحيرة، ورُكّابها هم أطفال صغار، شغوفون بالتعليم.
وما يشبه ذلك في العالم العربي
وفي بعض المناطق النائية من عالمنا العربي، يُشاهَد كثير من التلاميذ وهم يجتازون طُرقـاً صعبة، تتطلَّب شيئاً من الشجاعة والمُجازفة، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ففي أقصى جنوب مصر، وتحديداً في منطقة تدعى”غرب سهيل” النوبيــة، على الأطفــال أن يصحوا فجــراً، استعداداً لرحلة الذهاب إلى مدرستهم سيراً على الأقدام، فوق طريق غير معبّد وكثير التعرُّج، وتنتشر فيه برك الوحل والطيـن، نتيجة سقوط الأمطار. بينما يتجمع آخرون، ليركبوا معـاً وسيلة مواصلات تُدعى “تروسيكل”، وهي عبارة عن درَّاجة نارية، تجرّ خلفها ما يُشبه الصندوق المُكتظ بالتلاميذ.
وفي شمال دِلتا النيل، في مصر أيضــاً، ثَمَّة بحيرة اسمها “المَنزَلة”، حيث يُشاهَد كُل صباح أطفال جزيرة العِزبي وهم يركبون قوارب بدائية، في رِحلة عبر ممرات مائية داخل البُحيرة، التي تنتشر في بعض مناطقها بكثافة نباتات “الغاب” العالية، إلى أن يصلوا إلى أقرب مدرسة في قرية “غيط العِنب”، من أعمال دمياط، بينما يتَّجه بعضهم إلى مدرسة أُخرى، في منطقة “ابن سلام”، القريبة من مدينة المطرية، من أعمال الدقهلية. وتستغرق هذه الرحلة ما يزيد على الساعة ونصف الساعة، ومِثلها في رحلة العودة. وكان المُخرِج علي الغزولي، قد سجَّل ذلك في فلْم وثائقي شهير، يحمل عنوان “صيد العصاري”، الذي يحكي قصة تلميذ وأُخته، يركبان معـاً قاربـاً صغيراً، في رِحلة شاقة، للوصول إلى مدرستهم، وفي أيام العُطلات المدرسية، يخرج للصيد في البُحيرة.
الشغف بالتعليم لدى الصِغار، وحِرص الكثير منهم أن يكونوا فاعلين في مُستقبل أوطانهم، كان سببـاً رئيسـاً في جعل مُبادرة “التعليـم أولاً”، التي أطلقتها الأمم المتحدة، على سلم الأولويات.
وفي منطقة الأهوار العراقية، ما يشبه ذلك إلى حد كبير. إذ يتجمّع الأطفال على ألواح خشبية، بجوار مساكن ذويهم شبه العائمة، لينطلقوا بقواربهم البسيطة، على صفحة الماء، ضمن قوافل أو أسراب، بصُحبهم عدد من الأهالي لحمايتهم طوال الرحلة التي تمتد لعدة كيلو مترات، حتى يصلوا إلى مدارسهم. وللتخفيف من هذه المُعاناة، أُنشئت مدارس متنقّلة، تشبه البيوت الجاهزة، المعروفة باسم “الكرفانات”، يتّسع كل منها لنحو 30 تلميذاً. إلاَّ أن هذه المدارس غير مُريحة، ويتكدَّس فيها التلاميذ مفترشين أرضيّتها.
وفي منطقة تدمر السوريَّة، بالقُرب من أحد أكبر وأشهر المواقع الأثرية، تعيش قبائل بدوية تنتشر الأُميَّة بين كبارها، الذين رأوا أن أولادهم، يجب ألاَّ يتجرَّعوا من كأس الأُمية، فسجلوهم في مدارس تبعُد عن خيامهم عدة كيلو مترات. ويُشاهد بعض هؤلاء التلاميذ، وهم يمتطون الحمير والبغال، ليقطعوا طريقــاً صحراويــاً لا يخلو من المخاطر بفعل عزلته، ويخلو من أي لوحات إرشادية، ناهيك عن وجود الكِلاب والحيوانات الضالة، كما لا يخلو الطريق من العواصف التُرابية والصقيع خِلال فصل الشتاء. ومع ذلك يخرج هؤلاء الصغار كل صباح، للتوجه إلى مدارسهم، وينضموا إلى أقرانهم.
شغفهم بالعلم حرّك الأمم المتحدة
فعلى الرغم من تنوُّع الصعوبات التي تعترض هؤلاء الصغار في طرقهم إلى مدارسهم، فإن السمة المشتركة في ما بينها كلها هي في الإصرار على مواصلة التعليم. وكم من حِكايات وذكريات يرويها أشخاص صارت لهم مكانة مرموقة في مجتمعاتهم، تظهر مدى معاناتهم من طرق صعبة كانوا يسلكونها يوميــاً، للذهاب إلى مدرستهم، وأن من رَحم هذه المُعاناة، تولَّد لديهم الإصرار والعزيمة، على أن يرسموا طريقــاً طموحـاً لأنفسهم، وأن يكونوا مساهمين في تقدم مجتمعاتهم.
وكان تقرير صادر عن الأمم المتحدة قد أشار إلى أن الشغف بالتعليم لدى الصِغار، وحِرص كثير منهم على أن يكونوا فاعلين في مستقبل أوطانهم، كان سببـاً رئيسـاً في جعل مبادرة “التعليم أولاً “، التي أطلقتها الأمم المتحدة، على سُلَّم الأولويات، في جدول الخِطَّة الأُممية للتنمية المستدامة، والتنبُّه إلى ضرورة إعطاء جميع الأطفال في كافة أنحاء العالم، بما فيهم الذين يعيشون في المناطق الريفية والنائية، فرصة الذهاب إلى المدرسة لتحقيق آمالهم، والتحليق نحو مستقبل أفضل لهم ولأوطانهم.
أربعة أبطال في فِلْم وثائقي
يروي المُخرج الفرنسي باسكال بليس أن فلمه الوثائقي “في الطريق إلى المدرسة” يكاد أن يكون “ابن الصدفة”. فهو لم يكن يخطط على الإطلاق لإنجازه، بل ذهب إلى كينيا لتصوير فِلْم وثائقي عن الحيوانات. إلاَّ أنه لاحظ خلال فترة إقامته في منطقة البحيرات الكبرى في شمال كينيا، بعض التلاميذ في طريقهم إلى مدارسهم. وعلى الرغم من فقرِهم والمشقَّة في سيرهم عبر طرق ومسالك صعبة، كانوا يتسامرون طوال الطريق. وهنا تولَّدت لديه فِكرة إنجاز فِلْم وثائقي عنهم. ثم طوّر فكرته بحيث يكون أبطال الفِلْم من عدة بلدان، مع مراعاة أن يكون القاسم المُشترك بينهم، المعاناة والمشقَّة الممزوجتين بالإقبال على التعليم في مدارس تبعد عن منازل ذويهم عدة كيلو مترات.
حظي هذا الفلم، عند عرضه الأول، بإقبال غير متوقّع، حيث شاهده في الأسبوع الأول فقط، أكثر من 700 ألف متفرج، وزادت قاعات عرضه على 350 قاعة، بعد أن كان مقرراً عرضه في 180 قاعة فقط. ويحكي الفلم أربع تجارب مختلفة ومن بلدان مختلفة.
التجربة الأولى لتلميذ من الهند يُدعى صامويل، يبلغ من العمر 11 عامــاً، يسكن مع أسرته الفقيرة، في إحدى قرى خليج البنغال. ولحُبه الشديد لمواصلة التعلم، يُشاهَد وهو يندفع بكرسيه المتحرِّك على الطريق كل صباح، أملاً في أن يكون أول الواصلين إلى المدرسة. وعلى الرغم من إعاقته وبُعد مسكنه عن المدرسة نحو 4 كيلو مترات، إلاَّ أنه كان يحقق هدفه في الوصول أوّلاً إلى المدرسة بشكل شبه دائم، وسط إعجاب الجميع به وبإصراره وبروحه المرِحة، حتى عندما يُصاب كرسيه المتحرِّك، المهترئ أصلاً، بعُطل في الطريق.
والتجربة الثانية، من الأرجنتين، بطلها كارلوس، ابن الأحد عشر ربيعــاً، الذي يسكن مع أُسرته الفقيرة في منطقة اسمها بات غوينا الريفية، والذي يمتطي كُل صباح الحصان، وإلى خلفِه أُخته الأصغر “ميكا”، ليسلك طريقـاً وعراً طوله 18 كيلو متراً، خلال رِحلة الذهاب فقط، ومِثلها عند العــودة. وأمـل كارلوس هو أن يصبـح طبيبـاً، بينما تأمل أُختــه ميكا أن تُصبح مُعلِّمة.
وتحكي التجربة الثالثة، تجربة التلميذة زهيرة بادي، ذات الثانية عشر ربيعــاً، التي تسكن مع أُسرتها، في منطقة نائية من ريف جنوب المملكة المغربية. إنها تجهز نفسها كل أسبوع، لرحلة الذهاب سيراً على الأقدام لمُدة يوم كامل، حتى تصل إلى مدرستها، الواقعة في منطقة أسفي، تقطع خِلالها نحو 22 كيلومتراً، وتحمل معها ديكاً لبيعه في سوق المدينة لدى وصولها، والاستفادة من ثمنه في شراء الحلوى وبعض الأطعمة التي تُعينها، حيث إن المدرسة الداخلية تَصرِف لها وجبة غير كافية.
أما تجربة جاكسون، وهو رابع أبطال الفلم، وأبطال الواقع أيضــاً، والذي تجاوز عُمره العشر سنوات بقليل، فأبرز ما يميّزها هو التقشُّف الكبير الذي تعيشه أُسرته في شِبه كوخ داخل أدغال كينيا، والصعوبات التي كان يتعرض لها جاكسون، أثناء سيره في طريق مشوب بكثير من المخاطر، بصُحبة شقيقته سالومي، وهي أصغر منه سنـاً. فقد كانا يقطعان مسافة تزيد على 7 كيلو مترات، مشيـاً على الأقدام للوصول إلى المدرسة. ويحرصان على حضور طابور الصباح. وشغف جاكسون وأخته بالتعلّم، جعلهما أشجع من غيرهما، في اختراق طرق لا تخلو من حيوانات الأدغال وقطَّاع الطرق.
اترك تعليقاً