كانت خطوات فريق فيلم “نورة” على السجادة الحمراء في “مهرجان كان” هذا العام، بمنزلة خطوة للسينما السعودية نفسها، ولحظة مميزة ذات رمزية كبيرة باعتبارها المشاركة السعودية الأولى في واحد من أعرق المهرجانات العالمية. وهذا الفيلم الروائي هو من كتابة توفيق الزيادي وإنتاجه وإخراجه. وبذلك، فهو ينتمي إلى ظاهرة “صانع الأفلام”، حيث يتولَّى شخص واحد السيطرة على الفيلم من فكرته الأولى حتى إنتاجه. وبالمصادفة، تعرض الصالات السعودية فيلمًا آخر ينتمي للظاهرة نفسها هو “السنيور: عقدة الخواجة”، من صنع أيمن الخواجة الذي كتبه وأخرجه وأنتجه ومثَّل فيه.
فماذا عن هذه الظاهرة حيث يتولَّى الشخص نفسه معظم المهمات الرئيسة في صناعة فيلم ما، بدلًا من توزيعها على جهات عدة من أصحاب الاختصاص؟
أثمرت ظاهرة “صانع الأفلام” في السينما السعودية بعض الأفلام الناجحة من دون شك. لكن ماذا عن التجارب غير الجيدة؟ وكم عددها؟ فمن الخطأ القطع بنجاح ظاهرة صانع الفيلم متعدد المهام قياسًا على مثال واحد أو مثالين وبتجاهل إخفاقات عديدة. ومن وجهة نظر مهنية بحتة تهمنا دائمًا المنهجية الصحيحة للوصول إلى حكم سليم. ولذا، لا بدَّ أولًا من دراسة الأسباب
هناك أسباب عديدة لنشأة هذه الظاهرة وانتشارها. وقد تتضح الصورة أكثر إذا ما نظرنا إليها من زاوية أوسع؛ أي في نطاقها الدولي. فمن الملاحظ أن تعدد مهام الشخص الواحد في الفيلم لا تتحقق لأحد في فريق قسم الكاميرا أو قسم تصميم الإنتاج والديكور، وإنما عادة تكون مرتبطة بالمخرج. فتجد المخرج يقوم ببعض المهام الرئيسة مع الإخراج مثل الإنتاج والتمثيل والكتابة. هذه الظاهرة موجودة دوليًا، ويوجد كثير من الأفلام الناجحة فنيًا وتجاريًا اعتمدت هذا الأسلوب. ولو نظرنا إلى كبار السينمائيين العالميين وأصحاب التجارب السينمائية العظيمة، لوجدنا أن بعضهم يتولَّى مهام الإخراج والإنتاج والكتابة معًا. ومن أشهر الأمثلة المخرج الكندي جيمس كاميرون الحاصل على ثلاث جوائز أوسكار، والمخرج الأمريكي كوينتن تارانتينو الحاصل على جائزتي أوسكار، والمخرج البريطاني كريستوفر نولان الحاصل كذلك على جائزتي أوسكار.
التحكُّم في مراحل القصة
في هوليوود التي لا تصدر للعالم أفلامها فقط، بل تصدر كذلك ممارساتها وتقاليد الصناعة للممارسين المهنيين في بقية دول العالم، ثمة رؤية تقول إن الفيلم عبارة عن قصة تُروى بصريًا. وتُروى القصة في الفيلم ثلاث مرات: الأولى أثناء مرحلة التطوير، أي كتابة السيناريو؛ والثانية خلال مرحلة الإنتاج، أي التصوير؛ والأخيرة أثناء مرحلة ما بعد الإنتاج، وتشمل التحرير والتلوين والصوت.
ويؤمن قطاع السينما الهوليودية بأن المخرج المميز هو الذي يجيد التحكم في القصة خلال المراحل الثلاث التي تُروى فيها القصة. فتجد بشكل شائع أن صانع الفيلم مثل تارانتينو يكتب السيناريو ويخرجه ويشارك في التحرير بنفسه، على الرغم من وجود وفرة في الميزانيات لصناعة الأفلام في هوليوود، ووجود الكوادر المتخصصة والمحترفة. ففي هذه الحالة تجد السبب فنيًا بحتًا، وهو أن صانع الفيلم يتخيل القصة تُكتب وتخرج بطريقة معينة.
أمَّا المشاركة في الإنتاج، فيندر أن تجد مخرجًا يدخل في تفاصيل الإنتاج اليومية. ولكن حصول المخرج حينما يكون صاحب الفكرة على مسمى المنتج التنفيذي للفيلم هو في الغالب يرجع إلى أسباب تتعلق برغبته في الحصول على حقوق الملكية الفكرية. ويرى بعض المخرجين أنه ما دام هو صاحب فكرة الفيلم ومخرجها، وهو من أقنع المستثمرين أو صناديق تمويل الأفلام بفكرة الفيلم؛ فإنه بذلك يستحق أن يحصل على مسمى “منتج الفيلم” أو “المنتج التنفيذي”.
أمَّا محليًا في المملكة، فنجد هذه الظاهرة موجودة حصرًا في إنتاج الأفلام السينمائية، وليست موجودة في إنتاج المسلسلات أو الإعلانات التجارية. وقد نشأت هذه الظاهرة في الأفلام مع نشوء إنتاجات السعوديين المرئية عبر “يوتيوب” مثل برامج السخرية والمسلسلات والأفلام القصيرة والاسكتشات. والسبب واضح، وهو ضعف الميزانيات وغياب برامج الدعم لإنتاج المحتوى المرئي عبر “يوتيوب”. استمرّت هذه الظاهرة لأكثر من عقد من الزمن، ولم يكن هناك أي استغراب من قِبل الجمهور أو النقاد. ولكن، مع إعادة فتح صالات السينما في المملكة وإنتاج الأفلام الطويلة، استمرّت الظاهرة وبدأ الجمهور والنقاد ملاحظتها والانزعاج منها في بعض الأحيان. وصار الجميع يتساءل: أين التخصصية؟ لا سيما في حال وجود الميزانيات وبرامج الدعم الحكومية المتعددة مثل “ضوء للأفلام” التابع لهيئة الأفلام وصندوق التنمية الثقافي، وبرامج منح مؤسسة مهرجان البحر الأحمر الدولي، ومركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”.
انعدام ثقة أم ضعف في مهارات التواصل؟
أحد أهم الأسباب التي عادةً ما يشير إليها المخرجون في النقاشات الخاصة التي تجري خلال فعاليات مهرجان أفلام السعودية ومهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، هو غياب الثقة بقدرة الآخرين على التنفيذ المطلوب. فكثير من المخرجين لديهم أفكار محددة وطرق تنفيذ معينة، ويعتقدون أن السوق لا تزال تفتقد المتخصصين القادرين على تنفيذ الفكرة كما يتخيلونها هم. وهذا الأمر قد يكون صحيحًا. فقلة وجود الكوادر أمر شائع، وتسعى كثير من المبادرات الحكومية لحله من خلال برنامج الابتعاث الثقافي والدورات المكثفة لبرنامج “كادر” التابع لهيئة الأفلام وورش العمل والدورات المكثفة في مهرجان أفلام السعودية ومهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.
ولكن هذه الحجة قد لا تكون صحيحة دائمًا؛ فقد يكون السبب ضعف مهارات التواصل لدى المخرجين، خصوصًا أننا لم نتعود مشاركة أفكارنا من خلال الورق. رؤية المخرج أو صاحب الفكرة للعمل حينما يطرحها على كاتب، يجب أن تكون مكتوبة بالتفصيل ولا يكفي شرح الفكرة شفهيًا. ومن يعمل مع معظم المخرجين السعوديين يُلاحظ هذا الأمر. فتجد المخرج يطرح جُلَّ رؤيته بشكل شفهي على مدير التصوير ومصمّم الإنتاج وبقية فريق العمل. بينما من يعمل في هوليوود يجد أن آلية التواصل تبدأ ورقيًا، ثمّ شفهيًا من خلال النقاشات والحوارات في الاجتماعات الإنتاجية. وهكذا، فقد يكون العيب لدى المخرج نفسه، فلا يجد من يفهمه؛ لأنه هو نفسه غير قادر على وصف رؤيته كتابةً بدقة.
“في المملكة الظاهرة موجودة حصرًا في إنتاج الأفلام السينمائية وليست موجودة في إنتاج المسلسلات أو الإعلانات التجارية”.
التخصصية ومبدأ العمل الجماعي
يجب أن يُدرك الجميع أن صناعة الأفلام عملٌ جماعي بالأساس ولا يتكامل إلا بجهد المجموعة. والخيار المثالي هو أن يجتهد المخرج في إيجاد الشركاء الذين يُعدّ وجودهم ضروريًا لإكمال العمل على نحو أفضل. فالتواصل الفعّال بين المخرج وفريق العمل، هو المفتاح لتجاوز هذه المشكلة. ومن المهم أن يُدرك صنَّاع الأفلام السعوديون أهمية تطوير مهاراتهم على العمل الجماعي والتخصص؛ ليُسهموا في بناء مستقبل أكثر احترافية واستدامة للصناعة السينمائية.
يمكن للعاملين في الفيلم أن يصلوا إلى أفضل ما يمكن من خلال الاعتماد على التخصص الدقيق في أحد جوانب هذه الصناعة. وما يميز التخصصية هو أنها تُتيح للشخص التعمُّق في الدور أكثر وبناء خبرة تراكمية صلبة في عمل واحد. ومن ثَمَّ، تجتمع هذه الكفاءات في فيلم واحد، ويكون المنتج النهائي فيلمًا قويًا قصصيًا وبصريًا. لذا، قد يكون من الأفضل لصنَّاع الأفلام السعوديين التركيز على تطوير مهارات التواصل لديهم وتجربة العمل مع الآخرين. فمستوى صنَّاع الفيلم السعودي لن يتطور من دون جرأة في التجريب ومن دون الخروج من مناطق الراحة. وبعد تجارب ومحاولات عدة من العمل الجماعي، سيتكون لدى صانع الفيلم فريق عمل متجانس، يؤدي مهامه بشكل يلاقي إعجابه.
لإدراك حجم هذه المشكلة، يمكننا النظر إلى قائمة الأسماء في شارة ختام الفيلم السعودي المعروض في صالات السينما، ونقارنها بأي فيلم أجنبي. سنلاحظ فرقًا شاسعًا في أعداد العاملين بين هذا وذاك، وكذلك في التخصصات الدقيقة. ففي فيلم “الرجل الحديدي 3” (Iron Man 3) نلاحظ وجود أكثر من 3700 شخص عملوا في الفيلم. وتألف فريق المؤثرات البصرية من قرابة 24 شخصًا. ويعدُّ هذا الفيلم أبرز مثال على التخصصية الدقيقة في إنتاج الأفلام.
تأثير العرض الفردي على نمو الصناعة
لو نظرنا إلى هذه القضية من زاوية الصناعة في المملكة، لرأينا أنها ذات منحى سلبي. فإذا كانت الصناعة السينمائية السعودية تنتج في العام الواحد ما بين 10 و15 فيلمًا طويلًا، وفي نحو ثلثها أو نصفها يقوم صاحب الفكرة بالإنتاج والإخراج والكتابة، فإنه بذلك يؤثر سلبًا في نمو الصناعة وأعداد العاملين فيها. وإذا أردنا صناعة سينمائية محترفة، يجب أن يكون هناك وفرة في المحترفين العاملين في هذه المهام. وكيف ستتحقق لنا هذه الوفرة في العاملين حينما يحتكر شخص المهام الثلاث الرئيسة في نصف أفلامنــا؟ فمع الوقت قد نحقِّق وفرة في أعداد العاملين في قسم الكاميرا والإضاءات، مثلًا، ولكننا قطعًا لن نحقق وفرة في أعداد الكتاب.
مفهوم النضج في الصناعة السينمائية يتحقق عادة من خلال فترة طويلة من الزمن، وعدد كبير من الإنتاجات والتخصصية في المهام. لا يمكن أن يكون لدينا مُخرجون أو كتَّاب أو منتجون محترفون بأعداد كبيرة، بينما يقوم شخص واحد في أفلامه بالمهام الرئيسة فيه.
إن صنَّاع الأفلام ربَّما لا يرون إشكاليةً في فخ ضعف الإنتاجية؛ لأن كثيرًا منهم يعتقدون أنهم فنانون وليسوا معنيين بالكم على حساب النوع. ولكن حينما ننظر إلى ضعف الإنتاجية في الأفلام بوصفها صناعة، سنجدها مشكلة جوهرية تُعيق نمو هذه الصناعة. ولهذا السبب، ترفض برامج الدعم والمنح التعامل مع صنّاع الفيلم، وتفضل المشروعات التي تقوم على تعدد المتخصصين.
ولأن التجربة السعودية في صناعة الأفلام لا تزال حديثة العهد، فهي بحاجة ماسة إلى التخصص في الأدوار داخل هذه الصناعة لتنمو وتزدهر. وتعزيز العمل الجماعي والمتخصص لا يُسهم في نمو الصناعة السينمائية من حيث العدد فقط، بل يرفع كذلك من مستواها الإبداعي ويعزز تنوّع الإنتاجات السينمائية التي يمكن أن تعكس تجارب المجتمع السعودي وقصصه بشكل أعمق وأكثر تميزًا.
اترك تعليقاً