مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2024

سجون اليأس الثلاثة
في حياة الشعراء وقصائدهم


حاتم الصكََر

الميل الغريزي إلى العزلة متأصل في النفس البشرية. وتحضر هذه الظاهرة حين نتأملها من جوانبها الثقافية في مجال الفكر والإبداع حيث يُفترض التواصل وتأمين وصول الرسالة التي قد تضيع، أو ترتد إلى نفسها منغلقة على ذاتها وذات مرسلها الذي ركن راضيًا إلى تلك الشرنقة التي التفّت على الذات، وحجبت الآخر عنه، وتحقّقت له أمكنة افتراضية يرشحها يأسه وخوفه وشكّه. إنه يلخص تجربته، ولكنه يعمم نتائجها ويمنحها موعظة وشكوى ولوعة، تتمظهر في الوحدة والعزلة والانزواء، وكذلك الغربة في أحد تأويلاتها الممكنة. لكنها كلها تقود إلى ذلك اليأس القاتل، والانقلاب على شهية العيش الغريزية؛ فالمبدع يخاطب ويرجو حياةً تلبّي ما لم يعثر عليه في واقعه. فانكفأ متشائمًا مما يتمثل له في سواه، لا سيَّما المتسلط من البشر والنفعي واللاهث وراء دنيويته.

يتخذ المعتزل هيئة البعيد عن الجماعة، رافضًا متبرئًا من خطاياها ونواقصها، يهندس عزلته ويأسه بعيدًا عن ثقافتها. وقد يبدأ من أصغر حلقات المجتمع، فيسفّه الانخراط فيها، وينأى عن مواصلة الوجود عبر سلالتها، برفض الزواج أو الخروج على الأسرة. وتكبر الدائرة لنجد ذلك في تمثيلات أوسع تلامس دائرة المدينة وسلطتها، والوطن كمكان، والآخر كشريك، والثقافة التي تنتمي إليها الجماعة كواقع مفروض.

سيكون المعتزل المطمئن إلى وحدته، علامة تشتغل في سياق منقطع عن الخارج، ولكن ضمن نسق داخلي لا يمكن تفسيره إلا من داخل سياقه. ففي العزلة يبني المعتزل جنات لا يراها الآخرون. عذابها لذة له وشفاء مما يتوقعه من الآخرين الذين رفضهم. وهنا تتلاقح الأفكار وتنضج. فليس من عزلة منعزلة. إنها دومًا مرتبطة بنقيضها اللازم لوجودها. وهكذا يظل بقوة يأسه، يناوئ خصومه الحاضرين في فكره وإبداعه. وهذا ما سنراه في تقليب شعراء دبَّ اليأس في قلوبهم وقصائدهم، فهؤلاء، إضافة إلى قدرة العزلة فيهم، شهود يروون سرديتها وتفاصيلها، ويكثفون حضورها في قصائدهم.

أبو العلاء المعري.. عزلة المفكر

عزلة محيرة تلك التي ركن إليها أبو العلاء المعري. لم يكتفِ بما فرض عليه عماه من عزلة بصرية، حاول أن يبررها بالاكتفاء عن رؤية الناس بتجنب صورهم المعبرة عن شرورهم، فأضاف عزلة بدنية تتجنب الاختلاط بالبشر والتواصل مع قلة من طلابه وقليل من زواره وأصدقائه، فكان رهين المحبسين ملازمًا لبيته لا يغادره. ثم أضاف إليها سجنًا أو محبسًا ثالثًا، وهو الحياة التي يعيشها، فتختنق روحه داخل جسده. ولخّص ذلك في واحدة من أشهر لزومياته:

أراني في الثلاثة من سجوني

              فلا تسأل عن الخبر النبيثِ

لفقدي ناظري ولزوم بيتي

              وكون النفس في الجسد الخبيثِ

كان طه حسين منصفًا حين وصف عزلة المعري بأنها عزلة فلسفية، إذ أضاف إليها محبسًا رابعًا، وهو فكرة المعري عن الحياة والناس؛ ليضاعف ظلام أيامه ولياليه بقلق خلّاق، أبعده عن الحياة بمعناها الميكانيكي أو بـ “عاديّاتها” اليومية.

وإذا كان المعري قد استراح لعزلته تلك وسجونه المتعددة، فإن نصوصه ظلت تشاغب وتشاكس على مدى تاريخ الشعر العربي. لقد رفض الزواج والإنجاب؛ خوفًا من أن يتعرض أبناؤه للمآسي التي واجهته هو نفسه، فشبَّه كتاب العرس أو العقد بكتاب حمله الشاعر الجاهلي المتلمِّس الضبعي الذي لم يدرِ أنه يحمل أمرًا بقتله:

وإنّ كتابَ المهر فيما التمستُه

            نظيرُ كتاب الشاعر المتلمسِ

وبولعه باللغة وتقليب المعاني في القصيدة، يفخر بأنه خلاف الناس لم يوصل عنده بلام حبل النسل حرف الباء. ولم تصله عدوى الزواج كما يفعل المتثائب بعدوى سواه:

تَواصلَ حبلُ النسل ما بين آدم

             وبيني ولم يوصَل بلامي باءُ

تثاءبَ عمرو إذ تثاءب خالدٌ

             بعدوى فما أعدَتنيَ الثُؤباءُ

وأوصى بإصرار على ذكر ما تجنب فعله، وكان جناية أبيه عليه:

هذا جَناهُ أبي عَليَّ

وما جنيتُ على أحدْ

وما ذاك إلا إطالته الفكر في الأحوال والمصائر. وما اكتشفه نظرًا لمعرفته بالخلق، بأن الأرض والحياة التي عليها بالضرورة، لن تطهر إلا بخلوها من الناس. لذا، آثر الابتعاد عنهم بعد أن يئس من صلاحهم:

هل يَغسِلُ الناسَ عَن وَجهِ الثَرى مَطَرٌ؟

            فَما بَقوا لَم يُبارِح وَجهَهُ دَنَسُ

وَالأَرضُ لَيسَ بِمَرجُوٍّ طَهارَتُها

             إِلّا إِذا زالَ عَن آفاقِها الأَنَسُ

فكانت أفعالهم وصفاتهم كافية لأن يزهد فيهم وينعزل عنهم. ويضيف سببًا وجوديًا لرفضهم، وهو علمه بالفناء الحتمي للكون:

وَزَهَّدَني في الخَلقِ مَعرِفَتي بِهِم

                        وَعِلمي بِأَنَّ العالَمينَ هَباءُ

وتمرده وعزلته ذات منحى فني. فقد قرن اعتزال الناس لمعرفته بطواياهم باعتزال فني أيضًا. وهذه سمة يجب الوقوف عندها، تلازم شعر المعتزلين، وتجسد رفضهم للسائد من تقاليد ثقافية في عصرهم، ويأسهم من الانضواء في ظل الجماعة.

وقد ترجم المعري ذلك الاعتقاد في نظم اللزوميات. فالتزم بما لا يجب الالتزام به في القوافي، والتعويص في استخدام غريب اللفظ وبعيد المعنى.

رامبو.. رسالة الرائي

يدوّن كتاب “سيرة آرثر رامبو” بوادر عزلته وتمرده قبل بلوغه العشرين، وسلسلة ترحاله متخفيًا. لقد أطفأ ضوء شعره ليظهر في الشرق الإفريقي وعدن عاملًا وموظفًا وتاجر أسلحة وبضائع.

اقترنت عزلة رامبو عن وطنه بهجرانه للشعر تمامًا. كان كمن يطلق النار على قصائده المقبلة، فضلًا عن إعدام تراثه الشعري الذي كتبه بغزارة قبل اعتزاله. فتوقف في أوج شاعريته، ونفوذ أثره في معاصريه الذين شهدوا انخراطه ضمن ما عرف بالشعراء الملعونين، لتمردهم على الشعرية الموروثة.

في رسالته إلى الشاعر بول دومني التي عُرفت برسالة الرائي، يقول مستبقًا عزلته:

“على المرء أن يكون رائيًا. عليه أن يجعل من نفسه رائيًا. فالشاعر يجعل من نفسه رائيًا عبر اختلال مدروس طويل هائل لكل الحواس، لكل أشكال الحب والألم والجنون. يبحث بنفسه، يستنفد كلّ السموم في نفسه ولا يحتفظ منها إلا بالجوهر”. ثم يستطرد متنبئًا بمصير الرائي حين يلتقي رؤياه، فيفنى كالصوفي. وكأنه يصف نفسه إذ يصف الرائي خارجًا على الجماعة:

“عذابٌ لا يوصف يحتاج فيه إلى كلّ الإيمان، إلى كل القوّة الخارقة، حيث يُصبح بين الجميع، المريض الأكبر، المجرم الأكبر، الملعون الأكبر، والعليم الأسمى؛ لأنه يدرك المجهول… وعندما، وقد جُنّ، ينتهي إلى ما يعمي بصيرته عن رؤاهُ، يكون قد رآها. فليمت في وثبته بالأشياء الخارقة التي لا اسم لها”. وهكذا كان موته أيضًا كما وصفه فرلين: “الميتة التي يريد، متوحشًا رائع التمدن”. رغم أن موته المجازي، كان حين أقلع كليًا عن كتابة الشعر، وهو في أوج فتوته ونُضج شعره.

تلك مقدمة لما سيؤول إليه رامبو. في هروبه المتكرر، وانقطاعه النهائي عن كتابة الشعر من دون أن يبرر ذلك. بينما كانت فرنسا الشعرية تنصّبه كحداثي رائد مغيّر للشعرية ذاتها.

المغترب الأبدي    

وتمثلت في حياة الشاعر صلاح فائق نصوص في العزلة التي عاشها طويلًا ولا يزال. لقد قادته خطاه بعد تجارب مؤلمة في العراق إلى مدن قريبة. لكنه آثر أن يبتعد إلى أقاصي الأرض. انعزل في جزيرة نائية في الفليبين سنوات، تحدث عنها في كتاب أعدَّه حواريًا إسكندر حبش، وعنوانه: “ذاكرتان وخمس مدن”. في المخيال وجد خلاصه الشخصي من رتابة القصيدة. حتى قصيدة النثر نفسها التي استمر في كتابتها اختيارًا واعيًا لم يتبع فيها نموذجًا ما. كان يبتكر في عزلته مصادره الذاتية؛ كتابة مختزلة تبدأ وتنتهي بخيال يسكنه ويقاسمه وحدته:

من بيت لم يعد في أي مكان

خطوت نحو المجاهل

أتشمس الآن بين قوارب هجرها سمّاكون يئسوا

في قصائده الأخيرة، يؤكد صلاح فائق منازلته لوحدته بخيال سريالي فذّ. إنه يكّلم أنهارًا ويدعو طيورًا وحيوانات وجبالًا ليقاسمها حياته. وقد توزع شغفه بوحدته وعناؤه منها على كلمات قصائده التي استقرت على الكثافة والقصر الشديد، واستثمار السرد في تدوين تفاصيل مما يتخيله، في صور صادمة ولغة عذبة:

قبل أعوام اخترتُ بلدتي بالقرعة

كان هلال ينقلُ ما بقيَ من الليلِ

إلى الجهة الأخرى من هذه الجزيرة

لا أحتاجُ الخروجَ من هنا. درتُ كثيرًا حول الأرض، التقيتُ في كل مكان بأحياء وموتى. من الموتى تعلمتُ لا أشكو ولا أعاتب. من الأحياءِ لم أتعلمْ شيئًا بعد.

عزلات

كان خليل حاوي أحد الشعراء التمُّوزيين الذين يؤمنون بالانبعاث. وربما هذا ما دعاه إلى أن يعنون ديوانه الأول، عام 1957م، بـ “النهر والموت”، فالنهر يرمز إلى الحياة بجريان مائه المتجدد، بينما الرماد هو ما تؤول إليه نهايات النار وشعلة الحياة.

وقد أهدى الديوان “إلى الطليعة المقبلة”. وفي الديوان قصيدة “الجسر” التي حظيت بقراءات نقدية ومدرسية كثيرة، واهتمام من القراء. فاشتهر قوله:

“يعبرون الجسر في الصبح خفافًا..

أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيدْ..

من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق، إلى الشرق الجديد”.

لكن ذلك الرهان خاب تمامًا. وأنهته تلك الطلقة من بندقية الصيد التي وجهها لنفسه منتحرًا عام 1982م. كان دوي الطلقة أشد من دوي قصائده التي حفلت بالرهان على الانبعاث والتجدد التمُّوزي الذي أخذ هيئة رمزية لافتة في شعره. بعد عقود من رهانه على جسر الماضي الممتد إلى الغد، سيعلن كما تقول ديزي الأمير: “حينما أسترجع قصيدة (الجسر) أشعر بالحزن، لقد أعطيتهم عمري وذهبوا عني. وإذا قرؤوا القصيدة أو تذكروها فلا يصرفون عليها سوى دقائق”.

وهكذا اختار ميتته، بعد أن انتابته طويلًا حالات من الانكسار النفسي والأزمات التي أربكت حياته. وتخلى، مثلًا، عن الزواج ثلاث مرات قبل أن ينهي مراسمه. وندرت كتابته للشعر. واقترن انتحاره باجتياح القوات الإسرائيلية لبيروت. وتم تفسير انتحاره على أساس الخيبة التي شعرَ بها. ولكن يبدو من تعليقات بعض القريبين منه، أنه عانى قبل ذلك كثيرًا. فذهب جهاد فاضل إلى القول: “خليل حاوي في الواقع، كان صورة مجسدة للتشاؤم الأسود واليأس المطبق، وكأن كل يوم إضافي يعيشه ينبغي أن يهنَّأ عليه؛ لأن المنتظر والمتوقع منه بالنسبة لعارفيه، كان على الدوام: الانتحار”.

ويتعقب النقاد ما كان يقوله حول مصيره، مستشهدين بقوله:

“فلأمتْ غير شهيدْ..

مفصحًا عن غصة الإفصاح في قطع وريدْ”.

زكريا محمد

صمت القصيدة

يصف الشاعر الفلسطيني زكريا محمد شعرَه بأنه “قريب جدًا من الصمت”. لذا، تأتي قصائده في السنوات الأخيرة وكأنها منفلتة من مكمنها الصامت. فتولد قصيرة لا إسهابَ فيها أو ترهلات. وهي بلا تسمية أو عناوين. هكذا يطلقها في فضاء شاحب لا تتبين معالم مرجعياته. لكن ليأسه تفسيرات، منها تفرغه للكتابة واعتزال العمل الصحفي، وإصابته بمرض أخفاه عن الآخرين حتى شفي منه. ودخل اليأس في قصيدته معززًا يأسه وقنوطه كفلسطيني عاش في عدة مدن منها: بغداد وبيروت ودمشق وعمّان، قبل أن يستقر في رام الله.

تتركب قصيدته من مزيج من هذا الترحال، ثم العزلة والانسحاب إلى داخل نفسه، ومشاكسة الحاضر في أدق مفاصله.

يمزج ذلك بغرابة تمتد من تسميات قصائده ودواوينه، حتى ملفوظه الشعري المحتشد بالمفارقات. فهو يعدّ نفسه تلميذًا للمعري الذي حاول كما يقول، أن يخلص الشعر من مهيجاته ومثيراته. فركن إلى الصمت ثيمة أساسية بمواجهة العالم. ووجد نفسه مثل الطائر الذي لا يغني:

ثمة طيورٌ لا تغني أبدًا.. الغناء للطيور الحمقى.

أمَّا طيور الصمت فتدير رؤوسها، بلا نأمة، بين الصخرة والحجر”.

وللحجر في شعره دلالة رمزية تجمع معنى الصمت وصلادة الحياة، فوضعَه في الأعمال الشعرية التي جعل عنوانها الجانبي: “هذي عصاي وهذا حجري”.

“إذا متُّ فافتحوا إيميلي. الباسوورد على ورقة فوق الطاولة. هناك ستجدون وصيتي وستمسكون بالغزال من قرنيه”.

تلك كانت إشارته اللافتة. لكن لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك سواه، وبأي كلمة سر محتملة؛ لأن شعره قلقُ ذاته المستبطنة للأوجاع كلها.

أجد كخلاصة أن أوجاع اليائس وكيفيات التعبير عنها، تخضع لهذا العصف اللغوي والصوري، ونشاط الخيال المفرط، ومحاولة إيجاد البدائل الزمنية والمكانية لتعويض فقْد الطمأنينة والسلام الروحي.


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “سجون اليأس لدى الشعراء”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *