مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

شانغريلا

مدينة الحُلم القديم

د. أشرف فقيه

لعلَّ اسم “شانغريلا” مرَّ بنا مقرونًا بمعاني الرفاهية وسحر الشرق الأقصى، في أسماء الفنادق والمطاعم وكل ما يمتُّ للمخيال الآسيوي الثري. لكن شانغريلا كذلك هو اسم مدينة صينية تقع في مقاطعة يونّان جنوب البلاد، على تخوم إقليم التبت الشاسع، وعلى الحدود مع فيتنام ومن ورائها لاوس وبورما، التي تُشكِّل مع كمبوديا وتايلاند شبه جزيرة سمَّاها الفرنسيون يومًا “الهند الصينية”، في دلالة على كونها نقطة انصهار الحضارتين الآسيويتين المهيبتين. وكذلك هي شانغريلا؛ صينية بقدر ما هي تبتية. وعاء تمتزج فيه ثقافات شرقية عدة لتكون نسيجًا وحدَها في خريطة الصين المتنوعة بتنوع إثنياتها وتراثها.


اسم مختلق لحلم قديم

حين نتحدث عن شانغريلا، فإننا نتطرق لمسمًّى بات يُشكِّل مفهومًا في الوجدان الجمعي، ذا بُعد تاريخي وجغرافي، وذا بُعد ثقافي وفكري كذلك؛ لأن التسمية في الأصل طارئة على القاموس الصيني، وُلدت في قرائح الأدباء الأوروبيين أولًا، قبل أن تتلقفها الحكومات وتطلقها على بقعة جغرافية ارتأت أنها تُجسِّد الحلم القديم الذي رمز له الاسم.

ظهرت تسمية شانغريلا، أوَّل مرة، في الرواية المشهورة “الأفق المفقود”، التي نشرها البريطاني جيمس هيلتون عام 1933م. وتدور أحداث الرواية حول وادٍ ساحر مخبوء بين قمم الجبال الصينية، يسكنه مجتمع بوذي ينشد السلام والعدالة، تلجأ إليه حفنة من الأوروبيين ممن تعرضوا لكارثة جوية. وجاءت الرواية، آنذاك، لتجِّسد توجهًا استشراقيًا استعماريًا يرى فيه المنظّر الأوروبي أن القيم الدينية والإنسانية للمجتمعات الآسيوية كفيلة بإعادة احتضان المُثل الإنسانية السامية وتشكيلها، مع لمز للأفضلية الكامنة للعرق الأبيض وقدرته على الارتقاء بهذه المُثل وتطويرها.

بعيدًا عن أحداث الرواية، وعن حقيقة أن هيلتون لم يزر الصين في حياته، بل استعان في تصوره للمكان الذي تقع فيه أحداث روايته بما نشرته المجلات الجغرافية ومدونات المبشرين والعلماء الأوروبيين الذين كانوا ضمن الإرساليات العديدة التي استقرت في الصين، ووصفتها خلال القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، إبان الهبة الأوروبية لاستكشاف الصين واستغلال خيراتها في ممارسة أقرب للاستعمار الكلاسيكي، إلا أنَّ ما يعنينا هنا هو أن تسمية “شانغريلا” هي من بنات أفكار المؤلف. ليس لها وجود حقيقي ولا أصل في اللغات الصينية. ويُعتقد أن هيلتون ربَّما نحتها أو اشتقها من لفظة مقاربة هي “شانبالا”، وتعني “الجنة” في اللهجات التبتية. 

في عام 2001م، ولأجل تنشيط اقتصاد السياحة، غيَّرت الحكومة الصينية اسم محافظة جونغديان رسميًا إلى شانغري-لا (Shangri-La)، مع أنها تقع في مقاطعة يونّان لا مقاطعة التبت المجاورة التي شهدت الأحداث المختلقة لرواية هيلتون، مستغلةً طبيعتها المقاربة وثقافتها التي تتعايش في ظلها ديانات وأجناس عديدة، وبلدتها القديمة التي تبلغ من العمر ألف عام، وتعِد زيارتها برحلة حقيقية عبر الزمان.

في عام 2001م، ولأجل تنشيط اقتصاد السياحة، غيرت الحكومة الصينية اسم محافظة جونغديان رسمياً إلى شانغري-لا (La-Shangri).

يونّان.. البوابة إلى التبت وما بعدها 

مقاطعة يونّان التي تضم محافظة وبلدة شانغريلا، هي إحدى مقاطعات الجنوب الصيني ذات التاريخ العريق. تبلغ مساحتها 400 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها 49 مليون نسمة. وتتميز بتضاريسها المتنوعة التي تشكل فسيفساء جغرافية ساحرة. ويمتد هذا التنوع ليشمل الأقليات الصينية التي تسكنها من “خوي” مسلمين و “مياو” و “يي” و “بـاي” و “ناشي”. ولكل منها لغتها وتقاليدها وأزياؤها التي تشكل معًا النسيج الملون لهذه المقاطعة الجميلة.

تاريخيًا، كانت يونّان جزءًا أصيلًا من الإمبراطورية الصينية منذ ألفي عام. ثم لمَّا توغل المغول في الصين خلال القرن الثالث عشر، مؤسسين إمبراطوريتهم المعروفة باسم “يوان”، دخلت يونّان في طاعة السادة الجدد طوعًا، ما ضمن لمدنها ألا تُدمر وتسوَّى بالأرض وفق العرف المنغولي. هكذا ازدهرت المنطقة وصارت بوابة طرق تجارية عدة ربطت الصين ببقية جنوب آسيا. ولا تزال قصور يونّان ومعابدها شاهدة على مجدها القديم، ويظل تاريخها مستودعًا لكثير من المحافل الثقافية والسياحية التي تجذب لها الزوار من داخل الصين ومن حول العالم عطفًا على أجوائها المقبولة معظم العام، بما فيها مزارع الأرز والقهوة في تلالها الجنوبية، وقممها الشمالية الشاهقة المكتسية بالثلوج، والأنهار الستة التي تمر عبرها وترسم ملامح وديانها وبحيراتها المتعددة.

وإضافة إلى محاذاة مقاطعة يونّان لكل من دول فيتنام ولاوس وبورما، فإنها تمتد في أقصى شمالها الشرقي لتلامس محافظة التبت الشاسعة التي دخلت في حمى جمهورية الصين الشعبية عام 1951م. وفي نقطة الالتقاء بين المقاطعتين تلك، تقع مدينتنا الحالمة شانغريلا ضمن محافظة تحمل الاسم نفسه.

المنظر من فوق المعبد البوذي في قلب شانغريلا.

شانغريلا.. مدينة الألف عام

أبرز ما يلفت نظر الواصل إلى شانغريلا عبر مطارها الإقليمي، ولا سيَّما إن كان قادمًا من إحدى مدن الصين الكبرى مثل بكين أو شانغهاي، هو الحضور اللافت للطبيعة في المساحات المفتوحة غير المختنقة بناطحات السحاب والمباني الضخمة شأنها شأن مدن الصين الكبرى. وتحيط بشانغريلا سلاسل جبلية تزيد المنظر بهاء. وتقع المنطقة عمومًا على ارتفاع يُراوح بين ثلاثة وخمسة كيلومترات عن سطح البحر، ما يصم مناخها ويصعّب التنفس على غير المتمرسين على المرتفعات.

السمة الأخرى للمدينة تبرزها معالمها البوذية المندمجة بسلاسة محببة مع العمران الصيني التقليدي، لتعطيها سمتًا مميزًا يُمهِّد للدخول إلى فضاء التبت ذي الحضور الكثيف هنا في الملامح والطقوس والأزياء والمطبخ كموروث تاريخي أكيد. شانغريلا إذًا هي بوابة لثقافة التبت من منظور صيني، وبرزخ طبيعي يربط بين العـالمين المتوازيين كلٌّ بمفرداته وشخصيته. 

بلدة شانغريلا القديمة مسوَّرة بما يميزها ويحفظها عن الجزء العصري الأحدث من المدينة، حيث تتوزع المباني الحكومية والفنادق العصرية. أمَّا الجزء القديم، فعمره ألف عام. ومما يُؤسف له أن حريقًا مريعًا قد التهم نصف مباني هذه البلدة القديمة عام 2014م فصيّرها رمادًا. ومع ذلك، ظلت عدة أجزاء منها سليمة ومحفوظة. أمَّا الجزء المحترق، فأعادت الحكومة الصينية بناءه لتحفظ للزائر فرصة الالتقاء بتراث عريق وخوض تجربة فريدة للارتحال إلى الماضي.

هذه التجربة تفرض نفسها عليك بصريًا ما إن تلج الدروب الضيقة للمدينة القديمة بحوانيتها وخاناتها العتيقة، وتترسخ في وجدانك أكثر حين ترتقي ببصرك لتطالع مبنى المعبد البوذي القائم على تلة عالية في قلب البلدة القديمة بدرجاته الصاعدة المكتظة بالحجاج والسيَّاح؛ لتأخذك إلى القمة حيث ينتصب برج الصلاة الذهبي الدوّار الذي يُعدُّ أبرز ملامح البلدة. هذا البرج هو معلم أساس في كثير من المعابد البوذية التي ستعرف أن لها مذاهب صينية وهندية وتبتية، وهذه الأخيرة هي المسيطرة

هنا. التنقل عبر أروقة مجمع المعبد ستأخذك في مسار معماري مميز، ترفرف فوق رأسك الأوراق الملوّنة المكتوب عليها صلوات خُطّت بحروف من لغات قديمة شبه بائدة، فيما النسّاك والرهبان البوذيون بإحراماتهم القرمزية المميزة يبادلونك نظرات الترحيب طالما أنك ملتزم بأدب زيارة الموقع وغير مفرط في السلوك السياحي الذي بات يطغى على هذه المواقع جرّاء اشتهارها عالميًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي. 

ولعلَّ السمت السياحي لشانغريلا يعزِّزه إقبال الزوار من أرجاء الصين على زيارتها، متنكرين بأزياء مستوحاة من القصص الفلكلورية القديمة. لذا، فمن غير المستغرب أن تجد الكثير من المحال المتخصصة بتوفير هذه الأزياء والماكياج المرافق؛ ليتقاطر عليها الشباب من الجنسين لأجل التقاط الصور التذكارية عند معالمها الأثرية في مشهد يمتزج فيه التراثي بالعصري.

المصلون يديرون برج الصلاة البوذي – المعبد الرئيس داخل دير غاندن

دير غاندن العظيم

على مسافة خمسة كيلومترات من شانغريلا القديمة، وكمعلم أساس بديع من معالم المنطقة، يمتد دير غاندن البوذي متربعًا على قمة ترتفع 3380 مترًا عن سطح البحر، وتطل على المقبل عليها بمشهد أخَّاذ بمبانيه المتراصة كعلب ذات أغطية ذهبية تسطع عليها الشمس.

أنشئ هذا الدير في القرن السابع عشر ويُعدُّ أحد أكبر أقرانه في العالم البوذي، وعلى الرغم من أنه تعرض لعدة انتكاسات، ولا سيما إبان الثورة الثقافية الصينية بين عامي 1966 و1976م، فإنه يؤوي اليوم مئات الرهبان ممن كرَّسوا حياتهم لخدمة المعتقد. ولأجل الوصول إلى الدير والاطلاع على أقسامه ومكوناته المعمارية والفنية، يلزم الزائر أن يصعد مئات الدرجات المؤدية إليه في تمرين بدني قاسٍ، ولا سيما مع خفة الأكسجين في هذه المستويات المرتفعة. ويُشاهد كثير من السيَّاح يستنشقون الأكسجين من أنابيب يوفرها الباعة لمنحهم وهم اللياقة والنجاة من هذه المعضلة الفسيولوجية الطريفة. 

ويتميز الدير كذلك، شأنه شأن المعابد التابعة للمذهب التبتي، باحتضانه معالمَ وتصاوير هندوسية، في إشارة للالتقاء الجغرافي والفكري للديانتين اللتين تكونتا وتعايشتا في هذه المنطقة من عشرات القرون. 

وادي النمر الوثّاب

لا تكتمل زيارة السائح لشانغريلا من دون المرور بوادي النمر الوثّاب. وهو مضيق سحيق بين الجبال في منتصف المسافة بين شانغريلا والمدينة المجاورة لينجيانغ. ومع أن الطريق إليها وعر، لكن الوصول إلى المنطقة والمشي عبر المسار المنحدر الممتد على السفوح العالية، والمطل على نهر جينشا الثائر، يَعِد بمنظر مذهل وتجربة طبيعية غير مسبوقة. 

يمتد مسار المشي عبر الوادي إلى مسافة إجمالية تبلغ 47 كيلومترًا، تتفاوت في وعورتها، وتشكِّل عمومًا واحدًا من أهم 10 مسارات مشي برية حول العالم. وتعدُّ المنطقة المدرجة في لائحة اليونيسكو العالمية، معلمًا طبيعيًا مفضلًا لمحبي استكشاف الطبيعة، بالإضافة إلى منصات إطلال سهلة الوصول لأولئك الأقل لياقة وحماسة لبذل المجهود البدني. مع الإشارة إلى أن الدرجات الألف، التي تُشكِّل الدرب إلى قاع الوادي هبوطًا ثم صعودًا للعودة لمواقف السيارات، تعتبر مرهقة بما يكفي. لكن سحر المشهد مرفقًا بهدير مياه نهر الجينشا المتفرع عن نهر الصين الأعظم، اليانغتسي، وما يتوفر من متاجر ومطاعم متنوعة للزوار، يُشكِّل تجربة ممتعة ووافية لكل من يأتي إلى هذا المكان المكتظ بالسياح على مدار العام، ما لم يتعذر الوصول في حال العواصف الثلجية خلال الشتاءات القاسية على هذه الارتفاعات العالية. 

ثيران الياك في حديقة بوتاتسون الوطنية – وادي النمر الوثاب – البحيرة المتجمدة في فبراير، منتزه بوتاتسون الوطني

حديقة بوتاتسون الوطنية

إضافة إلى التراث العقدي والمعماري لشانغريلا، فإن زائرها سيجد فسحة للالتجاء إلى الطبيعة البكر من خلال متنزه بوتاتسون الوطني الذي افتُتح رسميًا عام 2007م، وتبلغ مساحته 1300 كيلومتر مربع، فيما ترتفع أعلى نقطة فيه مسافة أربعة آلاف متر عن سطح البحر.

يَعِد المتنزه بفرصة رائعة للاستمتاع بالطبيعة الساحرة عبر جباله وغاباته الوارفة المطلة على بحيرتي شودو وبيتاهاي. وحيث إننا زرناه خلال أواخر فصل الشتاء، فقد كانت البحيرة المتجمدة تفكك جليدها وتختال منتعشة باخضرار بوادر الربيع. ويتميز المتنزه بتجهيزاته المتقدمة والمنظمة لاستقبال آلاف الزوار يوميًا، وبمساره الجيد الذي يستغرق بين 4 و6 ساعات لإكماله وفقًا للياقة الزائر، والمعد للمشاة ممن يُحظر عليهم التوغل فيما عداه من المسارات الطبيعية حفاظًا على النقاء الطبيعي للمكان. ويُعد المتنزه جنة لمحبي الحياة الفطرية من نبات وحيوان، فضلًا عن وجود ثيران الياك التي ترعى بحرية وتعدُّ أساس النظام الرعوي والغذائي في هذه الأنحاء؛ لأنها مصدر اللحم والوبر الأول في جنوب الصين وشرقها، حتى نصل إلى بدايات طريق الحرير التاريخي، حيث تسود الجمال الآسيوية ذات السنامين، التي كانت عماد قوافل التجارة على هذا الطريق الذي ربط الشرق بالغرب منذ آلاف السنين، وكان الدرب الذي عرَّف الصين بالعالم وقدَّم العالم إلى الصين، وفي منتصفه تقع مدينتنا شانغريلا التي لا تزال تلهم الزوار وتذكرهم بماضٍ عريق، وتعدهم كذلك بتجربة سياحية وفكرية معاصرة ومثرية تليق بملتقى الحضارات هذا.


مقالات ذات صلة

تتميَّز الحِرف اليدوية عن غيرها من المنتجات بأنها ثمار عمل على مستوى الأسرة، يختمر بهدوء في زوايا البيوت، ويعتمد في الإنتاج على ممارسات مستدامة، ونقل المهارات الحرفية عبر الأجيال.

مدينة نوردهافن أول مدينة في العالم يمكن الوصول إلى جميع المرافق فيها في غضون 5 دقائق.

“أيام مثالية” هو عنوان الفيلم الأخير للمخرج فيم فندرز، الذي يعرض بهدوء وكلام قليل تفاصيل حياة الشخصية الرئيسة هيراياما، بخاصة روتينه الصباحي وما يليه


0 تعليقات على “شانغريلا.. مدينة الحلم القديم”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *