الوعي بالشعر وعيٌ بهشاشة الذات؛ إمَّا قُلْناه أو كتبناه أو قرأناه أو ترجمناه أو عشناه، فإنّما نتلمّس انكسارَنا الناعمَ على حوافِّ الوجود. الحال الشاعرة بطبيعتها حالٌ غيبيّةٌ. لو مررتَ على أحدٍ في الحال تلك لوجدته هنا وليس هنا، يكلِّم ناساً غيرَ الناس ويحرِّك يديه ويُرهِف سمعه. ربما حتى لو صافحتَه لقبضت على الريح أو عانقتَه لنفذت من خلاله.
هل صار الشاعرُ خيالَ نفسه؟ والشعر تسليةٌ، مَرْجَحةُ ظلال، استضافةٌ للملل؛ “المللُ يُزجِّي وقتَه أيضاً/ يتمشَّى في دماغ شاعر/ وربما وقف طويلاً أمام مجازٍ مُعلَّقٍ من قدميه”، كلماتٌ متقاطعة ولعبةُ استعارات، متاهةٌ روحيّة. كثيراً ما أستحضر عنده طفليَّ سارا وفارس- استحضاراً ذهنيًّا في الغالب. ألجأ إلى صورتيهما وأطلب النصيحة وأستعين بالنظرةِ الطفلةِ في اختبار الهشاشة وأستنجد بحداثة عهدهما بالربّ- صغيرَين ما زالا، بالرحمة الحكيمة واللمسة الحانية. أهرع إليهما مثل مشهد الأمّ في نهاية فِلْم “أبناء صغار”، مسندةً رأسَها إلى حجر طفلتها في المقعد الخلفي للسيّارة والطفلة تمسح على شَعرها وتقول “لا بأس يا أمي”. أعود طفلاً وأصغي إلى صوت مخاوفي:
أمنية
خُذْنا
إلى الأعماقِ يا أبي
سنكون خفيفين على البحر
لا الشاطئُ العجوزُ
ولا الشمسُ
ناسكةً في المغيب
سيشعران بأجسادنا العاريةِ
منسابةً
في رشاقة الماء
خذنا هكذا
محمولين
على ظهرك
مع المدِّ القادمِ
ولسوف نستقرُّ
أخيرًا
كحطام سفينةٍ
في الأعماق
تخرج من أفواهنا
أسماكٌ ملوَّنة
وتُشِعُّ من عينيك اﻠ…
(انظر
كم هما الآن منطفئتان!)
إشراقةُ الغرقى.
1:00 pm
تقول ابنتي
إنّ امرأةً في المنام تشبه الجدّات السمينات
أخبرَتَها أنّ فرصةً جميلةً
تختبئ كلَّ يوم
في الساعة الواحدة ظهرًا
وتحبّ الآباءَ الذين يتحلّون بروح المغامرة.
ولأنّني أصدِّق أحلامَ ابنتي
راح العمر
وأنا أبحث عن خيّاط
يُفصّل روحًا مغامرةً على مقاسي
كلّما ارتديتُ واحدةً كانت أكبرَ أو أصغر
وفاتتني مئات الفرص الجميلة
رغم أنّني الأبُ الوحيدُ
تقريبًا
الذي يُفوِّت فسحةَ الغداء
ليقفَ بكامل زينته
أمام الساعة الواحدة ظهرًا.
فسحة
لأنّ شمسَ الأحدِ
لاهيةٌ بالفطرة
لا يعنيها زوغانُ غرابٍ عن مِشيته
ولا محاسبةُ أبٍ تأخّر في أداء واجباته
نمرجح الظلال
في باحة المدرسة
ظلًّا بليدًا بعدَ آخر
ونسمّي الحياة
فسحةً طارئة.
مرجيحة
كان الطفل يمرجح والده في الحديقة
على وجهيهما
نفس ملامح الشقاوة
نفس الضحكة اللامبالية
الضحك يعلو
والحديقة تغرق على مهلها في الضحك.
حين التفتُّ إليهما
كان الطفلُ الشقيُّ يمرجح الفراغَ
ويضحك…
لقد طار الأب!
سلمان الجربوع
شاعر سعودي، من مواليد الرياض، 1978م.
صدر له:
– محاولة حائط للتعبير عن قلقه، دار طوى، بيروت 2016م.
– ضباب أليف، دار أثر، الدمام 2018م.
اترك تعليقاً