الذكريات هي أعز ما نملك، نعتمد عليها طوال حياتنا في النهار والليل، في يقظتنا ونومنا، هي عماد علاقاتنا الاجتماعية ومعرفتنا وأذواقنا وتاريخ مغامراتنا وما نتميَّز ونعتد به. وقد لا يكون من المبالغة القول إنها هي جوهرنا. ولكن الأبحاث العلمية الحديثة تجرح كبرياءنا، وتكشف أن هذا الرفيق الحميم، فيه كثير من الزيف والسراب.
لنفترض أن أحدهم دخل إلى حفل والتقى في ركن من المكان عدداً من الغرباء، وتم تعريفه عليهم: محمد، جميل، أحمد، خالد…إلخ. كم واحداً من هؤلاء سيتذكر؟ الأهم من ذلك، كم واحداً سيتذكره خطأً؟ ربما في الحال سيدعو أحدهم محمداً بدل خالد. هذا الخطأ يحدث دائماً.
“هذا التذكر الخطأ لا يسري فقط على الأسماء، بل على أي شيء آخر”، تقول جوليا شاو الباحثة في علم النفس الجنائي، ومؤلفة كتاب “سراب الذاكرة”. فكما نبدِّل اسم خالد بأحمد من دون أن ندرك، يمكننا بسهولة تغيير تفاصيل الأحداث الأهم في ذاكرتنا من دون أن نلاحظ ذلك. وتضيف: “ويمكننا أيضاً أن نتذكَّر ونفعل أشياءً لم تحدث أبداً”.
وفي أحيان كثيرة، ينعكس ذلك سلباً على علاقاتنا الاجتماعية، أو على مجرى الأحكام القانونية والجنائية. فقد يتجادل شريكان دائماً، أو زوجٌ وزوجته حول تذكرهما المختلف لحدث شاهداه معاً، وعند استرجاعه من الذاكرة، خاصةً في اليوم التالي، بعد تمثيله خلال النوم، يصبح روايتين متناقضتين. وأحياناً يؤدي هذا إلى اختلاف وخلاف من دون أن يدري الإثنـان أن كليهمـا على حق. ويسري هذا أيضاً على الشهود في المحاكم وغير ذلك، حيث تترتب عليه نتائج خطيرة.
وتقول سيغني شيلدون من جامعة ماكغيل في كندا “لكي نفهم كيف يمكن للناس أن يختبروا الحدث نفسه لكنهم يتذكرونه بطريقة مختلفة، علينا أن ننسى افتراضاتنا المسبقة حول كيفية عمل الذكريات. إننا نميل عادةً إلى التفكير في الذكريات كمعلومات موضوعية مركونة في خزانة الملفات للدماغ، لاستخدامها في المستقبل عند الطلب. وفي الواقع، لا يتم بناء الذكريات إلا عند لحظة استعادتها”. وكلما استرجعنا واحدةً نعيد صياغتهـا من جديد، فلا تبقى كما كانت، فهي قابلةٌ للطَرق والتشوه والتغيير، ولأسباب وجيهة.
سراب الذاكرة: تعبير حديث
حتى تسعينيات القرن العشرين، لم يكن تعبير سراب الذاكرة قد دخل إلى التداول العلمي. ولكن، ومنذ السبعينيات كانت تتم الإشارة إلى بعض جوانبه، باستثناء نص صريح جاء في “كتاب علم النفس”، لإدوارد فيشنر يعود إلى عام 1928م، وجاء فيه: “ينقسم سراب الذكريات والاعترافات إلى نوعين. يمكننا أن نتذكر شيئاً حقيقياً وموضوعياً على أنه غير مألوف لدينا، ويمكننا أن نخطئ في تذكر شيء مألوف لدينا. كلا السرابين شائعان جداً”.
أما أهم الإسهامات السابقة في دراسة موضوع تشوّهات الذاكرة فهي تلك التي قدَّمها سيغموند فرويد. فقد بدأ دراسة أوهام الذاكرة باكراً في تسعينيات القرن التاسع عشر وخلال معظم أبحاثه اللاحقة، ولكن من زاوية مختلفة. فهو لم يستخدم تعبير سراب الذاكرة، بل اعتبر أن الذكريات المؤلمة الناتجة عن القمع في مرحلة الطفولة تختفي إلى حالة لاواعية، تظهر في الأحلام والأعراض المرضية. فبالنسبة له، الإنسان المعاصر معرضٌ للقمع والكبت، من قبل الحضارة الحديثة طوال حياته. وذكريات الطفولة “تظهر في مراحل لاحقة، في سن متأخرة عندما تكون الطفولة قد أصبحت من الماضي؛ في هذه العملية يتم تغييرها وتزييفها، ويتم وضعها في خدمة مسار الاتجاهات الحياتية اللاحقة، بحيث لا يمكن تمييزهـا بشكـل عام عن الأوهام”.
كما تكلم فرويد عن نوعين من تشوّهات الذاكرة. اعتلال الذاكرة (Paramnesia) وهي عدم القدرة على التمييز بين الذكريات الحقيقية والوهمية، والذكريات الحاجبة (Screen memories)، وهي عندما تحل ذكرى معيَّنة محل أخرى وتحجبها عن الوعي. واعتبر كلا الذاكرتين أسلوباً دفاعياً ضد التهديدات النفسية المختلفة التي تزخر بها الحضارة الحديثة.
وهكذا، بالنسبة إلى فرويد، فإن ذكريات الطفولة هذه تنتمي إلى الذكريات الحاجبة، التي تكتسب مع الوقت صفة الذاكرة التاريخية للأمة، على شكل أساطير وملاحـم. ولكن الأبحـاث العلمية الحديثة، ومع التطوّر الكبير في تكنولوجيا المسح الدماغي أخذت مع بداية الألفية تفترق عن هذا التراث التحليلي وتأخذ منحًى مختلفاً.
أنواع الذاكرة
تُجمع الأبحاث العلمية الحديثة أن هناك عدة أنواع من الذاكرة، مختلفة عن تلك التي تم تصنيفها في الماضي، وكل نوع منها يُخَزن في الدماغ في جزء مختلف عن النوع الآخر:
- الذاكرة قصيرة المدى، التي تُمَكن الدماغ من تذكر كمية صغيرة من المعلومات لفترة قصيرة من الزمن. مثلاً إذا كنـت تشاهد مباراة لكرة القدم، فإنك تتذكَّر نتيجة الأهداف في تلك اللحظة حتى تتغير. وتُخَزن هذه الذاكرة في القشرة الجبهية الأمامية من الدماغ.
- الذاكرة طويلة المدى، وتنقسم إلى قسمين:
أ. - الذاكرة اللاواعية، وهي المتعلِّقة بالمهارات الحركية مثل قيادة السيارة أو ركوب الدرَّاجة. فعندما نتعلَّم ركوب الدرَّاجة، لن ننسى ذلك لفترة طويلة جداً، وقد تمتد أحياناً مدى الحياة. وتُخزن هذه الذاكرة في العُقد القاعدية والمخيخ.
ب. - الذاكرة الواعية، تخزن في الحصين والقشرة الدماغية الحديثة واللوزة، وتنقسم أيضاً إلى قسمين:
• - الذاكرة الوقائعية، وتتعلَّق بالوقائع والأحداث الشخصية، مثل أول مرة حصل المرء على شهادة مدرسية.
• - الذاكرة الدلالية، وتتعلَّق بالحقائق والمعرفة العامة للعالم، مثل أن الدماغ يحتوي على 90 مليار خلية عصبية، أو أن الرياض هي عاصمة المملكة العربية السعودية. وهذا النوع من الذاكرة يمكن أن يتعرَّض لتأثيرات الأمراض العصبية مثل مرض الزهايمر وتشوهات أخرى. كما أن باستطاعتنا أن نكون على وعي بمعرفتنا لهاتين الذاكرتين ونقلهما إلى الآخرين.
اكتشف العلماء وجود هذه الأنواع المتعدِّدة من الذاكرة، التي تخزن في أجزاء مختلفة من الدماغ، باكراً في عام 1953م، عندما أزيل الحصين لمريض يدعى هنري موليسون، كان يعاني من داء الصرع، في عملية جراحية في الولايات المتحدة. لقد شفي موليسـون من داء الصـرع، وعـاش بصحـة جيدة، بعد ذلك 55 سنة أخرى.
مع ذلك، بعد الجراحة كان قادراً فقط على تكوين ذكريات وقائعية لا تدوم سوى دقائق. وكان غير قادر على تخزين معلومات جديدة بشكل دائم. ونتيجة لذلك، أصبحت ذاكرة موليسون محدودةً في الغالب بالأحداث التي وقعت قبل سنوات من الجراحة في الماضي البعيد. لكنه كان لا يزال قادراً على تحسين أدائه في مختلف المهام الحركية المتعلقة بالذاكرة اللاواعية على الرغم من أنه لم يكن قادراً على التذكر كيف مارسها. هذا يشير إلى أنه على الرغم من أن الحصين أمر حاسم لوضع الذكريات، إلا أنه ليس مكان تخزين دائم للذاكرة ولا يحتاج إلى ذاكرة حركية.
الذاكرة والنوم
للنوم علاقةٌ وثيقةٌ بالذاكرة وتخزينها، رغم أنه لا يزال يكتنف هذه العلاقة كثيرٌ من الألغاز بالنسبة للعلماء. ومع تكثيف الجهود البحثية في الفترة الأخيرة، بدأت تتكشف بعض الحقائق.
فخلال النوم، يتم تشذيب الذكريات وتنقيتها وإحداث تغيرات كميةً ونوعيةً قبل ترسيخها وتمثيلها في الدماغ ونقلها من منطقة إلى أخرى. وتُعرف هذه العملية بتوطيد الذاكرة (memory consolidation) في الدماغ. وقد بيَّنت أبحاثٌ كثيرةٌ أن الحصين واللوزة والقشرة الدماغية الحديثة والقشرة الجبهية الأمامية، وهي أجزاءٌ مهمةٌ للذاكرة، تكون نشطة أثناء النوم.
أهم الإسهامات السابقة في دراسة موضوع تشوهات الذاكرة هي تلك التي قدمها سيغموند فرويد
ويحدث توطيد الذاكرة خلال موجات النوم المغزلية (sleep spindles) وهي نوعٌ من موجات دماغية تحدث بشكل مغزلي أثناء مراحل النوم الأولى، المعروفة بعدم وجود أحلام أو عدم وجود حركة سريعة للعينين. وقد أوضحت دراسات سابقة أنه كلما زادت موجات النوم المغزلية، التي يظهرها دماغ الإنسان خلال الليل، زادت قدرة المرء على التذكر في اليوم التالي.
لكن واحدةً من أكبر الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها بعد، هي كيف يعرف الدماغ النائم الذكريات التي يتم تقويتها والتي ينبغي تجاهلها. “فنحن لا نعلم الخوارزميات التي يستخدمها الدماغ لاتخاذ هذه القرارات أو كيفية تنفيذها”، كما يقول روبرت ستيك غولد، من كلية الطب في جامعة هارفارد.
“نحن نعرف أن النوم هو شيءٌ خاص”، تقول آنا شابيرو، من الكلية نفسها، “فخلال فترة النوم المعروفة بالموجة البطيئة، يحدث نوعٌ من التفاعلات الجميلة بين مناطق الدماغ المختلفة والمتخصصة، ويبدو الأمر مختلفاً عما نراه خلال فترات الاستيقاظ.. هناك محادثة بين المناطق الرئيسة للذاكرة، بما في ذلك الحصين، حيث يتم تخزين الذكريات الحديثة، والقشرة الجبهية الأمامية، حيث تنتهي الذكريات على المدى الطويل”.
حدث واحد وذاكرات مختلفة
بالعودة إلى الحدث الواحد والروايات المختلفة عند تذكره لدى الشهود نفسهم، تقول شيلدون: “من المهم أن نعلم أن لكل فرد نمط ذاكرة شخصية مختلفة عن الآخر يحدِّدها الدماغ، لذا في المرة المقبلة التي يتجادل فيها شخصان، أو أكثر، حول ما جرى فعلاً لحدث تشاركا سابقاً في رؤيته، يجب التذكر أنه قد يكون كلاهما على حق”.
وتضيف إن التمثيل الذهني للحدث لم يتشكل إلا في اليوم التالي لحدوثه “بعد إعادة صياغته خلال النـوم”. ومن بين جميع التفاصيل التي كان من الممكن أن تختارها لهذا التمثيل، يمكنك أن تراهن على أنك لم تركز على التفاصيل نفسها التي ركَّز عليها شريكك في السجال.
أحد الأسباب الأساسية لذلك بسيطٌ للغاية. تضيف شيلدون: “نحن ندرك الآن وجود اختلافات فردية قوية في كيفية تذكر الناس. أكثر من ذلك، إن هذه الاختلافات محفورة في التركيب البيولوجي لأدمغتنا. بعض التلميحات في الذي يحدث تأتي من الناس الذين يفتقدون القدرة على تشكيل صور ذهنية في عين العقل. أو أن قدرتهم على تشكيل صور ذهنية تتفاوت عن قدرة الآخرين. لا غرابة في أن ذكريات هؤلاء الأشخاص تفتقر أيضاً إلى عنصر بصري، على الرغم من أنه يمكنهم تذكر الحقائق”. وتساءلت شيلدون وزملاؤها ما إذا كانت هذه الحقائق قد تساعد في فهم الطرق المختلفة التي يتذكر بها الناس الأشياء.
كلما استرجعنا واحدةً من ذكرياتنا نعيد صياغتها من جديد، فلا تبقى كما كانت، إنها قابلةٌ للطَرق والتشوّه والتغيير.
استكشافاً لهذه الإمكانية، طلبت شيلدون وفريقها من مجموعة من الناس إكمال استبيان حول كيفية تذكرهم لحدث معين قبل إجراء مسح لأدمغتهم. وبعد المسح الدماغي، وجد الفريق أن نمط ذاكرة كل شخص انعكس اختلافاً في الوصلات الدماغية، وأولئك الذين كانوا أفضل في تذكر الحقائق كان لديهم روابط بيولوجية أكثر بين الحصين وقشرة الجبهة الأمامية، حيث يحصل التفكير الاستنتاجي. وعلى النقيض من ذلك، كان لدى أولئك الذين لديهم “ذاكرة سيرة ذاتية” مفصّلة بشكل غني، صلة أكبر بين منطقة الحصين والمناطق المرتبطة بالمعالجة البصرية. تقول شيلدون: “إن المناطق المختلفة من أدمغة الناس يرتبط بعضها بالبعض الآخر بشكل مختلف اعتماداً على طريقة مقاربتهـم الطبيعية لعملية الاسترجاع”.
وإضافة إلى هذه التمايزات الفردية في الدماغ، هناك أسباب أخرى وراء وجود روايتين متعارضتين عن الحدث نفسه. إن كل شخص يسلط الضوء على الأشياء التي تهمه حقاً؛ ما يتذكره سوف يتأثر أيضاً بالذي كان يعده مفيداً، ولكل شخص تقييمٌ خاص يزن فيه أهمية الأحداث بما يفيده.
وتقول جوليا شاو: “وفقاً لعلم الذكريات الكاذبة، فإن كل ذكرياتك، حتى تلك التي تعتز بها، هي عرضةٌ للفساد والتشويه. حتى الآن، إذا كنت تحاول تذكر ما حدث بالضبط أثناء أي حدث شاهدته، فربما تحصل على بعض التفاصيل المهمة بشكل خطأ. إذا سألتُك في غضون 20 عاماً، فمن المؤكد أن أخطاءك ستكون أسوأ. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا التآكل في دقة الذاكرة، تُظهِر الأبحاث أنه من المرجّح أن تظل على ثقة تامة في أن ذاكرتك تعكس الحقيقة كاملة، فبينما تتلاشى ذكرياتنا، تبقى ثقتنا بها لا تهتز”.
السراب الإدراكي وسراب الذاكرة
يقول الدكتور بيو لوتو، عالم الأعصاب الشهير، إننا نرى من خلال تعلمنا كيفية تطور أدمغتنا لتحديد الأنماط، وخلق العلاقات من خلال التفاعل مع العالم الخارجي الحقيقي، إنها غريزة البقاء على قيد الحياة، “لم يتطوّر الدماغ في الواقع لرؤية العالم كما هو… تطوّر الدماغ لرؤية العالم كما هو مفيد بالنسبة له”.
إن ذاكرتنا البصرية لا تحتفظ بالصور بوضعها سجلاً للمعلومات فحسب، فما يعطي معنى للمعلومات هو ماذا نريد أن نفعل بها، وبماذا تفيدنا. لقد تطورت أدمغتنا لتخزين “كتاب قواعد” يرشدنا إلى كيف أن الأشياء يجب أن تبدو، وكيف نشعر بها، وما هي رائحتها، وغير ذلك من تجارب الماضي الحسية. وعلى سبيل المثال، إن الصورة التي نحفظها في دماغنا عن السطح الخشبي هي أنه نسيجٌ فيه حُبيبات، ونميل إلى تطبيق هذه المعرفة حتى عندما نرى سطحاً من البلاستيك الأملس مصممٌ على النمط الخشبي.
في هذا الوهم البصري البسيط والمدهش أعلاه، الذي قدَّمه عالم النفس الأمريكي روجر شيبارد في كتابه “انتبه إلى الرؤية”، دليلٌ آخر على أن نظام رؤيتنا يتأثر إلى حد كبير بتجاربنا السابقة مع العالم الخارجي، وبالتالي يتداخل مع الواقع دون أي وعي من جانبنا.
هذا السراب الإدراكي ناتجٌ عن حقيقة أن دماغنا لا يستطيع إلا أن يقوم بتفسير ثلاثي الأبعاد للصور التي هي بطبيعتها ثنائية الأبعاد، ويتصور أحجاماً مختلفةً جداً نظراً للبعد المنظوري، فكلما اقترب الكائن من مجال البصر، كبر حجمه على شبكتنا.
في ضوء ذلك، نستطيع القول إنه إذا كان الإدراك الذي هو عمليةٌ نشطةٌ آنية مبنيةٌ على استدلال حسي أمام أعيننا، انطوى على سراب كهذا، فإن احتمال الأخطاء والسراب عند استرجاع هذه المؤثرات من الذاكرة في اليوم التالي بعد توطيدها خلال النوم ستكون أكبر.
الذاكرة: النسيان والذكاء الاصطناعي
لسراب الذاكرة علاقةٌ عضويةٌ بالنسيان تتعلق بإحدى وظائف الدماغ البشري الأساسية. فبينما يعتقد كثيرون أنه حالةٌ سلبيةٌ مرتبطةٌ بانحطاط الذاكرة نتيجة عوامل بيولوجية أو غيرها -وهذا صحيحٌ إلى حدود معينة، خاصةً في الحالات المرضية- فإن الأبحاث العلمية تشير إلى غير ذلك في معظم الحالات الأخرى.
إن التطور في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والروبوتات في المستقبل، مرهونٌ بفهم أعمق لطبيعة وألغاز سراب الذاكرة.
للنوم علاقةٌ وثيقةٌ بالذاكرة وتخزينها، فخلاله يتم تشذيب الذكريات وتنقيتها وإحداث تغيرات كميةً ونوعيةً قبل ترسيخها وتمثيلها في الدماغ ونقلها من منطقة إلى أخرى.
ويقول بليك ريتشارد، من جامعة تورنتو في كندا، المتخصص في بيولوجيا الأعصاب والدماغ والذكاء الاصطناعي، وأحد المساهمين في دراسة واسعة في هذا الموضوع، نشرت حديثاً في مجلة “نيورون”، إن النسيان هو أحد وظائف الذاكرة الأساسية المتعلقة بأخذ قرارات ذكية للحفاظ على البقاء: “إن بعض الذكريات ليست فقط غير ذي صلة، بل إنها مدمرة لحياتنا اليومية”. ويتابع: “إن معنى التطور أن تكون فرداً يتخذ قرارات مناسبةً في بيئته لزيادة فرصه في البقاء على قيد الحياة، فإن ذاكرتك موجودة في نهاية المطاف لمساعدتك على اتخاذ القرارات، والتصرف في العالم بطريقة ذكية”. هكذا ومهما بدا القول غريباً، فإن النسيان هو أحد وظائف الذاكرة، وكل فرد ينسى بطريقته الخاصة المختلفة عن غيره.
ويضيف ريتشارد: “في عالم الذكاء الاصطناعي هناك ظاهرة ندعوها الإفراط التناسبي (over-fitting) حيث ينتهي الجهاز بتخزين قدر كبير من المعلومات تعيق قدرته على اتخاذ قرارات ذكية. ومن خلال فهم البيولوجيا العصبية للنسيان في الدماغ البشري، سنكون قادرين على تصميم أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على التفاعل مع العالم واتخاذ القرارات بالطريقة نفسها التي يقوم بها البشر”.
إن التطور في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والروبوتات في المستقبل مرهونٌ بفهم أعمق لطبيعة وألغاز سراب الذاكرة، ولكن إذا كان لسراب الذاكرة عند البشر وظيفة وجودية، فماذا ستكون وظيفة هذا السراب في الذكاء الاصطناعي؟.
مقال شيق جدا، اختيار موفق. مكتوب بطريقة جاذبة بالرغم من صعوبة الموضوع. المعلومات المقدمة مفيدة.
اتمنى لكم التوفيق الدائم في تقديم مواضيع جميلة ترفيهية وتعليمية.