مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر - أكتوبر 2023

شعر

حصونُ الجِنّ


محمد الدميني

قهوةُ أمّي


في الفجرِ البارد

في الفجرِ الذي يُشْبه قهوةَ أمي

الذي أستنْهضُ فيه العصافير من سُباتها

يهبطُ عليّ حلمٌ نحيل

يسكنُ فِراشي، وأطردهُ

لكنه ينْشبُ أظافرهُ

في لياليَّ الماضية.

في نومي…

حصونٌ تسكُنها الجنّ، ظلماتٌ تتكسر فيها البروق، قمرٌ ساهرٌ في شقوقِ المنزل، أمطارٌ تسيلُ لتغسلَ حبرَ واجباتنا المدرسيّة، بَقَرتُنا المنزلية تسكن قرب نومنا، البرقُ الوهّاجُ يندلقُ تحت الأبواب، المؤذنُ الذي يصفو صوتُه ينذرُنا بالأقدار التالية، وهمسُ الأوراقِ المتساقطة التي لم تعُد تحتاجها الأشجار، والنّباحُ الأليفُ الذي يشبه شمسًا وسط الليل…

وضعْتُ هذا الليل بين دفاتري،

وحين تسوَدُّ سمائي

أو تُجْدبُ ينابِيعي

أو تغادرُ العصافير أصواتها

سيَحْرثُ الليل

كلَّ نهاراتي

وسيبقى الجنُّ عالقِين

في أحْلامي

لأنهـم

شريطُ التّرفِيه الوحيد.

فراشةٌ ضالّة


هذه الفراشةُ الضالّة

تقتحمُ منزِلي

تتعثَّر على الأرض

لكنَّها تنهضُ

وصـوتُ جناحيْها

يوقظُ هوائيَ السرّي.

لكي أنْجُو من جَريمة اختطَافِها

منحْتُها طريقًا إلى مائدتي

وأشعلتُ ضوءَ الممرّ

لكنها غابَتْ

وخمّنتُ أن ظلامَ الغرفِ قد التهَمها..

في العزلةِ

تطرقُ الكائناتُ الأبْواب

المنزلُ ليسَ مهيئًا لانتظارِ أحد

والجدرانُ يتسلّقها الغُبار

ولا فُسحةَ للذكريات

وتمنّينَا أن نقايضَها بحياةٍ جديدة

لكن الكائنات تسكنُ اللّيل

فلا تمُوت.

فوقَ ضوءِ طاولتي

وجدْتُها هُناك

تهبطُ فوقَ أوراقِي

وتتسلّقُ يَدَي

وبعد قليلٍ

ستُودّعُ عُمْرَها القصير.

زيْتون


حينَ كَبرْتَ اعتقدتَ

أن الزمنَ يشيخُ أيضًا

لم تعرفْ

أنكَ غيمة عابِرة

تجْرفُها الرياحُ

نحوَ أرضٍ لا تعرفُها..

لم تعرفْ

أنكَ غيمة شاحبة

تستنجدُ بأضواءِ الشفقِ

لكي تصبحَ ذا معنَى.

لم تعرفْ

أنكَ غيمة معبأة بالسنواتِ

والشهداء الذين ماتوا

ولم تَرْثِهمْ طلقةً واحدة

وعاشَ زيْتونهم

فوق تلالٍ من الأنين.

كَبْرتَ

ولم تعرفْ

أنكَ نسلُ البراكينِ الخامدة

التي شاهدْتَها خلسةً

في كتابِ الجغرافيا

كَبرْتَ ولم تعرفْ 

أنكَ غيمةٌ عابرة

وستخْترقُكَ السّهام

دونَ أن تمنحَ الرُّماة

قطرةَ ماءٍ واحدة.

قمرٌ منسيّ


أيها القمرُ

الذي نسيْتهُ بين حكَايا الجدَّات

وفرائص الليلِ البارد

أحبّك.

أحبّكَ لأنكَ ستهبطُ

بنوركَ القُدسي

وترأف بالأغنامِ المذعورةِ

وستقاوم البروقَ

التي ستهبطُ فوق صخرةْ

وتُرْعب أشجارَنَا الغافية.

أيها القمرُ

الذي لم أحبّ في ضوئهِ امرأة

أحبّكَ

هكذا أصنعُ لروحِي

بنفْسجةً للنّسيان.


مقالات ذات صلة

قليلة هي التجارب التي تنضح بالصدق والبراءة والالتحام بالحياة، كما هو حال الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة (1903م – 1947م)، فالشعر عنده لا يتغذّى من الأفكار التي يحملها الشاعر عن الأشياء، بل من حرائق الداخل واصطدام الشاعر بنفسه وبالعالم، بحيث تصبح اللغة محصلة طبيعية لهذه الحرائق وذلك الاصطدام. ولأنه ليس شاعر الأفكار المجردة والتوليد الذهني، […]

في قصيدة نُشرت عام 1903م عنوانها “اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها”، شبَّه شاعر النيل حافظ إبراهيم اللغة العربية بشخص أدرك أنه لا محالة هالك فقرَّر أن ينعى حياته. اشتهرت القصيدة وذاعت بعدما أثارت الشجن حول ما تواجهه العربية من مِحن، إلا أنه لم يبقَ حاضرًا من القصيدة الطويلة في الأذهان بعد ما يربو على […]

أثار إعلان فوز الكاتب الجزائري الأصل كمال داود، مطلع نوفمبر الماضي، بجائزة الجونكور نقاشًا محتدمًا يتجدد عادة في هذه المناسبات، يتجاوز حدود النقد الأدبي إلى اتهامات سياسية تطول الكاتب. على صعيد النقد الرصين، أسهمت الأبحاث ما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية في اشتباكها مع تحليل الأدب، في الكشف عن التحولات التي طالت الثقافة في المجتمعات التي […]


0 تعليقات على “حصونُ الجِنّ”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *